مُفردة كُردُفانية عتيدة في نص غنائي نموذجي من الجزيرة ..

على الرغم من حقيقة التماثل والتشابه بين سائر اللهجات العربية الفرعية، التي يتحدث بها كثير من أهل السودان في مناطقهم، وداخل كياناتهم الثقافية والإثنية والجهوية المختلفة، والتي تشكل في مجموعها ما تعارف علماء اللهجات العربية المعاصرة، والمشتغلون بهذا الفن بصفة عامة، على تسميتها باللهجة السودانية الجامعة، ذات الخصائص والملامح المُميِّزة، التي تميزها مجتمعةً عن باقي اللهجات العربية الأخرى، تلك الخصوصية، وذلك التجانس الذي يجعل جميع الناطقين بالعربية في السودان، مهما اختلفت مناطقهم وتباعدت، ومهما تباينت خلفياتهم القبلية والإثنية والثقافية يسمون جميعهم ? على سبيل المثال: الإنسان “زول”، والسُنبلة “قندول”، والأثفية “لدِيَّة”، ومطحنة الحبوب الحجرية “مُرحاكة”، والقط “كدِيس”، والطبيخ أو الإدام “مُلاح” وهلمَّ جرَّا، ولا يختلفون في ذلك البتَّة، وعلى الرغم من أنَّ تلك اللهجات المناطقية أو الجهوية قد تأثرت كثيراً، وما زالت تتأثر بلهجة الوسط، أو ما اصطُلح على تسميتها ب “لهجة أم درمان”، أي لهجة الإذاعة والتلفزيون، والمدن والحواضر الكبرى، وأسواقها ومنابرها وفعالياتها الثقافية والإعلامية والفنية، إلاَّ أنَّ هذه اللهجات الجهوية والمناطقية، ما تزال تحتفظ إلى حد كبير، بالكثير من الخصائص والسمات التي تميز كل واحدة منها منفردة، على المستويات الصوتية، والنحوية، والصرفية، والمُعجمية أيضا.
فأنت إذا استمعت إلى ثلاثة متحدثين، يخوضون مثلاً، في عالم الزراعة وشؤونها في السودان، وقال أحدهم “حَبِلْ”، وقال الثاني “جَدْعة”، وقال الثالث “مَخمَّسْ”، فسيكون الراجح عندك في الغالب أن المتحدث الأول من شمال السودان، والثاني من الجزيرة أو البُطانة، والثالث من كردفان أو دار فور. وهذه المصطلحات الثلاثة هي عبارة عن وحدات تقليدية لقياس مساحات الأرض الزراعية في المناطق المذكورة على التوالي، أو متعلقة بها. أما الفدان فهو من متعلقات الحداثة قطعا، وقد جاء به الإنجليز، وأما الهكتار الفرنسي الأصل، و الذي هو عشرة الاف متر مربع، فإنه رغم انتقالنا نظريا للتعامل بالنظام العشري، إلا أنه يبدو أنه لم يستطع الدخول إلى أدمغتنا بعد.
أقول بعد هذه التقدمة لهذه الكلمة، إنني قد استمعت بإعجاب شديد في إحدى أمسيات الأسبوع الماضي، من خلال شاشة إحدى قنواتنا الفضائية، إلى أداء رائع قدمته مطربة شابة، لأغنية الحماسة الشعبية الخالدة “بتريد اللطام”، التي ألَّفتها الشاعرة “رقية بت ود امام” في مطلع القرن العشرين، في شقيقها البطل الشهيد “عبد القادر ود حبوبة”، عقب تنفيذ حكم الإعدام عليه بواسطة سلطة الاحتلال البريطاني الغاشم في عام 1908م، عقاباً له على ثورته المشروعة ضدها عامئذٍ.
ومن المعروف بالطبع، أنَّ هذه الأغنية الحماسية الخالدة، هي من التراث الغنائي الشعبي لمنطقة الحلاويين بالجزيرة، ذلك التراث الذي أضحى مُلكاً عاماً للأمَّة السودانية بأسرها، خصوصاً بعد أن أخرج هذه الأغنية إلى النور، ونشرها على نطاق واسع، وتعنى بها، المطرب الصداح الفنان الكبير الراحل “بادى محمد الطيب” عليه رحمة الله.
تأمَّل في هذا المطلع الجزل والقوي لهذه المناحة المؤثرة، بل الزفرة الثورية المدوية، الممجدة للبطولة، والرافضة للظلم والطغيان:
بتريد اللطام .. أسد الكداد الزام
هزيت البلد من اليمن للشام
سيفك للفِقَرْ قلاَّم
تمتدح هذه الخنساء السودانية شجاعة أخيها وبسالته قائلة له: انك تحب اللطام والصدام، يا أيها الأسد الرابض في عرينه بين أشجار القتاد الذي يسميه السودانيون ” الكَداد” في عاميتهم، وله ذكر في بعض قصصهم الشعبي أيضا. وتصف ذلك الأسد بأنه “يزوم” بمعنى أن صدره يصدر أزيزاً وزمجرة مخيفة. لقد هز فعلك البطولي في منازلة سلطات الاحتلال البريطاني البلاد كلها شمالا وجنوبا، وهو قولها من اليمن للشام على سبيل الكناية، وهي كناية عربية فصيحة أيضا. ثم تختم المقطع بوصف سيفه الماضي الذي هو “للفِقَر قلاَّم” أي أنه قطَّاع للقصَر جمع قصَرة وهي أصل العنق كما في الفصيح. والفِقَر هي جمع فِقُرة وهي أصل العنق في العامية السودانية، فكأنها مأخوذة من الفقرة من فقار الرقبة كما في الفصيح. ويُقال لها ” العَنْقرة ” يا هذا، وقد يسميها بعض بدو كردفان “الخَبِيرة” أيضا.
وفي القصيدة ذاتها قول الشاعرة:
الأسد النَّتَرْ بى جيهة الأبْقَار
لمّولو الأُرَطْ شايلين سلاح النار
أما قولها “الأسد النتر” فهو تعبير فني دارج، أو لازمة أسلوبية نمطية شائعة جداً في الشعر الشعبي في السودان. فهي تصف أخاها بأنه باسل فتاك مثل الأسد عندما ينتر أي يزأر. وأصل الكلمة واشتقاقها فصيح أيضا، لأنها من نثرة الأسد بالثاء المثلثة عوضا عن التاء كما في النطق العامي. والنَّتْرة أيضاً هي نوء أو “عيِنة” من أنواء الخريف بحسب التقويم الطقسي التقليدي في السودان، وهي لعمري نثرة الأسد نفسها كما في التراث الفصيح. وأما قولها بى جيهة الأبقار، فأغلب الظن عندي أنها تعني ب ” الأبقار”: جمع ” باقير ” لا بقرة كما قد يتبادر للبعض، وهي مجموعة قرى يحملن جميعهن هذا الاسم تقع في شمال الجزيرة، غير بعيد من ساحة المعركة.
لقد استوقفتني في نص هذه الأغنية الحماسية الخالدة في الواقع، مُفردة دهشتُ لوجودها في ذلك النص الجزل والرصين، الذي يمثل لهجة الوسط عموماً، والجزيرة خصوصاً في أسمى مجاليها. ذلك بأنَّ تلك المفردة قد ارتبطت عندي بلهجة شرق وشمال كردفان خاصة، وبصفة تكاد تكون حصرية، ولم أكن أتصور وجود تلك المفردة شديدة الخصوصية، في لهجات مناطق أخرى في السودان، مما عزَّز لديَّ انطباعاً قديماً، بأنَّ اللهجة العامية في السودان، ربما كانت أكثر تجانساً في الماضي مما هي عليه الآن في بعض الجوانب، على الرغم من اتجاهها العام نحو التجانس، خصوصاً من جراء تأثير لهجة أم درمان التي أشرنا إليها آنفا، ولكن ذلك مبحثٌ آخر.
قالت رقية بت ود امام:
دَيَّمْ في التُّقُرْ .. قال العِمير مسيوم
القوي والضعيف من عينو طار النوم
فما هو هذا ” التُّقُر ” بتشديد التاء مع ضمها، وضم القاف المعقودة نطقاً جرياً على طريقة السودانيين في نطق هذا الحرف، وتسكين الراء، الذي ديَّمَ فيه ود حبوبة ؟ وهل يا تُرى ما تزال هذه المُفردة معروفة ومتداولة في الحيز الجغرافي الذي أُلف فيه هذا النص ؟.
التُّقُر، وبعض الناس يقولون “التَّقُر” بتشديد التاء مع الفتح عوضا عن الضم، في لهجة شرق وشمال كردفان هو عبارة عن دوحة عظيمة من شجر السدر خاصة تنمو ممتدة على وجه الأرض في شكل بيضاوي أو قريبا من ذلك، أو هي مجموعة شجيرات من شجر السدر تنمو متشابكة أغصانها في مكان واحد ، وحينئذً تصلح لأن تكون معسكرا أو “تاية” للرعاة بسبب ظلها الظليل، وما يكون فيها عادة من ثمر النبق، في وقت نضوج النبق. ومن ذلك جاء قولها: ” دَيَّمْ ” أي اتخذ ” ديماً ” ومعسكرا لقواته في ظل ذلك التُّقر، وربما جاز أن يقال ” قيَّلْ في التُّقر ” من المقيل في رواية أخرى.
هذا، وقد كتبَ العلاَّمة عون الشريف قاسم، في قاموسه عن مادة ” تّقُر” ما يلي:
” تَقُرْ (غرب): مجموعة كثيفة من الأشجار، وتشغل حيِّزاً صغيراً ومنفصلا. قال الحمري: زارعنو في التَّقُرْ .. مِنِّو العين دَقُرْ .. والجمع تَقَّار ” أ. هـ ( قاموس اللهجة العامية في السودان، الطبعة الثانية، المكتب المصري الحديث، القاهرة ، 1985م ، صفحة 170 ).
وقد لاحظت بالطبع أن المؤلف قد نسب المادة إلى غرب السودان، بدليل أنه أثبت أمامها كلمة ( غرب ) بين قوسين، فكأنه لم ينته إليه أن اللفظة موجودة أيضاً ومستخدمة في الجزيرة، وفقاً لهذا النص الشعري الباذخ.
والراجح عندي أن الأجيال المعاصرة من أهل تلك المنطقة، شأنهم شأن غيرهم من كثير من مناطق السودان التي تعرضت لمتغيرات ثقافية وديموغرافية وبيئية كثيرة عبر العقود الماضية، ربما كانوا عرضة للاغتراب عن معاني كثير من الألفاظ التي كان يعرفها ويستخدمها أسلافهم، وربما ما يزال يعرفها بعض كبار السن من أهلهم، ولم تعد تعني لهم شيئا، وخصوصاً بالنسبة للشباب والناشئة منهم.
يدلك على ذلك، إنني في معرض إعدادي لهذا المقال، وقفت على نص منشور في أحد مواقع الانترنت لنص هذه الأغنية، جاء فيه البيت المعني هكذا:
ديم في الدقر قال العمير مسيوم .. الخ، بالدال غفلاً عن أي تشكيل، بدلاً عن التاء.
فمن الواضح أن ذلك هو شأن إنسان، ” لم تقع له الشغلانة” تماماً، رغم حماسته، وحسن نيته، ورغبته الأكيدة والمحمودة في توثيق هذا التراث العظيم وحفظه.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. البقر بضم الباء والقاف تستخدم في تصنيف وتسجيل الأراضي الزراعية مثلا البقر 12 شمبات التي زحف إليها العمران. السكني، ويمكنكم الرجوع الي

    احد مكاتب تسجيلات الأراضي في الخرطوم لمزيد من المعلومات عن هذه التسميات .

  2. الـأخ العزيز/

    لك التحية على هذه السياحة الذهنية في عاميتنا الغنية، لكن أود أن أقول لك أن كلمة تقر بضم التاء أو فتحها موجودة في معظم أنحاء السودان وهي متداولة حتى الآن في منطقة البطانة والنيل الأزرق، وهذا يدل على أن معظم العاميات العربية في السودان من مصدر واحد وثقافة واحدة، والعامية العربية في السودان تسيطر عليها مفردات الأبالة، وليس هنالك حاجة لئن نستدل بما كتبه العالم النحرير عون الشريف قاسم الذي بذل جهداً وافراً من أجل التوثيق للعامية السودانية، مع العلم بأنه ليس بسوداني خالص (يمني الأصل) ولم يتشرب من الثقافة السودانية بالقدر الكافي (بدليل أن أباه رحمه الله كان يرتدي الإزار إلى أن مات، وهي نوع من أنواع لباس اليمنيين سكان السواحل). عاميتنا واحدة ولم توجد عامية الوسط إلى منذ عهد قريب، وحتى عامية الوسط هي هجين لبقية العاميات السودان مع بعض التأثيرات من العاميات العابرة للحدود (مثل العامية المصرية والشامية وغيرها)، لأن امدرمان كمدينة تشكلت من أشتات من الناس من مختلف انحاء السودان، في حين احتفظ سكانها (القريات والجموعية وغيرهم) الأصليين بلهجاتهم إلى وقت قريب حين امتد إليهم أيدي التمدد الحضري المدعى بإدراج معظم أراضيهم ضمن الخطط السكنية غير المتناهية.

  3. بتريد اللطام .. أسد الكداد الزام
    هزيت البلد من اليمن للشام

    الكداد او الكدادة او الكدادي يطلق في كردفان ودارفور لنوع من الشجر من فصيلة الشوكيات يشبه الهشاب والمخيط ومايميز الكداد تجده متشابك جدا ولدرجة ان لاتستطيع ان تمشي من خلاله لذلك يفضلة الاسد لكثافته وتشابكله .

    وكلمة الزوم كما يطلقونها سكان دارفور وكردفان للعظمة اي رفعة الرأس – يقول لك جاء فلان اليوم زايم – واطلوقها في بعض الاغاني المشهورة والتي تغنت بها قبل يومين الفنانة الاسرائيلية راحيل اغنية–

    حليل ام زومة

    وورد في اسمائهم اسم الزايمة .. يطلقونها للانثى .

    شكرا مقال جميل

  4. البقر بضم الباء والقاف تستخدم في تصنيف وتسجيل الأراضي الزراعية مثلا البقر 12 شمبات التي زحف إليها العمران. السكني، ويمكنكم الرجوع الي

    احد مكاتب تسجيلات الأراضي في الخرطوم لمزيد من المعلومات عن هذه التسميات .

  5. الـأخ العزيز/

    لك التحية على هذه السياحة الذهنية في عاميتنا الغنية، لكن أود أن أقول لك أن كلمة تقر بضم التاء أو فتحها موجودة في معظم أنحاء السودان وهي متداولة حتى الآن في منطقة البطانة والنيل الأزرق، وهذا يدل على أن معظم العاميات العربية في السودان من مصدر واحد وثقافة واحدة، والعامية العربية في السودان تسيطر عليها مفردات الأبالة، وليس هنالك حاجة لئن نستدل بما كتبه العالم النحرير عون الشريف قاسم الذي بذل جهداً وافراً من أجل التوثيق للعامية السودانية، مع العلم بأنه ليس بسوداني خالص (يمني الأصل) ولم يتشرب من الثقافة السودانية بالقدر الكافي (بدليل أن أباه رحمه الله كان يرتدي الإزار إلى أن مات، وهي نوع من أنواع لباس اليمنيين سكان السواحل). عاميتنا واحدة ولم توجد عامية الوسط إلى منذ عهد قريب، وحتى عامية الوسط هي هجين لبقية العاميات السودان مع بعض التأثيرات من العاميات العابرة للحدود (مثل العامية المصرية والشامية وغيرها)، لأن امدرمان كمدينة تشكلت من أشتات من الناس من مختلف انحاء السودان، في حين احتفظ سكانها (القريات والجموعية وغيرهم) الأصليين بلهجاتهم إلى وقت قريب حين امتد إليهم أيدي التمدد الحضري المدعى بإدراج معظم أراضيهم ضمن الخطط السكنية غير المتناهية.

  6. بتريد اللطام .. أسد الكداد الزام
    هزيت البلد من اليمن للشام

    الكداد او الكدادة او الكدادي يطلق في كردفان ودارفور لنوع من الشجر من فصيلة الشوكيات يشبه الهشاب والمخيط ومايميز الكداد تجده متشابك جدا ولدرجة ان لاتستطيع ان تمشي من خلاله لذلك يفضلة الاسد لكثافته وتشابكله .

    وكلمة الزوم كما يطلقونها سكان دارفور وكردفان للعظمة اي رفعة الرأس – يقول لك جاء فلان اليوم زايم – واطلوقها في بعض الاغاني المشهورة والتي تغنت بها قبل يومين الفنانة الاسرائيلية راحيل اغنية–

    حليل ام زومة

    وورد في اسمائهم اسم الزايمة .. يطلقونها للانثى .

    شكرا مقال جميل

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..