معراج سيدي الرئيس: ضياع الفشقة (2)

(حكاوي عن الديكتاورية وفساد الطغمة)
كانت اللوحة موضوعة على خلفية النادي.. بارزة للعيان تجملها صورة السيد الرئيس وهو يضغط على الصقر الجاثم على الاسبليطة .. جواره المستشار حسان حسان وخلفهما صورة للفرعون سنبيكاي واضعا يده ايضا على كتفه وضاغطا على مجسم صغير للاله بوخيس.. مكتوب عليها بخط كوفي باهت (اجتماع نادي البوص لمعالجة تفلتات الاحباش برعاية العمدة شيخ خريف الممثل السامي للسيد الرئيس في مدينة القلابات)..
تأمل خليفة بعشوم اللوحة الماثلة أمامه بتعجب واندهاش وقرأها عدة مرات.. قال مخاطبا جلال بوش باستعجاب من الذي اخطر العمدة باجتماع نادي البوص هذا..
رد عليه جلال بوش: انت تدري ان الحيطان لها اذان.. قلابات بلدة ليس بها اسرار..
كان العمدة شيخ خريف يعتلي المنصة.. على يمينه جلال بوش.. وعلى يساره الرجل الناقم دوما خليفة بعشوم ..بدا الاجتماع حيث القى شيخ خريف كلمة ضافية.. وطفق يؤكد حرص ومتابعة السيد الرئيس الظافر والمستشار حسان حسان لتفلتات عصابات الشفتة الغاشمة .. واكد ان السيد الرئيس سوف يتخذ تدابير حاسمة من اجل حماية وصون اراضي الفشقة وطالب السكان بالصبر والروية وضبط النفس والا يحتكوا بالاحباش حتى لا يعرضوا العلاقات الازلية بين الشعبين للخدش والكسر ..
بعده تناول مفتش الغابات جلال بوش الميكرفون وقال بصوت عال وهو يرقب تحركات فرد المخابرات المندس بين الجموع :اذا انتظرتم السيد الرئيس يحارب الاحباش من اجل ارضكم (الترابة في عيونكم) تناول قبضة من التراب كما فعل السامري وقذف بها ناحية الحشود ..
زغردت نسوة القلابات خاصة زمزم بنت عميان ضر..
واصل قائلا بحماس: لا السيد الرئيس ولا العمدة يستطيعان عمل شيء .. لدي مقترح سوف ادفع به .. اننا لا نقدر على الدفاع عن كل اراضينا حول القلابات.. فالنركز جهدنا على الحفاظ على (بلداتنا) الواقعة بين القلابات وبلاشورا الواقعة على ضفاف النهر.. علينا فقط ان ندافع عن هذه الاراضي بكل ما اوتينا من قوة.. اما الاراضي التى تقع شمال النهر نتركها مجبورون للاحباش.. في هذه الحالة سنحارب جميعا يوهانس مسفن .. وكما تعلمون ان يوهانس مسفن لا يملك سوى الاسلحة النارية الخفيفة ليس لديه مدافع.. اما نحن فمعروف لديكم ان السيد الرئيس يحرمنا من استخدام الاسلحة النارية حتى من اجل الدفاع عن (بلداتنا) وعروضنا..
وقال بحماس وهو يحاول اقناع الحشود بوجهة نظره: بخصوص (بلداتنا) التى تقع جنوب القلابات حيث توجد قيادة الجيش.. سنخسر بعضها بالتاكيد خاصة تلك التي تبعد عن القيادة كثيرا.. أما الاراضي التى تقع ضمن مدى الجيش اجزم ان نوقوسي كمانت لن يجروء على محاولة الاستيلاء عليها.. كما تعلمون اننا هنا في الفشقة يجب علينا نحن الاهالي ان نصد هجوم عصابات الشفتة بالمجهودات الذاتية دون مساعدة من العساكر.. الحالة الوحيدة التى نستطيع حسم كل عصابات الشفتة المتوغلة في (بلداتنا) ان تسمح لنا الحكومة بالتسليح حتى تكون المواجهة متكافئة ..
ثم نظر ناحية العمدة شيخ خريف وقال : اتسمح لنا سيدى العمدة.. باستعمال السلاح الناري..
تنحنح العمد وذكر ان حالة البلاد لا تسمح بتوزيع السلاح مخافة ان يتسرب الى الاحباش..
كان خليفة بعشوم المعترض الوحيد على الفكرة صاح وجه جلال بوش: ساذهب لاقاتل الاحباش وحيدا منفردا سانتصر او اموت.. نحن الان اشبه بحالة غزوات الرجال البيض لارض الهنود الحمر .. الاحباش مثل الرجال البيض الذين يريدون انتزاع اراضينا بقسوة وجبروت وقهر.. انا سأكون مثل المحارب الهندي الاحمر تاتانكا لوتاك..انا لا اثق في الاحباش ولا اثق في وعود السيد الرئيس.. لن اترك ارضي لياخذها الحبشي نوقوسي كمانت..
خرج خليفة بعشوم من الاجتماع مغاضبا وتوجه بخطي وئيدة الى راكوبة ست الشاي قديست اديسو التى اخبرته سابقا باختطاق عصابات الشفتة للراعي طرفة سعيد.. طلب منها التوجه ناحية خور ابو عنجة الفاصل بين القلابات والمتمة وبالقرب من الحدادين وبمحازاة شجرة تبلدية سامقة وقفا سويا لكن خليفة بعشوم احس بخطوات فرد الاستخبارات تقترب.. طلب هامسا من قديست اديسو ان تنتظره جوار اكسوم بار الذي يملكه التجقراوي رسوم علماية ..
انصرفت قديست اديسو باتجاه مغاير.. عبر خليفة بعشوم الخور ناحية مزرعة قووش قتيش ثم انزوى ناحية حي الفسق (جنقرة) وفي الدروب المتعرجة التي تتراص حولها شجيرات الجاتروفا ووسط ضحكات بائعات الهوى المغنوجة ورائحة (المار) النفاذة المتسللة بقوة الى الانوف وبين همهمات المساطيل الذين اخذهم الشاشمندى الى ما وراء عوالم سحب المامتوس.. ومع توارد صياح الاعراب المخمورون الذين جاؤوا لاحياء ذكرى الشيخ ود الارباب.. استطاع ان يناور فرد المخابرات ثم توجه الى اكسوم بار.. تحلقت الى آذانه الكلمات الحزينة لاغنية (سومانو) للمطربة ادن قبر سيلاسي.. تذكر معها ايامه الخوالي في (عبد الرافع) و(الموية الخضرة) و(الحمرة) ايام التيقراي المفعمة بالحياة وصخب الجنقو.. ايام حبه وعشقه لتقعستي ابرام.. وقتها كان يمسك الكلاشنكوف بفخر يرفعه عاليا ويقول بغرور مقلدا هكس باشا لو ان السماء سقطت لثبتها بهذا ولو ان الارض اهتزت ولزلزت لثبتها بحذائي..
كانت قديست اديسو تقف امام البار وهي تلتقط شذرات من اغنية سومانو وترددها بصوت خافت هامس.. ترقص بخفة مع الايقاع التيقراوي الجنائزي ..
وقف جوارها خليفة بعشوم وناولها مظروف به خمسة ورقات (500 بر) وقال لها : اذهبي الى زوجك درًجي مركوس قولي له يلتقيني مساء اليوم الساعة العاشرة ليلا.. عند ابو زعفة وان يجلب معه كلاشنكوف وذخيرة .. الكلاش سيكون ايجار لمدة اسبوع واحد فقط..
قالت له : اذن نويت مصادمة نوقوسي كمانت..
سألها: من اين عرفت..
ضحكت بغنج ودلال وقالت: قلابات ومتمة ليستا بهما أسرار..سمعت ان الشفتة طالبوا بمبلغ مائة الف جنيه نظير اطلاق سراح الراعي طرفة سعيد..
ما ان رات فرد الاستخبارات يقترب هرولت بعيدا وانزوت ناحية كنسية يوهانيس واختفت بيت شجيرات الجاتروفا وعبق الشورو وروائح الانجيرا..
وقف فرد الاستخبارات وجها لوجه امام خليفة بعشوم وقال له محذرا : اياك ان تثير البلبلة يكفي ما يفعله ابنك.. ما تفعله تهور سيجر الدولتين لحرب.. يكفي ما يسببه ابنك لحكومة سيدي الرئيس من متاعب..
قال له خليفة محذرا: تذكر انت وانا الان في دولة اجنبية .. لا تقل لي مواعظ وانا هنا.. ولا تجلب سيرة ابني على فمك ..ابني في بلاد اليانكي اذهب اليه لو تقدر..
انصرف فرد المخابرات متتبعا احدي الحسان الحبشيات المتوجهة ناحية حي (اديس علم) وبقي خليفة بعشوم وحيدا.. كان الاحباش على الطرقات يصيحون بدعابة : عفريتة عفريتة .
اخذ يرقص رقصة الحرب على انغام اغنية (سومانو) غير عابيء لمداعباتهم.. كان يقلد رقصات الهنود الحمر البواسل.. ويتخيل ان هناك وراء سحب المامتوس المخيفة التى تظلل بلدتي القلابات والمتمة.. يربض زعيم الهنود الحمر تاتانكا لوتاك. يشحذ همة المغلوبين على امرهم ويظلل بجناحين عظيمين المستضعين في الارض.. وهناك اعلى (جبل دولار) حيث شجرة (جزورينا) سامقة زرعها رجل قادم من العاصمة يقال له امجد الطايف.. تسكن روح تاتانكا لوتاك الكريمة تحتضن كل باسل شجاع لا يخاف من السيد الرئيس واعوانه..
كانت روح تاتانكا لوتاك هناك قبل سنوات مضت وبعد شهور قليلة من استلام خليفة بعشوم لرسالة مجيد الورتابي بُعيد المعراج العظيم للسيد الرئيس .. القدر جعله وجه لوجه مع شاب مغرور شتفاوي (قاطع طريق) يرهب الجميع دون هوادة او شفقة على امتداد بلاد القفشة.. كان خليفة بعشوم يستمع الى الراديو ليلتقط بعض اخبار انقلاب ال 27 ضابط.. موقع الحدث خور براميل قرب (جبل دولار) اثناء تعطل اللوري القادم من عاصمة الولاية حيث كان يحمل كثير من البضائع وقليل من الركاب..
في غمضة عين شهر الشفتاوي سلاحه نحو الركاب وتقدم ناحية خليفة بعشوم وقال بكل صلف: خليفة بعشوم سلمنى كل ما تملك من نقود.. لا تحاول ان تتهرب بصداقتك لوالدي.. والدي توفي.. سلمنى النقود واهرب بسلام..
جفل جميع ركاب اللوري بما فيهم العسكري ابو جاكوما المخول من قبل الحكومة لحراسة البضاعة والركاب.. كان خليفة بعشوم رابط الجأش لم يخف او يتزعزع.. كان مثل جبل دولار عزة وشموخا.. كان مثل شجرة الجزورينا قوة وصلابة.. كان مثل تتانكا لوتاك خيلاءا وغرورا..
(لن اسلمك النقود لم يعلمك والدك من هو خليفة بعشوم).. قالها خليفة بعشوم بازدراء ثم هجم ناحية نوقوسي كومانت الذي حاول ان يفرغ عليه رصاصاتة المحمومة لكن السلاح خذله.. ثوان معدودة كان السلاح ونوقسي كمانت في قبضة خليفة بعشوم العملاق ..
خنقه خليفة بعشوم بكلتا يديه الغليظتين حتى جحظت عيناه وشارفت روحه على الخروج الى سديم اسود مثل فاكهة الافاكاتو..
قال له وهو يهزه كانه اعواد سمسم يابس: نوقوسي كمانت ساعلمك ثلاثة قواعد.. القاعدة الاولى لا تعتمد على السلاح ربما يخذلك كما خذلك الان.. القاعدة الثانية لا تسيء اصدقاء والد المرحوم (نقا كمانت).. القاعدة الثالثة ستموت فطيسة ان صرت شفتاوي قاطع طريق..
اخرج بعشوم الرصاصات المحشورة داخل السلاح ووضعها في جرابه.. ثم دفع بالسلاح نحو نوقوسي كمانت :سامنحك الحياة اكراما لوالدك نقا كمانت اذهب ولا تنظر خلفك واذا فعلت كما فعلت امرأة لوط فلا تلومن الا نفسك..
اطلق نوقوسي كمانت ساقيه للريح ناحية كرنك عبد الكريم نيانج واندس وسط اشجار الكاكاموت والجوغات والطلح..
تناول خليفة بعشوم الراديو من على الارض ووضع المؤشر على اذاعة الثورة كان يسمع صوت السيد الرئيس المتحشرج وهو يقول: نعم لقد اعدمنا ل 27 ضابط فاذا كانوا بريئين سيدخول الجنة زمرا واذا كانوا مذنبين سيذهبون الى جنهم زمرا ليضاعف الله لهم العذاب..
[email][email protected][/email]