المحارب.. رواية.. الحلقة العشرون

اجريت لاشرف العملية، وتم اخراج الشظايا التى استقرت فى كتفه.. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء حينما بدأ يفيق من آثار المخدر، نظر حوله وهو يحاول ان يتذكر اين هو، احس بثقل فى راسه وهو يجول بناظريه فى ارجاء العنبر الواسع فوقعت عيناه على رفيقه وابن مجموعته خالدا الذى كانوا ينادونه بالمدير، ولبرهة ظن انه بالمعسكر.. كان ينظر الى من حوله وكانه فى حلم، حاول جاهدا استعادة احداث الايام الماضية، الا ان جدارا كان قد نهض فى ذاكرته حجب عنه كل ما حدث قبل دخوله غرفة العمليات، ولما ان اعجزه استيعاب ما حوله ترك نفسه على ما كان عليها وغط فى سبات عميق لم يفق منه الا فى صباح اليوم التالى.
تواترت الاخبار من ارض المعركة تبشر بنصر وشيك، وفى الثامن من اكتوبر اى بعد يومين فقط من اجراء العملية لاشرف حملت الانباء انتصار القوات الحكومية ودخولها مدينة توريت، فاهتزت جدر عنابر المستشفى بالتهليل والتكبير.
بعد مُضى خمسة عشر يوما من تحرير توريت احس اشرف بالتعافى وان جرحه فى طريقه للاندمال، وبدأت آماله بالتعلق فى الرجوع الى اهله تزداد مع اقبال كل صبح جديد، الا ان ذلك لم يحدث، فقد انتكست حالته وبدت نذر غرغرينة لعينة تهاجم الانسجة الحية حول الجرح الذى بدأ فى التعفن، ظلت حالته تسوء يوما بعد يوم، مما حدا بالاخصائين الذين اشرفوا على علاجه ان يقرروا نقله الى مستشفى السلاح الطبى بام درمان.
وفى فجر الخامس من رمضان الذى وافق الثانى عشر من نوفمبر 2002 حط طائر المحارب بمطار وادى سيدنا، ومنه نقل الى مستشفى السلاح الطبى.
ان نفوسنا وان تعاظمت محنها، وتداعت عليها المصائب، وظللت آفاقها سحب الكآبة والحزن عند اشد ساعات الابتلاءات ايلاما، الا ان رياحا من السعادة تهب من حيث ندرى ولا ندرى فتبدد تلك السحب التى تراكمت حاجبة كل جميل فى الحياة.. نظر اشرف الى حامدٍ الصغير الذى لم يتخط عمره الاربعة اشهر وقد اشرقت عيناه بالدموع.. احساس غريب لم يعتمل فى نفسه من قبل وهو يقوم بضم ابنه الى صدره.. انه احساس الابوة.. ياااه، ياله من احساس.. احساس انساه الم الجرح، وارتفاع درجات الحرارة فى جسده المتهالك والتى لم تنخفض منذ عدة ايام رغم تعاطى المسكنات، احساس بعث فيه الامل بالشفاء رغم شعوره بدنو الاجل، فجرحه لا يفتأ يزداد تسمما وتعفنا، ولا امل فى علاجه الا ببتر طرفه، غير ان هنالك شبه اجماع من الاطباء على استحالة البتر من ذلك الموضع، انه فى انتظار اجله رغم تطمينات الاطباء، وهو يعلم ان لا علاج للغرغرينة الا بالبتر والبتر وحده.. ان رؤية حامد الصغير منحته املا جديدا فى ان يمتد به العمر.. فهذا الشبل هو بصمته فى هذه الحياة، ويجب ان يحيا ليرعاه.. انه صورة طبق الاصل منه.. عيناه.. انفه.. ذقنه.. دقة تقاطيع وجهه.. اصابع يده، انه لم ياخذ من امه (حنانا ) الا ابتسامتها ولون بشرتها، كان ينظر اليه بشغف وهو يفكر بتلك الصورة المضطربة، فينكب على تقبيله تارة، ويضمه الى صدره تارة اخرى.. ان حياتنا لغز كبير، لغز يصعب على المرء فك طلاسمه، فها هو الآن بقايا روح فى جسد متهالك.. طاف بذكرياته.. ذهب هناك عند المنحنى واخضرار الضفتين وسحرهما، كلنا الى زوال؛ النيل الذى يجرى منذ ملايين السنين.. قريته الوادعة التى تقبع عند المنحنى ببيوتها الطينية التى فضحت عوامل الطبيعة تجاعيدها.. اشجار النيم والسنط التى تكاد تلامس عنان السماء.. الازقة الملتوية التى تتداخل مع بعضها كانها متاهة لا بداية لها ولا نهاية.. الشارع الذى يشق القرية الى نصفين بدكاكينه ذات الطراز القديم التى قامت على جانبيه.. راى شبحه يقف امامه، وابتسامة شامتة ترتسم على شفتيه، اوشينا، اوشينا، اوشيييينا.. يا ود حامد انت ولد غير مؤدب، عبد الدائم القطيم، ولؤمه، ووحدته، وعزوبيته وحديث الناس عنه.. بئر الجن .. السكرية بت الجاك، وضحكاتها الخليعة.. ضحكة الهميم ود الضو التى يهتز لها جسده كله.. لم اختار متوكلوف هذا الطريق المؤدى الى القتل والحرق والدمار؟ ولم لطخ يديه بالدماء، وهو الالمعى الذى كم ذا تلطخت يده باصباغ المداد؟!! يوما ما سوف تفتك بك الوحوش فى الجنوب، ها هى الوحوش قد فتكت به ونهشت لحمه.. كان رحيل جدته السرة بت الرفاعى التى كان كلفا بها هو اول فاجعة تصادفه فى حياته، ماكان يعرف للموت قبلها هذا الحزن الذى تتمزق له نياط القلوب، فهو اى الموت زائر يطرق ابواب الناس بعيدا عنهم، فياخذهم الى ذلك المكان المهجور الذى تتوسطه شجرتا الحراز والدليب التين تتراءان للناس عند حلول الظلام كانهما وحشان اسطوريان نزلا من السماء ليفترسا من على الارض.. كان رحيلها محطة انتهى عندها قطار طفولته بكل ما للطفولة من براءة وشقاوة.. كان لموتها وهو فى تلك السن المبكرة اثرا بليغا فى رسم خارطة حياته في تالى سنين عمره.. فاجعة اخرى هزت كل جارحة فيه؛ موت رفيقه صلاح امام عينيه.. ضم اليه حامدا وقد تخيل نفسه فى جلسة اسرية تحت ظل نيمة عبد الكريم ذات التاريخ الضارب فى القدم، ووالده يتحدث اليه عن اخبار الحصاد الذى ازف وقته، لقد شهدت نيمة عبد الكريم ميلاده، وعاش تحت فيئها ازهى ايام طفولته مع جدته وصديقيه.. احساس متارجح مابين السكينة والاضطراب، سكينة كان قد افتقدها منذ ان اصيب، او فالنقل منذ ذلك اليوم الذى جيئ به الى المعسكر، وما ادراك ما المعسكر، شعر بالغبن والبغض وهو يرجع بذاكرته الى ذلك اليوم المشئوم، فأشار الى حنان التى كانت تقف خلف ابيها وطلب منها بصوت اجتهد بان يكون طبيعيا ان تاخذ منه حامدا. تحركت حنان الى الامام قليلا ووقفت قبالته وتناولت منه صغيرهما وهى تنظر اليه فى جزع وقد تحدرت على خديها دمعتان عبرتا عن ما جاس فى نفسها من حزن والم على ما آل اليه حاله.
كان كل من بالعنبر من الذين تحلقوا حول سريره قد اصابهم الجزع من الصورة المزرية التى كان عليها.. رقية امه التى انخرطت فى نوبة من البكاء ولم تتوقف عنها منذ رؤيتها له.. شقيقاه احمد وعلى.. خاله محى الدين.. عمه الصافى.. صديقه الهميم ود الضو الذى كان اكثرهم جزعا.. صهره عبد القادر الشيخ.. جاء كل هؤلاء لزيارته عندما علموا بوجوده فى المستشفى، فكان ان فوجئوا بالتغيير الكبير الذى طرأ على شكله، فقد شحب وجهه حتى انقلبت سحنته تماما، فاصبح لونه الفاقع السمرة اقرب الى الاسود، ونقص وزنه الى النصف تقريبا، انهم لم يروا ذلك الشاب الوسيم الذى يتفجر نشاطا وحيوية.. كانوا ينظرون اليه فى ذهول وقد الجمت الصدمة السنتهم، فلم ينبس احدهم بكلمة منذ دخولهم عليه.. لم يحتمل احمد رؤيته على هذا الحال فخرج وهو يجهش بالبكاء، وتبعه الهميم الذى انفجر باكيا هو الآخر، ولحق بهما الجميع ما عدا حنان، فقد بقيت بجانبه تغالب غصة سدت حلقها.. كانت تحبه اكثر من نفسها، وكان بالنسبة لها كل شيء فى الوجود، انه رئتاها التان تتنفس من خلالهما، وحبها له هو المحرك الاساسى لنبضات قلبها، ولولا وجوده فى حياتها لتوقف قلبها عن النبض.. انه العشق بكل آهاته ووجده وحرقة صبابته.. انه حياتها بكل تفاصيلها.. فاشرف ليس شريكا لحياتها وابا لصغيرها فحسب، بل هو حبيبها وابيها واخيها وصديقها، قالت بحزن وهى تجلس بجانبه وتمسح بيدها على جبينه بكل ما اوتيت من مودة؛غدا يندمل جرحك، وترجع الينا، ونعود نحيا حياتنا كما خططنا لها، رددت ذلك وهى تغالب دمعتان تحجرتا على مآقيها، ثم استطردت وقد اومضت عيناها النجلاوان ببريق التفاؤل والامل؛ وهذه المرة لن نكون لوحدنا، بل سيكون بمعيتنا حامد الذى سيضفى على عشتنا مزيدا من البهجة والسعادة.
اطرق هنيهية كانه تذكر ايامهما معا، ثم صعد ببصره نحو عينيها وقال بيأس: لا اظن ان ذلك سيحدث، لنكن واقعيين، الجرح فى موضع يستحيل معه البتر..
– ستعيش.. على الاقل ان لم يكن من اجلى، فمن اجل حامد.. واستطردت وهى تحاول طمأنته ومرددة بنبرة ايمانية عميقة؛ ما كان لنفس ان تموت الا باذن الله كتابا مؤجلا.
– اظن ان الله غاضب منى، لانه من المؤكد ان نفوسا بشرية ازهقت على يدى، والله سبحانه وتعالى يقول؛ ومن قتل نفسا بغير نفس او فساد فى الارض فكانما قتل الناس جميعا.
– القاتل الحقيقى هو من دفع بكم الى تلك الاتون، انتم مجرد ادوات، تؤمرون وتنفذون.. قالت حنان هذا ثم اردفت سائلة؛ هل كان بامكانك مخالفة الاوامر؟.
– من المؤكد كانوا سيصمونى بالخيانة، وبالطبع ليس لها فى قانون العسكرية عقوبة سوى القتل..
– ان الله عدل رحيم وهو اعلم بما فى نوفسنا، وهو القائل؛ ان تكونوا صالحين فانه كان للاوابين غفورا، وانا اشهد بانك من الاوابين.
استمرا فى حوارهما الايمانى، وطاف بهما الحديث حول ذكرياتهما، والايام الحلوة التى سعدا بساعاتها فى عشة الزوجية، فقصت عليه باستفاضة عن حالها فى غيابه، وكيف ان حياتها صارت جحيما لا يطاق وهو بعيد عنها، وان لا معنى ولا طعم لحلاوة حامد من غير وجوده، وانها كانت تحسب الايام بالثانية عندما كان بالمعسكر، وكيف جن حنونها حين سمعت بخبر سفره الى الجنوب، استطردت بنبرة حزينة؛ طفقت ابحث عنك فى خبايا نفسى، وفى وجوه الخلق، كنت اهذى فى صمت؛ كيف سمحت لهم انفسهم بان يفرقوا بين المرء وزوجه، وبين الاب وابنه؟ كنت اتساءل وانا فى حيرة من امرى افلا يحس اولائك الذين قادوكم الى تلك المحرقة بفداحة جرمهم.. كنت اراك فى كل ركن من اركان البيت، بل فى كل حركة وسكنة للكون.. ندت عنها تنهيدة وهى تواصل هذيانها وقد علت صوتها نبرة شجن فقالت بصدق؛ فكرت بجدية فى اللحاق بك، الا اننى عجزت عن ايجاد حيلة تحقق لى ما اردته.
قال لها بامتنان وهو يحدق فى عينيها الساحرتين؛ وهل كنتى ستفعلينها إذا ما تيسرت لك الوسيلة..
– فى سبيل رؤياك كنت ساصلك وان كان ذلك حبوا.. همست بذلك وهى تمسح بباطن كفها عن خدها الاملس دمعة جفلت من عينينها التين اومضتا توقا وحنينا وهياما.
انساه حديثها معه وجلوسها بجانبه آلامه، فتعلقت آماله بالشفاء، فقال يرجوها بنبرة متفائلة؛ دعوة الصائم لا ترد، ارجو ان لا تنسينى حينما ترفعى اكفك عند ساعة الافطار.
ــ وهل دعائى كله الا لك.. رددتها حنان وقد اودعتها كل ما فى قلبها من مودة تجاهه.
انقضى وقت الزيارة، فطلب اشرف من زائريه ان لا ينسوه من الدعاء، فودعوه بقلوب واجفة، ثم انصرفوا جميعهم الا شقيقه احمدا الذى بقى معه مرافقا طوال فترة وجوده بالمستشفى.
***
اشرقت شمس الاول من شوال الذى وافق السابع من ديسمبر من العام 2002، وما كادت ترتفع عن الافق قليلا حتى توارت محتجبة خلف غمامة ضلت زمانها لتظهر فى موسم ليس موسمها، انها بدايات فصل الشتاء، إذ تحتفل القرية بحصاد الذرة التى تعد الغلة الاكثر اهتماما لدى المزارعين، فهى المصدر الاساسى لغذاء الناس، وليس هناك ايام يسعد فيها المزارع كسعادته بأيام الحصاد، لاسيما حينما يودع محصولاته من ذرة وقمح وفول سودانى وغيرها مستودع غلاله.. فهذه الاشياء هى التى تمد المزارع باسباب الحياة، بل هى حياته جميعها، فهى التى تدفع عنه غوائل الايام من فاقة وعوز وخلافه.. وهى التى تمنحه الامان والطمأنينة.. انه يحيا بها، ولاجلها يحتمل حر الصيف وقر الشتاء، ولاجل نجاحها يبيت الليالى بحواشته اما ليروى زرعه لان ظروف الرى تجبره على ذلك احيانا، واما ليدفع عنه آفة الرعى الجائر الذى يقوم به الرعاة وهم يجوبون بانعامهم ليلا بحثا عن الكلأ، فيتركونها ترتع وسط الحقول كيف تشاء، كما يحدث فى حقول القطن مثلا، ان حياة المزارع هى فى ارضه وزرعه وضرعه، وايام الحصاد هى اعيادا يعيش ساعاتها بكل ما فى الاعياد من سعادة وبهجة وفرح.
جاء العيد ووجد الناس قد فرغوا لتوهم من حصاد الذرة، وفرغوا كذلك من دفن بذور القمح التى بدأت تشق بنواصيها اديم الارض بحثا عن الضوء والهواء، اذا سيكون العيد فى هذا الموسم عيدان، والفرحة فرحتان..
تقاطر الناس من كل انحاء القرية فى ازيائهم الزاهية الناصعة البياض وجلسوا فى عدة صفوف على البساط الذى فرش فى المساحة الواسعة المخصصة لصلاة العيد فى انتظار ان يعلن الامام عن اقامة الصلاة، الاطفال فى ملابسهم الجديدة يطاردون بعضعهم البعض وهم يحملون العابهم من مسدسات وبنادق والعاب نارية والفرحة تعلو وجوههم البريئة.. النساء فى دورهن تزينّ وزينّ بيوتهن.. الشوارع خلت من الناس حتى سكنت حركتها تماما، فالكل هنا حيث موئل افئدتهم وارواحهم منذ عشرات السنين.. ومن وسط المصلى المترامى الاطراف ارتفعت الحناجر بالتكبير وشق هديرها عنان السماء.. القلوب فاضت بنور الايمان فانعكس ذلك على الوجوه سكينة وانشراحا.. انها لوحة العيد التى ازدانت بكل الوان المسرة والفرح..
ارتفعت الشمس قليلا وهى تجاهد فى تمزيق استار الغيوم التى تراكمت حولها، فاسفرت على استحياء عن وجهها، غير انها لم تلبث ان عادت لتحتجب مرة اخرى.. ازف وقت الصلاة، فنهض الامام وصلى بالناس، وبعد ان فرغ من صلاته وقف يخطب فى الحشود، وفى نهاية حديثه وقبل ان يختم بالدعاء راى الناس الهميم ود الضو متجهم الوجه وهو يتخطى الرقاب شاقا طريقه صوب الامام الذى ارتفع حاجب الدهشة لديه والهميم يقترب منه.. دنا الهميم من الامام الذى كف عن الحديث وهو ينظر بريبة الى وجهه العابس.. دنى منه اكثر حتى وقف قبالته ثم همس فى اذنه بحديث ظهرت آثاره على الامام فى شكل سحابة حزن كست وجهه بصورة فجائية.
اندهشت الحشود لموقف الهميم، وهى تحملق فى الامام الذى تغيرت سحنته والجمت الصدمة لسانه، فاطرق الى الارض هنيهة قبل ان يرفع براسه ويعلن فى حزن وأسى وهو يترنح من هول المفاجأة عن انتقال اشرف ود حامد الى الرفيق الاعلى.
فجعت القرية برحيل اشرف كما لم تفجع برحيل احد قبله، وانقلبت فرحة العيد الى حزن طغى على كل الوجوه، فاختفت عبارات التهنئة التى يرددها الناس فى مثل هذا اليوم، واحتلت مكانها عبارات التعزية التى طفق الناس يواسون بها بعضهم البعض.
كانت الشمس قد دنت من كبد السماء حينما وُرِىَ جثمان اشرف التراب، واسدل الستار على حياة ذلك الشاب الخلوق الذى افنى عمره محاربا فى سبيل الخير والصدق والايثار.
[email][email protected][/email]