رقصة الصاغ الأخيرة

القصص والحكايات تتناثر في كل مكان وأبناء الجنوب أكثر تفاؤلاً وحيوية بعد زوال أسباب الاحتقان التاريخي. أكثر ما يلفت نظري هو تعامل أبناء الجنوب معنا كشماليين، فقد لاحظت أنهم أصبحوا يتعاملون كمواطنين أجانب في دولة مضيفة، قدمت لهم الكثير في زمن محن لا يسر ذكرها، «جاتكوث» يقول تواجده بالخرطوم برضا الشعب الشمالي وليس (رجالة) وان الشمال استضافه وقدم له الكثير ولكن الشمال دولة اخرى على كل حال، والجميع في الشمال ينتظر ويراهن على الساحر علي عثمان محمد طه في نيويورك وينتظرون نتائج زيارته وتبعاعت ما بعد الزيارة حتى يعيد طه ترتيب الأوراق ويقنع أبناء الجنوب بالوحدة والمشاريع الرائدة والخبز والعسل إذا استمر السودان موحدا، والطرفة في شوارع الخرطوم ابنة المحنة، تقول الطرفة (الشماليون يسخرون من الجنوبيين وأبناء الجنوب يعرفون ذلك، ولكن أبناء الجنوب يسخرون من الشماليين وهم لا يعرفون ذلك).
علي عثمان حسب ما خطه قلم غازي صلاح الدين (أكثر سياسي سوداني يعرف تعقيدات المجتمع السوداني) وهذه شهادة كبيرة بالتأكيد من رفيق أربعة عقود من الزمان.. اعتقاد أن علي عثمان ساحر يسيطر أيضاً على عدد مقدر من المثقفين وصناع الرأي العام ومن بينهم رئيس تحرير هذه الصحيفة الأستاذ عادل الباز.. علي عثمان وقف قبل أيام منافحاً عن موقف الشماليين نتيجة للتفويض الذي حظيَ به من المؤتمر الوطني (المؤتمر الوطني حصل على هذا الحق من اتفاقية نيفاشا وليس بالانتخابات الأخيرة مثلما أصبح يردد بعض متحدثيه). أهم القضايا التي أثارها علي عثمان أمام المجتمع الدولي في نيويورك هي قضية المحكمة الجنائية الدولية ورفع السودان من القائمة الأمريكية للإرهاب، وإعفاء ديون السودان، وبملاحظة صغيرة نعرف أن هذه المشكلات من صنع المؤتمر الوطني نفسه ولا علاقة لها بمشكلة الجنوب التي تطاول عهدها وحيرت جميع حكومات ما بعد الاستقلال. فالمحكمة الجنائية مرتبطة بقضايا دارفور التي ظلت مناورات المؤتمر الوطني طابعها الأساسي وما تزال. وموقف الحكومة السودانية فيما يتعلق بالإرهاب لديه جذور طويلة يعرفها أبناء الحركة الإسلامية بشقيها يوم كانت دولتنا مفتوحة على مصراعيها أمام المجموعات الإسلامية المقاتلة، يومها تمكنت مجموعات ضغط يمينية ومنظمات يهودية وقوة معارضة مقدرة من داخل السودان وخارجه، من مطاردة الحكومة السودانية ومحاصرتها ووضعها في قائمة الدول الراعية والمصدرة للإرهاب، ومن ثم أصبح من الصعوبة بمكان رفع اسم السودان من قائمة الدول الإرهابية وأصبح على اللوبيات الناشطة ضد الحكومة السودانية بذل مجهود قليل لإبقاء السودان في القائمة السوداء متى ما نهضت الحكومة ببذل حيل تقليدية لرفع اسم السودان من القائمة ولا سيما أن الحكومة ظلت طوال عقدين من الزمان تجمل وجهها وترفض إجراء أي تغييرات جذرية وما الانتخابات الأخيرة ببعيدة عن الأذهان.
الديون التي تراكمت في السنوات الأخيرة رغم وجود النفط لأول مرة في ميزانية السودان منذ الاستقلال سببها الأساسي جبهات الحكومة السياسية والعسكرية وتنظيمها المتضخم الذي ابتلع جل الميزانية وبالتالي هي علة إنقاذية واضحة.
يمكننا القول بكامل الثقة إن رجل الشمال الذكي العارف بتعقيدات السياسة السودانية لم يحمل معه سوى هموم وهواجس المؤتمر الوطني وحكومته متناسياً انه مثل أمام المجتمع الدولي كممثل لشمال السودان بتفويض من حكومة الخرطوم. والرهان على تعديل علي عثمان لنتائج العملية السياسية المتحركة هو لعبة صفرية يمكن أن نكسب فيها الوحدة أو نخسر الوطن وأكثر الأشخاص مغامرة لا يمكن أن يغامر بالوطن.
ما يفعله علي عثمان اليوم فعله الصاغ صلاح سالم أمس (حقائب مليئة بالنقود ولجان لدعم الوحدة تملأ الأرجاء بالصخب ورقصات بين أبناء القبائل في جنوب السودان) وفي الوقت الذي مدد فيه الصاغ صلاح سالم ساقيه ظناً انه أكمل مهمته المقدسة لتوحيد وادي النيل كان البرلمان السوداني يصوت للاستقلال الكامل من تحت قبته.
يشخص طه ببصره المفاوض الحركة الشعبية فلا يجد قرنق المفاوض الشاهق الطموح الممتلئ بجسارة حكم السودان شماله وجنوبه، قرنق مات وماتت معه آمال السودانيين في السودان الموحد وآمال طه في أن يخلد في الذاكرة السياسية والوطنية بأنه رجل الحرب والسلام والتسويات الكبيرة، رحيل قرنق حمل معه النصوص غير المكتوبة حول التحول الديمقراطي والتنمية في منطقة أبيي وغيرها من أحاديث كواليس التفاوض التي بقيَ نصفها مع طه مثل نصف ورقة عملة أو نصف خارطة لكنز الوحدة لا تكتمل إلا بنصفها الآخر، ونصفها الآخر لسوء الحظ يرقد خارج مدينة جوبا يحرسه نصب تذكاري يظلله الغمام وحراس الجيش الشعبي ومئات المتعبين الذين خرج هو ثائراً من أجلهم. نعم… علي عثمان سياسي ذكي للحد البعيد ومع ذلك لا يمكننا المراهنة على هذه الصفة عندما يكون الأمر هو أمر كل الوطن.

محمد الفكى سليمان
الاحداث

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..