أوتار بركة ساكن في “موسيقى العظم”

كيف يتم تركيب العالم والحرب عبر السرد واللغة السردية؟
” كلما نسأل سؤالاً جديداً, فإننا نصنع بذلك نسخة جديدة ممكنة من الحياة.” (ديفيد ابستون)
“الكتابة مثل النهر فانك لا تدخلها مرتين.” (عبد العزيز بركة ساكن)
شرق السودان، حيث نشأ الكاتب، وغرب السودان، في مجموعة “موسيقى العظم”, كما في غالب سرود الكاتب، هما البؤرتان المكانيتان اللتان تنبثق من خلالهما أسئلة السرد الأساسية وتشعباتها. الشرق والغرب ونزف الهوامش وأزمنة الحرب المعقدة هم عناصر أساسية في لوحة الكاتب؛ عناصر تشكل, في مجملها, اللوحة السردية لبركة مثلما تشكلها اللوحة السردية في آن. ولابد أن ينظر للتهميش هنا كما يتشكل داخل هذه اللوحة السردية، لا كما يتبدى في هيئة النظرية أو الممارسات السياسية الآنية أو الدائمة.. بما أن زاوية المبدع تختلف من زاوية السياسي, بطبيعة الحال, ولكنهما قد تتماسان في كثير من الأحيان. فقارئ بركة مثلا يمكنه أن يلمس تماسات وتقاطعات عديدة. ومن ذلك, الهويات الشخصية القوية والروح المستقلة لمهشمي بركة, والتي تستدعى رؤية المنظر البرازيلي باولو فيريري من أن على المهمشين والمسحوقين أن يكونوا قدوة أنفسهم وأن يعتدوا بذواتهم المستقلة وألا يستدخلوا في أدمغتهم الصورة الذهنية النمطية التي يحاول ترسيخها فيهم المستغِلين والمستعمِرين والمضطهِدين أنفسهم “The oppressed, having internalized the image of the oppressor and adopted his guidelines, are fearful of freedom? The oppressed must be their own example in the struggle for their redemption? . إن هذا المنحى مشاهد وملموس في شخوص بركة , وعلى الأظهر, النسائية منها- سواء في “امرأة من كمبو كديس”, أو ” على هامش الأرصفة”, أو “الجنقو مسامير الأرض ” أو “مسيح دارفور”, أو غيرها من نصوصه السردية المتصلة منذ تسعينات القرن الماضي(راجع هذا في كتاب فيريري الأشهر “تعليم المقهورين” (Pedagogy of the Oppressed), والذي يعد بشكل واسع كتاباً مؤسساً للاتجاه النقدي في علم أصول التربية).
* نصوص المجموعة تبدو منشغلة البال جدا بحرب دارفور. على كثرة وفظاعة وويلات حروبنا المتناسلة، لم تتمثل إبداعيا بعد، بما يكفي (تجازوت حرب دارفور ال14 عاما الآن. في حين تنتهي الحروب الأهلية لدى غالب شعوب العالم خلال 4 أو خمس سنوات.. خذ الحرب الأهلية الانجليزية والأمريكية والاسبانية وغيرها, فان حروبنا السودانية ذات الرؤوس الهايدرية تستمر لعقود وعقود. ولا تضع أوزارها, إن فعلت, إلا بنهايات صعبة وغالباً كارثية). وللحروب وشيجة دم عريقة مع السرد والفنون بعامة, فالحرب هي ذاكرة التاريخ الحيّة دوماً.. حتى لكأن تاريخ الحرب هو تاريخ الإنسان نفسه وتاريخ شجونه وعذاباته على الأرض (قديما قال الجاهلي زهير بن أبي سلمى : وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ / وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ /متى تبعثوها تبعثوها ذميمة/ وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ) وطبعت ذاكرة الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر رواية تولستوي “الحرب والسلام”, وهناك همنجواي (وداعا أيها السلاح) عن الحرب العالمية الأولى, و(لمن تقرع الأجراس) عن الحرب الأهلية الاسبانية, ومن تجلياتها في الدراما “الرجل والسلاح” لبرناردشو وهكذا. وسودانيا تعد “أحوال المحارب القديم” للحسن بكري, بنفسها الملحمي العريض وبطلها المعطوب من تجليات حروبنا الكبرى. قصص مجموعة “موسيقى العظم” تتكون من 15 قصة (طفلان وباتريشيا, ضلاية, فيزياء اللون, أنا الأخرى وأمي, ذاكرة الموتى, موسيقى العظم, طائر أسد وجحوش, وصمة وطن, حناء… الجسد, زوج عمتي خريفية, طقس الذنب, الرجل الميت, فنطازيا الشبح, الأم). هذا الانشغال الحربي, ظل الكاتب يوليه أهمية كبيرة في مجهوده السردي, متخذاً ومجرباً رؤى وأشكالا وتكنيكات مختلفة, بما في ذلك “مثلجة” (من ميثولوجيا) هذه الحرب, كما في روايته “مسيح دارفور”, وهى مثلجة نابعة من الواقع ومتصلة به, وتصير نتيجة ذلك فضاءاً رحيباً للظواهر, يحاول الكاتب على الدوام تحريكه سردياً قصد استيعاب التعقيدات الهائلة للحرب.
* تتمظهر الحرب وتتشكل من خلال السرد في مجموعة (موسيقى العظم)، ليس عبر الفظاعات والانتهاكات والويلات والمآسي فحسب، بل كثيراً ما تتشابك المسالة وتتعقد برمتها.. وهو تعقيد ينمو في سطح هذه النصوص, وفي طبقاتها الجوانية معا. ففي إحدى القصص، مثلا، يكتشف البطل إن الجندي الجنجويدي الذي روع القرية الوديعة، هو في الواقع أخوه من الرضاع فتجتاحه عاطفة إنسانية نحوه وتنفر نفسه من قتله انتقاما..ومع ذلك يضطر لاحقا لقتله بسبب ملابسات حربية ومواضعات اجتماعية معينة قاهرة:
” كان يؤرقني مصير أخي الجنجويد آدم راشد, لا يمكن أن نأخذه معنا فالرحلة إلى نيالا بالأرجل, لقد قتلت الحمير أو هربت في الخلاء, ولا سيارات في القرية غير تراكتور حاج إدريس وقد تم حرقه كذلك, وآدم راشد لا يستطيع المشي, ولا يمكن حمله, فبالإضافة إلى انه سمين, فهو لا يستحق ذلك, لأنه قاتل وناهب ومغتصب, وأيضا لا استطيع تركه ليموت عطشاً ونزفاً, لأنه بصورة أو بأخرى أخي, كانت تنازعني أفكار ومشاعر متضاربة, وقلت لنفسي دع الأشياء تمضي وفي اللحظات الأخيرة قد يأتي الحل”. ولكن الحل يأتي لاحقا حينما نسمعه يقول “قد قتلته”.(المجروح, ضلاية). إن كتاب وشعراء الحرب, عادة ما يشتغلون على هذه البنية العميقة ( deep structure) – وهو مصطلح تشومسكوي مفيد جدا- لكشف هذا المنحى المعقد في الحروب (أنظر نقد الحرب والسلام لتولستوي وقصائد شعراء الحرب البريطانيين الذين كتبوا عن حروب البوير في جنوب أفريقيا وعن الحرب العالمية الأولى). هذه الحادثة الصغيرة في قصة (ضلاية) تذكرنا تحديداً بالصراع النفسي المعقد الذي يضطرم في دواخل المحاربين(غالبا بين العواطف الإنسانية العميقة وضرورات الحرب العملية ومنطقها الناشف)؛ صراع تمثله جيّداً إشارات قصيدة “الرجل الذي قتله” The Man He killed لتوماس هاردي, إحدى أجمل قصائد الحرب وأعمقها أبداً. ومثل هذه الصراعات المعقدة في الحروب لم تغب حتى عن القادة العسكريين ومؤرخي ومنظري الحروب الكبار, الذين ينسب لأحدهم قوله أنه في أزمنة الحرب فان الأساليب الأكثر وحشية هي ذاتها الأكثر إنسانية !
* صورة الأم العائدة لابنها بعد الموت.. هي الانشغال الثاني للمجموعة. تنقشع نصوص المجموعة عن أسئلة سردية تتعلق بفلسفة الموت والحياة.. تتمحور وهى تتخذ منحى انطولوجياً معيناً.. يحاول, ضمن مهام أخرى, تطبيع العلائق بين الأحياء والموتى، كأنه يقول أنهم متجاورون ومتمازجون والصلات بين العالمين جد واشجة, ” ابتسمت المرأة الشابة الجميلة الحنون, وقد بدأت تتحدث في هدوء, حكت قصة حياتي منذ ميلادي بالدقيقة والثانية, حدثاً حدثاً, أخذت استمع إليها في صمت وتعجب, كأنما من يحكى عنه ويحكى له ليس سوى صنوين لي ضالين… لا أدري كم الزمن مكثت تحكي قرب رأسي, ولكنها بلا شك بقيت هناك زمنا طويلا.”(أنا الأخرى وأمي). عودة الأم من الموت (ضمن سمفونية الأشباح الراتبة في النص الكبير لبركة) لها موسيقاها وإيقاعها, ولها إشاراتها وأشواقها العميقة المجهضة نحو العدل والحب والجمال.
* ثمة تناصات تقنية حوارية معقدة مع بعض آليات المسرح والتشكيل تتجلى بوضوح في بعض القصص مثل (فنطازيا الشبح) و(موسيقى العظم) و(ضلاية) و(فيزياء اللون). في “فيزياء اللون” تنضاف (ورطة الفنان) مع نفسه من جهة، وورطته مع أعماله, من جهة أخرى(الرومانتيكيون الانجليز وخاصة الشاعر شيلي اشتغلوا بأرق على هذه التيمة- تيمة ورطة الفنان مع ذاته ومع إبداعه وخلقه الفني).. تنضاف هذه الورطة لمشهد المجموعة فتعمقه أكثر، وتكسوه بملمح إشاري وإزاحي جديد. تتبدي في “فيزياء اللون”(وهى قصة تمثل الرمانة الفنية للمجموعة, وليس غريباً أن تفوز مع قصة للكاتب نفسه بجائزة تمنحها إذاعة البي بي سي بالاشتراك مع مجلة العربي الثقافية), بشكل أدق إستراتيجية استخدام الفعل المضارع السردي (narrative present), إذ يختلط هنا مع الفعل الماضي فيطفى بذلك على فعل القص متعة وحيوية, ويضبط أوتاره ويقاربها مع إيقاعات أجناس وفنون أخرى.. ” يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة: تري تحس وتقرأ في نفس لحظة اللمس, تغوص قدماه في مياه النهر الدافئة, يسمع أنين الرمل تحتها, تهرب صغار السمك البلطي والكوار, التي تطعم على العوالق في ملتقى الماء بالرمل…يقلب صدفة على بطنها, على ظهرها, يضعها هنا, يضعها هنالك, على الرمل, ينظر إليها بعمق, يفكر بحكمة, بجمال, بجنون: يبتسم”. ( فيزياء اللون). وفي قصة (فنطازيا الشبح) نلمس تبديا آخر لاشتغالات المضارع السردي “تتساقط على خشبة المسرح, قطع, وأشياء متعددة ومتنوعة, بقايا أسلحة, قذائف فارغة, ملابس جند, أواني منزلية, أحذية نسائية, ملابس نساء, وفاكهة جريب فروت متعفنة..يعيد المسدس إلى موضعه, يلتقط قطعة ملابس داخلية…يدخل المسرح عدد كبير من النساء والأطفال في هلع, يلبسون ملابس ممزقة…الخ). فللمضارع السردي وظيفة تقريب الحدث وبعث البعيد المنسي وتشبيك الأزمنة ونفخ الروح في الأمكنة.
*كما تظهر في المجموعة, قدرة الكاتب على التواطؤات الحميمة مع بعض الأحداث والشخوص والألوان والأمكنة وإيقاعاتها, مع شيء من محاولة للإمساك بالصورة الكلية, في سعي يتم بدأبٍ وهمة وروحٍ كبيرة, من أجل تصعيد عوالم القاع الاجتماعي وتنشيط حيويات المنسي وتفجير طاقات تحتانية كثيرة مهملة. وعبر هذه الطاقات السردية يحاول بركة جاهداً سبر أغوار “الإمكان الإنساني”, مسترشدا بحكمة الروائي التشيكي-الفرنسي ميلان كونديرا, من أن قيمة الرواية الحقيقية وأخلاقيتها الحقيقية تكمن في القدر الذي تكشفه لنا مما نجهله من الوجود والعالم.. فالرواية ينبغي أن تحفر في منطقة جهلنا, وليس في منطقة معارفنا المستقرة. والإمكان الإنساني, الذي تبحث عنه الرواية بشكل عام, ويبحث عنه بركة في جهاده السردي, لا يتأتى إلا عبر السفر المضني في هذه المجاهل القصية.
*تنهل المجموعة من موارد ومصادر عدة, أبرزها متحها المستمر من بئر الطفولة.. ولبركة طريقته المخصوصة في المتح المرهق من هذه البئر بصورة تجعلها منهلا لحياة كاملة ليس تقتصر على مرحلة معينة من العمر. وقد يأتي هذا من خلال “ترميز” الطفولة ذاتها بوصفها (تركيباً ذهنياً واجتماعيا متحركاً conceptual-social construction), أكثر من كونها محض مرحلة عمرية زمنية محددة. هاهنا تغدو الطفولة المحكية وتؤول, تركيباً غائماً للعالم, لا العالم الواقع عينه كما في نظرية المعنى التقليدي المشروط بالحقائق ( truth-conditional semantics). تمسي اللغة وهى تتمطى هكذا سردياً “تركيبا خاصاً جداً لعالم الطفولة”, وتمثيلاً معرفياً متحولاً وشفافاً لها knowledge representation)). ففي قصة (طفلان وباتريشيا), مثالا, تستطيع أن تلمح في سلوك الطفلين(أحدهما يروي القصة), بل وسلوك باتريشيا وتصرفاتها الملفوفة بالإشارات وبغلائل من الغموض, شيئاً من هذا التركيب والتمثيل السرديين للطفولة (رقص باتريشيا مع الطفل الصغير الراوي, مثلا). تقترح لنا هذه الحادثة الصغيرة بما تحتويه من إشارات وإيماءات درامية ( pantomimes) , كيف يمكن أن يصنع السرد “تركيباً زمكانياً” صرفاً للأشياء. يؤسس هذا التركيب السردي ويؤثث معاً نقطة انتباه أو نقطة إدراك ووعي جديد متقدم في حياة ذلكم الطفل-الراوي.
*موسيقى العظم, الصادرة في 2011- 2012 تعد من أهم مجموعات بركة ساكن القصصية, وتتركز فيها الكثير من ملامح خطاب بركة السردي. وفي إضاءتها هاهنا, إنما نحاول إضاءة هذا الإبداع السردي السوداني المتوهج النابض بقوة وهمة وتركيز وروح عظيمة. والكاتب ما انفك يواصل كشوفه وفتوحاته الواثقة في عالم الكتابة السردية, وأضحى, من ثم, له حضوره الملموس محلياً وإقليميا وتمدد في مساحات عالمية منبسطة, خاصة بعد ترجمة الكثير من أعماله المهمة إلى اللغات الأوربية. وتنظر هذه المقاربة, لكتابة بركة, بشكل أعم, بوصفها نموذجاً جيداً للتركيب السردي لعوالم الحرب الأهلية وتعقيداتها وتمثيل عوالم الهوامش والقاع الاجتماعي, وارتباط ذلك جميعاً بحركة الهويات الإنسانية وصناعة دلالاتها المعقدة والمتحولة, وهى مسألة تبدو متواصلة حتى في أعماله الأحدث مثل (رواية “الرجل الخراب” (2015) ذات السياق الأوربي , “ومنفستو الديك النوبي”(2016), و”ساماهاني” )2017 ) ذات السياق الزنجباري).
[email][email protected][/email]