سياسات متخبِّطة…!

لم نكن نخطط لنذرف الدمع سخياً على الواقع المذري، الذي أصبح عنواناً لكل شيء في هذا البلد. فحينما جمعتني غرفة الدردشة بالفيسبوك مع زميل دراسة يقيم بالمملكة العربية السودانية، وجدنا أنفسنا ننتحب ــ دون تخطيط ــ على مشروعات ومكتسبات سودانية كانت ملء الأسماع والأبصار.
كنا نخطط لأن نناقش أمورنا الخاصة، من خلال موقع التواصل الاجتماعي الأشهر، لكن سرعان ما جرفنا الهم العام، حينما جاءت سيرة مشروع الجزيرة عرضاً. فما كان من صديقي إلا أن أرسل حزناً ــ غطى غرفة الدردشة ــ على ماضي المشروع، ليبدأ حوار إلكتروني عميق عن واقع الحال السوداني الذي أصبح منفراً لجيل الشباب، حتى أضحت الهجرة أمنية كل شاب في بلدي. وهو ما أعادني إلى حديث مفجع باغتني به شاب حديث التخرج. وذلك حينما قال لي: إن قصص النجاح المبهرة تبدأ دائماً من صالة المغادرة. أي أن باب الخروج أضحى مدخلاً لتحقيق الأمنيات والأحلام بعدما تعذر تحقيقها في تراب الوطن..!
وظني أن هذا ملخّص صادم وكارثي عن الطريقة التي يفكر بها جيل الغد، ممن كنا ندخرهم لرفعة هذا الوطن، الذي عانى من مغامرات الساسة، وأقعدته ترهات من يصنعون القرار التنفيذي والسياسي على مدار السنوات الماضية.
وبالعودة إلى المتغيرات الكارثية التي حطت على المشهد الاقتصادي والمعيشي في السودان، نجد أن المصيبة أكبر من تخيلات وتحليلات الخبراء الاقتصاديين. ذلك أن الدولار ظل يتجاسر على العملة الوطنية، حتى أنه لامس حاجز الاثنين وعشرين جنيهاً، ثم سرعان ما يتراجع إلى حدود دنيا؛ دون أن نسمع تبريراً اقتصادياً علمياً رصيناً يفسر الظاهرة. وحتى ما يُقال في سياق التحليل، لا يُشبع الرغبة في معرفة الأسباب الحقيقية وراء هذا التأرجح في سعر الصرف. بل ان الدولار ظل يصعد ويهبط بصورة فجائية، دون أن يفتح الله على كثير من من نسميهم ــ تجاوزاً ــ بالخبراء الاقتصاديين، بكلمة أو تبرير أو تفسير مقنع وحاذق.
المؤسف في الأمر كله، أن أعين صناع القرار الحكومي ظلت تتعامى عن حقيقة الأزمة، مع أنها مرئية ومنظورة، ويمكن لحل حاذق وماهر أن يصل إليها، ذلك أن تدهور الحالة الاقتصادية برهن على أن العلة تكمن في اتجاه الحكومة واعتمادها كلياً على البترول، مع اهمال غير مبرر للصادرات غير النفطية. مقروناً مع ذلك صعود حالات الفساد الإداري والمالي. حتى تحوّلت البلاد إلى دولة استيرادية وليست دولة منتجة، وهو ما تدعمه الأرقام القائلة بأن واردات السودان تصل إلى 9 مليارات دولار، بينما لم تتجاوز صادراته حاجز الثلاث مليارات دولار..!
لذلك ينبغي أن يبدأ العلاج من هنا، وتحديداً بالعودة إلى إنعاش المشروعات الزراعية، وهذا يحتِّم ضرورة إحياء مشروع الجزيرة الذي يُعد أكبر مشروع مروي في العالم، بجانب تفعيل مفوضية مكافحة الفساد، حتى نوقف نزيف الموارد بفعل التعديات المستمرة من قبل بعض النافذين وأبنائهم وأصهارهم.
الثابت أن كل الناس ــ جاهلهم ومتعلمهم ــ يدري أن بث الروح وضخ الدماء في مشروع الجزيرة، يمكن أن ينعش الاقتصاد السوداني، بعد أن عاش حالة من التدهور، جراء المغامرات والتصرفات غير المسؤولة. فإذا تم تنفيذ تلك الحزمة الإصلاحية مجتمعة، فستعود للاقتصاد بعض عافيته المفقودة. وستنتهي حالة النزيف والتراجع الذي طرأ على العملة الوطنية، ولكن للأسف الحكومة لا تريد أن تمشي في هذا المسار، مع أن فيه الحل الشافي للأزمة التي ظلت تستفحل يوماً بعد يوم.. فهل هناك تواطؤ ضد الوطن أكثر من هذا؟!!
الصيحة