جنوب السودان ما بعد (سلفا كير).. البدائل والفرص

السؤال الأهم والوحيد الذي يمكن أن يُطرح الآن في الشأن الجنوب سوداني، هو: ثم ماذا بعد ذهاب الرئيس سلفا كير؟ وهو سؤال الراهن السياسي في جنوب السودان بعد أن بات أمر إستخلاف (كير) في حكم المؤكد طبقاً للتحركات الدولية الأخيرة، ودخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بثقله من خلال الموقع الريادي للولايات المتحدة ودورها الطليعي المهم في رعاية دولة جنوب السودان.
ولا شك في أن جميع الخيارات مفتوحة في حالة جنوب السودان بعد تعافيها من الأزمة الحالية والبدء في تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه (الديمقراطية الثانية)، والتي ستقوم على أنقاض ديمقراطية (مجلس أعيان الدينكا) تحت رعاية الرئيس كير. فمن واقع دول الجوار الجنوب سوداني، نجدها قد تأثرت كثيراً من حالة الزعزعة والفوضى التي دخلتها دولة جنوب السودان، وكان نصيب السودان كبيراً ثم تليه أوغندا، إثيوبيا …إلخ فالحكومة الأوغندية والتي تدعم الرئيس سلفا كير منذ أكثر من (12) عام، عملت على ربط (سر) هذه العلاقة بالإستفادة من الإمكانات التي يتمتع بها جنوب السودان لجهة تعافي إقتصاديات بلادها، أما السودان وإن بدا تأثير اللاجئين الجنوب سودانيين عليه كبيراً، إلا أن ربط القوى الكبرى لملف النزاع في جنوب السودان بحكومة السودان، فيه شيء من الإجحاف والتحامل المُخِل بكل أسس العلاقات الدولية، حيث لا يمكن إيجاد دليل ملموس في دعم ورعاية السودان للمعارضة في جنوب السودان، في وقت دخلت فيها جيوش دول في القتال الدائر دون أي يتم توجيه أصابع الإتهام إليها كتدخل سافر في شأن دولة هشّة لم تصل بعد مرحلة التأسيس الكامل لهياكلها ومؤسساتها الحاكمة.
السودان ينتظر قراراً أمريكياً برفع العقوبات الإقتصادية التي قامت بفرضها على النظام الحاكم منذ 1997م وتبعها في ذلك عدد كبير من الدول الأوربية، وهو القرار الذي يقول حوله المراقبون بأنه وشيك الوقوع بعد (20) عاماً من حرمان السودان من فرص عديدة وعزله جزئياً عن الساحة الدولية ومنعه من عقد شراكات دولية مع بقية الدول بما يخدم مصالحه، لكن الإدارة الأمريكية نفسها يبدو أنها تتجه إلى إقحام السودان في حل نزاع جنوب السودان (قبل وبعد) رفع العقوبات الإقتصادية المرتقبة خلال الشهر المقبل، ما يمكن أن يضع جهود (الخرطوم) في سبيل بناء علاقات وطيدة مع (واشنطون) على المحك، فلا أحد يدري هل تريد الولايات المتحدة رفع عقوباتها المفروضة على السودان (بشروط تعجيزية) قد تعود بعلاقات البلدين إلى المربع الأول؟ أم أن الحكومة السودانية نفسها على إستعداد بالتضحية بلاجئي جنوب السودان وإرادتهم الحرة في إسقاط سلفا كير من أجل إرضاء (البيت الأبيض)..؟!
وللسودان بطبيعة الحال أهدافه وتطلعاته وآماله من أزمة جنوب السودان ولو لم تفصح عنها الإدارة السودانية، وذلك لأن جنوب السودان كدولة جارة تؤثر كثيراً على الداخل السوداني، من تبعات تدفق اللاجئين وضغطهم على موارد الدولة المستضيفة، والعلاقات الثنائية بين البلدين في ظل وجود هذه الأعداد الكبيرة من المواطنين الجنوبيين في السودان من (معارضين) لحكومة سلفا كير و(مؤيديها)، كما أن قيادة دفّة العمل الدبلوماسي بين البلدين يمكن أن تتأرجح ما بين التوتر والحميمية، مما قد يطيح بمصير اللاجئين الجنوب سودانيين ? كما أسلفنا، وقس على ذلك، علاقات جنوب السودان بدول الجوار الأخرى، أوغندا، كينيا وإثيوبيا. لكن الموقف السوداني الحذر في حقيقته يمكن أن نشبّهه بـ(نوع من المناورة في أرض الخصم قبل أن يضطر إلى الدفاع على أرضه بمرور الوقت).
لا يخفى على أحد أن القيادة السياسية والتنفيذية السودانية في قرارة نفسها تتوق إلى إعادة الجزء الجنوبي المبتور إلى حضن الوطن، لكن ليس قبل تحقيق تطلعات السودان ومصالحه وعودته إلى ملعب السياسة الدولية كفاعل مهم لا يمكن تجاوزه، وهذا أمر في غاية الأهمية ويجب أن لا يخفى على كل مراقب لأوضاع الأزمة في جنوب السودان وتأثيرها على السودان. فلكل شيء ثمنه في السياسة.
وبالعودة إلى سؤال المقدمة، فإن أمام الرئيس الأمريكي ترامب بعد منحه الرئيس كير فرصة أخيرة لإيجاد مخرج من هذه الأزمة، عدة خيارات يمكن أن يؤول إليها مستقبل دولة جنوب السودان، وإدارة الرئيس ترامب تعلم بلا شك أنْ ليس بمقدر الحكومة في جنوب السودان إحراز أي تقدم في الوقت الراهن أو حتى في الأوقات القادمة بدلالة تجربة إتفاقية تهدئة الأوضاع الموؤدة بواسطة عناصر النظام، كما أن إعادة تكرار التجربة العراقية لفرض التحول الديمقراطي (على الطريقة الأمريكية) بقوة السلاح وتأسيس إدارة دولية، قد تكلف الولايات المتحدة وقتاً طويلاً لإقناع المجتمع الدولي بتأطيرها وتطبيقها على حالة جنوب السودان، الأمر الذي يتطلب وجود إدارة وطنية مرحلية لحكم جنوب السودان على الأقل لفترة زمنية تسبق إجراء إنتخابات عامة تؤسس لبدء عهد جديد.
وعلى هذا؛ فإنّ خيار البحث عن بديل للرئيس كير سيكون مطروحاً بصورة عاجلة أمام الرئيس ترامب بعد إنتهاء المهلة غير محددة الأجل. فَمَنْ يمكن أن يكون رجل ترامب في جنوب السودان؟ ومَنْ مِنْ قيادات الدولة الوليدة بإمكانه إقناع (واشنطون) في هذا الوقت لإنقاذ جنوب السودان؟ علماً أن الرئيس ترامب لم يكتفِ بتوجيه نداء أخير لقادة جنوب السودان بضرورة التوصل إلى حل للصراع الدائر كفرصة أخيرة، وإنما كذلك عمل على إيفاد مندوب خاص لتقصي الأمر والجلوس إلى حكومة كير لدراسة الأزمة من كافة جوانبها. وهذه جدّية إفتقدتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما والذي تعامل مع الأمر وكأنه إعصار يضرب السواحل الأمريكية لأيام ثم لا يلبث أن ينقشع وتعود الحياة إلى طبيعتها…!!
هناك خياران للمجتمع الدولي والغرب عموماً في قضية مَنْ يخلف الرئيس كير؛ الأول هو رجل القوى الأوربية (الإتحاد الأوربي) وبتأييد حذر من روسيا، وهو الدكتور كوستيلو قرنق، الأكاديمي، المثقف، المتغرّب (المطّلع على الحضارة الغربية)، الذي عاش ردحاً من الزمان في ألمانيا الإتحادية. والسيد قرنق، لا يتمتع بمعرفة وثيقة على أحوال جنوب السودان في عهد الحركة الشعبية، فقد أخذ نجمه في السطوع منذ تفجّر الأزمة في جنوب السودان وقاد مبادرات مشهودة خلال الثلاث أعوام الأخيرة، أبرزها زياراته إلى معسكرات اللاجئين الجنوبيين في ولاية شرق دارفور السودانية، وظهوره المكثّف في صفحات الصحافة السودانية كبديل للرئيس سلفا كير على حكم جنوب السودان، غير أن الإجماع عليه من قبل النخب في جنوب السودان أمر غير مؤكد. لكنه مع ذلك يظل هو خيار أوربا الوحيد. أما الثاني ? والذي يعتبر الأهم ? فهو السيد تعبان دينق قاي النائب الأول للرئيس كير، وهو الألمع على الإطلاق من بين مَنْ يمكن أن يكون لديه طموح للرئاسة في الوقت الراهن، فالرجل عضو المكتب السياسي ومجلس التحرير القومي في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكان على عاتقه إدارة ملفات مهمة منذ بواكير النضال، وقاد خلال عامي 2014م و2015م جهود كثيفة لتوحيد فصائل الحركة الشعبية المتناحرة، وله الفضل في التوقيع على ما يُعرف بـ(وثيقة أروشا لتوحيد فصائل الحركة الشعبية 2014م)، وشارك خلال العام الماضي والحالي في إجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة رئيساً لوفد بلاده بصفته الرجل الثاني في الدولة، ما يعني أنه بإمكانه تسويق أهدافه والظهور كمنقذ للدولة الوليدة، ولعل ما أظهره السيد قاي حتى الآن من مرونة في التعامل مع ملف الأزمة، مما سيجعل من قادة العالم يسعون إلى تزكيته خلفاً للرئيس كير في الفترة المقبلة.
إن للحديث عن الرجلين مبرراته ومرتكزاته الأساسية في الحكم عن تجربتيهما، فالأول (قرنق) من إثنية الدينكا (الحاكمة الآن)، وهو الأمر الذي سيجعل قطاعات عريضة من إثنيته تؤيده لضمان بقاء السلطة في ذات الإتجاه، وبالتالي المواصلة في تحقيق الأهداف التي يدعوا لها (مجلس كبار أعيان الدينكا) من توريث حكم الدولة وتداولها داخل المجموعة فقط، وبالمقابل نجد السيد (قاي) الأكثر دعماً من قبل مختلف المجموعات الإثنية في جنوب السودان بما في ذلك (مجموعة الدينكا) نفسها، بإعتبار أنه آثر البقاء في جوبا لإنعاش روح إتفاقية (أديس أبابا 2015م) بعد تجدد الأحداث وعودة الأطراف المتصارعة إلى الحرب في منتصف 2016م، ومن ناحية أخرى هناك أطراف كثيرة خرجت عن إمرة الحكومة ودعت إلى معارضتها كالجبهة الوطنية الديمقراطية بقيادة الدكتور لام أكول، وجبهة الخلاص الوطني تحت قيادة الجنرال توماس شريلو وحركة الكوبرا التي يتزعمها الجنرال خالد بطرس، وغيرها من المجموعات المسلحة التي قد لا تجد أخيراً سوى السيد تعبان دينق قاي بديلاً للرئيس كير، وضامناً لإنتقال ديمقراطي سلس للحكم وتوحيد رؤى الجنوبيين حول أهداف مشتركة تؤسس لدولة حديثة ظلّت لأكثر من ست سنوات حلماً في مخيّلة كل مواطن.
هذا … أو الطوفان.

إستيفن شانج
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..