المعارضة و توهان البوصلة السياسية

المعارضة و توهان البوصلة السياسية

من باب ممارسة فضيلة النقد الذاتي لتقييم وتقويم الأداء ، أعتقد أن المعارضة ساهمت بصورة أو بأخرى في هذا الوضع المزري وما آلت إليه البلاد من تردي في كافة المناحي السياسية والإقتصادية والتنموية بسبب سياسات المؤتمر الوطني الفاشلة ، فالواجب الوطني والأخلاقي يُحتِّم على المعارضة تغيير هذا الوضع البائس كون المؤتمر الوطني هو الذي أنقلب على شرعيتها الديموقراطية ، لكن في تقديري أن المعارضة تغط في سُباتٍ عميق ، فالأحداث تتسارع ولم نرى منها سوى ردود الأفعال وبيانات الشجب والإدانة لما يحدث في السودان ، لقد أصبحت المعارضة خارج دائرة تأثير الفعل السياسي فهي لا تمتلك زمام المبادرة ولا تساهم في صناعة الأحداث التي تدور في البلاد ، حتى وإن لم تكن شريكة في الحكم إلاّ أنه بغيابها وضعف فعاليتها في المشهد السياسي السوداني وتركها الملعب خالياً للمؤتمر الوطني هو الذي قادنا إلى هذا الوضع المأساوي ، ولولا ضعف المعارضة لما استمر النظام حتى الآن ، أي نظام حكم في العالم ما لم تكن له معارضة قوية وفعّالة تمارس عليه ضغوطاً على كافة الصُّعد لكي لا يحيد عن الجادّة لن يستقيم الحال أبداً.
منذ تجربة التجمع الوطني الديمقراطي في بدايات التسعينات لم تصمد تحالفات المعارضة بسبب الخلافات الضيقة والغيرة الحزبية وإنعدام الثقة بينها دون النظر الى مصلحة الوطن والمواطن لتخليصه من كابوس الإنقاذ الجاثم على صدر الشعب على مدى ربع قرن ونيف ، كان تحالف المعارضة تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي هو العصر الذهبي لها حيث شكلت خطراً حقيقياً على النظام لإمتلاكها زمام المبادرة ونجاحها في منازلة النظام عسكرياً وقادت حملات خارجية أدت الى تعريته دبلوماسياً وسياسياً ، لكن بعد إنفراط عقد التجمع الوطني نتيجة لخروج معظم الأحزاب المكونة له بدءاً من خروج حزب الامة في عام 1999 وتوقيعه إتفاقية نداء الوطن مع الحكومة ، وتوقيع الحركة الشعبية لإتفاق السلام الشامل عام 2005 ومشاركتها في الحكومة ، ثم إتفاق القاهرة في عام 2005 بين باقي مكونات التجمع الوطني والحكومة السودانية وإنتقال المعارضة للداخل ومشاركة معظم أحزاب التجمع في الحكومة نتيجة لهذه الإتفاقيات ، ثم إتفاقية أبوجا في عام 2006 بين الحكومة وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي حيث شاركت الحركة في الحكومة بموجب هذه الإتفاقية ثم خرجت منها لاحقاً.
هذا التذبذب في المواقف وغياب الرؤية السياسية لدى المعارضة أدى إلى سيطرة المؤتمر الوطني كلاعب وحيد في الساحة بدون أدوات ضغط أو مشاريع بديلة للمعارضة ، ثم جاء تحالف قوى الإجماع الوطني الذي تكون من معظم أحزاب التجمع الوطني الديموقراطي بالإضافة الى حزب المؤتمر السوداني والمؤتمر الشعبي، لكن سرعان ما أختلفت أهداف قادة التحالف وتباينت رؤاهم بشأن التعامل مع النظام ، فبعض الأحزاب تبنّت الدعوة للحوار مع النظام وتشكيل “نظام جديد” بما فيه المؤتمر الوطني ، أي بمعنى “الهبوط الناعم” ويقود هذا التيار حزب الامة القومي ، بينما تبنَّت أحزاب اليسار “الحزب الشيوعي وحزب البعث” خيار “إسقاط النظام” ، نتيجة لهذا التباين في الآراء خرج حزب الامة القومي من هذا التحالف ، وكذلك المؤتمر الشعبي الذي خرج باكراً مُسبباً خروجه بتداعيات ما حدث للأخوان المسلمين في مصر ومواقف قوى الإجماع التي أيَّدت الخطوات التي أتخذها السيسي ضد الإخوان المسلمين ، ثم جاءت محطة إعلان باريس والتي قادت إلى تشكيل تحالف “نداء السودان” الذي ضم (حزب الامة القومي ، الحركة الشعبية .. قطاع الشمال ، حركة تحرير السودان جناح مناوي ، حركة العدل والمساواة بقيادة د. جبريل ، حزب المؤتمر السوداني) ، حيث تبنَّت قوى نداء السودان خياران للتعامل مع الحكومة ، الخيار الأول هو الحوار وفق خارطة الطريق الأفريقية ، وفي حال فشل الحوار الإنتقال إلى الخيار الثاني وهو الدعوة لإسقاط النظام “بإنتفاضة شعبية” .
في مارس 2016 قامت الآلية الافريقية رفيعة المستوى برئاسة ثابو امبيكي بتوجيه الدعوة لطرفي الحوار “الحكومة” و”قوى نداء السودان” للتوقيع على خارطة الطريق الأفريقية ، حضر الوفد الحكومي ووقع على الخريطة من جانب واحد بينما غاب ممثلي نداء السودان لتحفظات على بعض بنود خريطة الطريق ومطالبتهم بإضافة ملحق لخريطة الطريق لضمان تنفيذ المؤتمر الوطني ما سيتم الاتفاق عليه ، رفض المؤتمر الوطني إضافة هذا الملحق وأخيراً بعد مشاورات من قبل ثابو أمبيكي مع قوى نداء السودان وقعوا على خريطة الطريق في أديس ابابا في أغسطس 2016، لكن لم يحدث تطور في هذا الشأن نسبة لمراوغة المؤتمر الوطني وعدم جديته في الحوار وإكتفاءه بحوار الوثبة الذي عقده في الخرطوم وما خرج به من توصيات شكَّل على إثرها حكومة ما يُسمى “بالوفاق الوطني” وهي حكومة محاصصة بين الأحزاب التي شاركت في حوار الوثبة ، والسؤال هنا للمعارضة لماذا لم تُفعِّل خيار “الإنتفاضة الشعبية” لإسقاط النظام؟ ام انها كانت مناورة سياسية للضغط على المؤتمر الوطني للجلوس على طاولة الحوار؟
هذا يبين لنا مدى ضعف المعارضة وعدم إمتلاكها لرؤية ومشروع إستراتيجي لمواجهة النظام حيث نجد أن لكل حزب أجندة سياسية تحت الطاولة علاوة على فقدانهم الثقة في بعضهم البعض والنظام يدرك هذا جيداً لذلك يلعب على هذا الحبل.
أخيراً جاءت الضربة القاضية لقوى نداء السودان بإنشقاق الحركة الشعبية الفصيل الرئيسي في التحالف حيث انقسمت الحركة الى جناحين أحدهما بقيادة عبدالعزيز الحلو من جهة والآخر بقيادة مالك عقار وياسر عرمان من جهة أخرى مما قاد الى شلل داخل قوى نداء السودان حيث فشلت جميع محاولات قادة نداء السودان لرأب الصدع بين قادة الحركة رفاق الأمس أعداء اليوم.
نتيجة لتخبط المعارضة وغياب الرؤية السياسية لديها ، فقد تجاوزتها الأحداث الأخيرة فيما يختص برفع العقوبات عن السودان ، حيث سجلت غياباً دبلوماساً وسياسياً وربما لم تتواصل مع الطرف الأمريكي لتوضيح وجهة نظرها فيما يجري وضرورة إدراج النقاط التي تهُم الشعب السوداني مثل مطالبة الحكومة بإحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير ووقف الحروب في دارفور وكردفان والسلام العادل والشامل والتحول الديمقراطي وتضمينها مع المسارات الخمسة كشروط لرفع العقوبات ، لأن النقاط التي تم التفاوض حولها هي مرتبطة بالمصالح الأمريكية في الدرجة الأولى ولا تخُص المواطن السوداني ولا تُخاطب همومه ومشاكله الداخلية ، ونحن هنا لا نلوم أمريكا لأنها تعمل للمحافظة على مصالحها لكن تقصير المعارضة وغيابها عن الساحة هو الذي جعلها خارج اللعبة وبالتالي الضحية هو المواطن المغلوب على أمره ، لأننا لا نرجو من المؤتمر الوطني أن يقف مع حقوق الشعب السوداني ، فهو الذي صادر حقوقنا وشردنا وقادنا إلى الحال البائس الذي نعيشه اليوم ، فهو من أجل الحفاظ على كرسي السلطة مستعد ان يقدم أي شئ تطلبه منه أمريكا والعالم الغربي.
هكذا تسير المعارضة في رمال متحركة وبحر متلاطم الأمواج في ظل متغيرات إقليمية ودولية تحتاج إلى قراءة عميقة ووضع إستراتيجية للتعامل مع هذا الوضع وإلاّ ستجد نفسها خارج المعادلة السياسية تماماً ، والسؤال المُلِح هنا هل ستتوحد المعارضة حول مشروع وطني وتلتقط القفاز لإخراج هذا الوطن من وهدته؟

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..