استوصوا بالقبط خيرا

قال عليه الصلاة والسلام” إذا فتح الله عليكم مصر استوصوا بأهلها خيرا، فإن لنا فيهم نسبا وصهرا “. وتلك وصية تجد من كل مسلم ما يلزمها من تقدير واحترام غير ان ما تعرض له الاقباط في مصر خلال السنوات الأخيرة يكشف عن غلو شديد في الدين وتشدد لا مبرر له اوذي بسببه الاقباط ايما اذى ولكنهم نأوا بحكم طبيعتهم وتربيتهم المتسامحة من الرد على من اُتهم بأذيتهم، يقول القس بولس فؤاد الكاهن في كاتدرائية السيدة العذراء في الخرطوم في هذا الخصوص إن تعاليمهم تحضهم على مفارقة الشر أياً يكن، لذا فإن الأقباط دائماً يفضلون العيش في سلام ومحبة.
لا شك ان وجود الأقباط في السودان وجود قديم وقد سجل التاريخ ان أول دخول للأقباط إلى السودان كان في القرن الرابع ميلادي ثم انقطعت هجراتهم من مصر بعض الوقت لكنهم عادوا مرة أخرى بأعداد أكبر مع الاحتلال التركي المصري للبلاد عام 1821 كموظفين حسب ما ورد في الطبعة الأولى من كتاب الدكتور فيليوثاوس فرج (اقباط السودان) وهو سفر يستعرض فيه الكاتب أدوار الاقباط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في السودان منذ تاريخ دخولهم الأول الى عصرنا الحالي ويركز بصفة خاصة على اسهاماتهم في مجال الاقتصاد والتجارة والسياسة والعمل العام عموما والتعليم. ويرى البعض ان السودانيين من أصول قبطية هم من اسسوا للحياة المدنية في السودان لكونهم أكثر تعليما ومهارة وكفاءة في كثير من ضروب الاعمال الحديثة وبالتالي فقد كانوا من اوائل من عملوا في المصالح والإدارات الحكومية، كالسكة حديد والبريد والبرق والتلغراف والإدارات المالية والحسابية والمصارف والأشغال والزراعة والغابات والقضاء فضلا عن نشاطهم في الأعمال الخاصة والحرفية، فهم أول من أدخل الخياطة الحديثة والمخابز وصالونات الحلاقة والصناعات الخفيفة كالنسيج الذي وطنوا صناعته في شندي وام درمان وغيرهما. ولم تقف مشاركة الاقباط في هذه المجالات فحسب بل ضربوا بسهم وافر في الشأن الرياضي حيث كانوا من مؤسسي ناديي الهلال والمريخ ولهم في كرة السلة بالتحديد أكثر من لاعب مبدع، كما كان لأفراد منهم دور في العمل السياسي فشاركوا حتى في الاحزاب التقليدية كالأمة والاتحادي الديمقراطي اضافة الى الحزب الشيوعي.
الذين يجاورون الاقباط يعرفون حلو معشرهم وطيب تعاملهم وتداخلهم الحميم مع جيرانهم في كل المناسبات وقد ذكر لي أحد الأصدقاء أن الامر قد بلغ بجيرانهم الاقباط حد انهم كانوا يقفون لقراءة الفاتحة مع المعزين شأن كل الجيران الآخرين دون تحسس مما يفعلون وقد نقلت لنا مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا ذلك التماهي الرائع الذي اظهره أحد الاقباط السودانيين مع سكان منطقته بشندي حين خلع جلبابه و “ركز” طالبا ان تمارس عليه عادة الجلد بالسوط المعروفة بإسم ” البطان” كما يفعل اهل المنطقة في مناسبات الافراح مثيرا اعجاب كل من شاهد هذا الموقف المثير.
ومشاركة الاقباط في الشأن العام السوداني مشهودة بمواقف نبيلة رأيت ان لا بأس من سرد القليل منها تقديرا لإسهامات هذه الفئة من مواطني السودان الذين ظلوا في حالة تواصل وتعامل هادئ ومتناغم مع كل من حولهم مما اكسبهم ثقة واحترام كل فئات الشعب السوداني على مدى وجودهم في كل اصقاع البلاد. فها هو طلعت نجيب القبطي المولود في النهود والذي انتقلت عائلته بعد ان توسعت اعمالها الى مدينة الأبيض ومنها الى الخرطوم ، فلهذا الرجل و اسرته قصة مشهورة في بداية التسعينيات حين انهار كامل سور مدرسة البنات الثانوية بمدينة النهود (كلية التربية بجامعة غرب كردفان حاليا) على اثر هطول امطار غزيرة و فيضان خور أبوقمراية المجاور للمدرسة ، و كعادة كل اهل السودان في مثل هذه الحالات فقد استنفرت اللجان الشعبية و جمع ما جمع من أموال لإعادة تسوير المدرسة غير ان ما تم جمعه لم يكن كافيا لتنفيذ المطلوب فأستعين بوالي الولاية وقتذاك فجاء و بمعيته ثلة من المسؤولين و بعد جولة على المواقع الأكثر تضررا أعلن عن تبرعه بمبلغ خمسة ملايين جنية مساهمة في اعمال تسوير مدرسة البنات لكن المفارقة هي ان ما تم صرفه على استضافة الوالي ووفده كان ضعف هذا المبلغ تقريبا فأسقط في يد لجنة جمع التبرعات بشأن كيفية معالجة هذا الموقف لكن احد أعضائها أشار اليهم بالاستعانة بأسرة طلعت نجيب القبطية لمعرفته بهم و صلتهم القوية

بمدينة النهود ولم يمض غير يوم واحد حتى كان طلعت نجيب ومندوبين آخرين من اسرته في مدينة النهود قادمين من مدينة الأبيض فسألوا بلا ضوضاء عن المبلغ المطلوب لتسوير المدرسة
على نحو يمنع تكرار سقوط سورها فتم اعلامهم ان المطلوب 50 مليون جنيه فسلموا اللجنة شيكا بمبلغ 50 مليونا ثم اضافوا 30 مليون أخرى للمحلية لمواجهة حالات الطوارئ المماثلة ولم يضيفوا وهم عائدين الى الأبيض غير ” ديل اعراضنا ونحن ما بنقدر نخليهم مكشوفين ” وكأنهم يتمثلون قول الشاعر: أصُونُ عِرْضي بِمَالي لا أُدَنِّسُهُ …لا بارَك اللهُ بعْدَ الْعِرْضِ في الْمالِ.
وهذا موريس سدرة وزير الصحة الذي كان ثاني اثنين من الوزراء الاقباط على عهد الراحل نميري يقوم اثناء زيارته لمستشفى دنقلا العام بخلع بدلته وصفته الرسمية عندما علم ان هناك مريضا حالته حرجة وتتطلب تدخلا جراحيا وان الطبيب المختص في طريقه للمستشفى لمعاينة حالته فتولى إجراء العملية كما ينبغي ثم واصل زيارته على باقي اقسام المستشفى وكأن شيئا لم يكن ويقال انه رفض السلام على ذلك الطبيب بعد حضوره للمستشفى بعد ان انقضى الامر. اما العم فواز المقيم بمدينة الرهد أبو دكنة فقد أعلن للعموم ان عربة ” اللوري” خاصته مشاعة لكل سكان المدينة في حالات الطوارئ في أي وقت من اليوم وكثيرا ما كان ينقل بها المرضى والمصابين والنساء الحوامل الى مستشفى المدينة آناء النهار وفي أوقات متأخرة من الليل في وقت كان يعز فيه وجود وسائل مواصلات مناسبة للقيام بهذه المهمة.
وأرى ان لا بأس من اعيد الى الاذهان أيضا ما سبق ان ما حكاه لي صديقي عاصم ابن الجريف غرب الذي اضطر ذات يوم في أوائل السبعينيات الذهاب إلى المدرسة الأميرية الوسطى بالخرطوم في يوم ماطر فأخذ يتقافز هنا وهناك تفاديا للمياه الآسنة المختلطة بمياه الأمطار وكان ذلك جوار منطقة عرفت ب (أبو صليب) بالقرب من كلية الطب بجامعة الخرطوم وهي منطقة (للذين لا يعرفونها) سيئة السمعة ومجرد المرور بقربها يمثل شبهة وجناية لا تغتفر إذا قدر لاحد معارفك مشاهدتك بذلك الموقع. يقول عاصم أن سودانيا من الأقباط شاهد منظره ومجاهدته في الخروج من ذلك المستنقع الآسن فمر بجانبه بعربته نوع “موريس ماينر” التي كانت سيارة الرسميين في ذلك الوقت فانتهره: يا ولد هوي إنت الجابك بي هنا شنو؟ فرد عاصم انه في طريقه إلى المدرسة وانه اضطر إلى المرور من هنا لأن “الباص” تعطل ولم يوصلهم لمحطتهم المقصودة فما كان منه ألا أن طلب من عاصم أن يركب ليتخطى به هذا المكان القذر وبعد أن فعل ذلك أصدر له أوامر مصحوبة بصرامة ابن البلد المعهودة بأن (أوعك تاني تجي بالمحلة الكعبة دي … سامع؟). يقول عاصم انه تلقى تلك الكلمات بكل طيبة خاطر فأومأ برأسه خجلا واتبعها بكلمة شكرا جزيلا يا “حاج “.
وبعد فهذه سيرٌ بعضها مروي وآخر غير ذلك لرجال عظماء من “قبيلة” سودانية آثرت العمل دون جلبة ولا ضوضاء ولا أضواء يدفعهم في ذلك حبهم لوطنهم وتربيتهم القائمة على مبدأ التعايش مع الآخر في مودة ووئام، ولابد لي أخيرا ان اشير الى ان ما دفعني لكتابة هذا المقال هو الملاحظة التي ابداها أحد الكتاب النابهين مبديا استغرابه من تشكيل الحكومة الاخيرة في بلادنا رغم كثرة عدد وزرائها (74 وزيرا) دون ان يكون فيها قبطي واحد، ترى هل لأنهم لم يحملوا السلاح كغيرهم فتم تجاهلهم كما نرى؟ أرجو ان أكون مخطئا.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الموضوع جميل ومهم
    والله اتذكرت اليوم زملائي في هيئة السكة حديد
    1-مهندس/جورج زكي رحمه الله
    2-مهندس/فايز كمال اندراوس لندن
    3-مهندس/مشيل جميل تكلا استراليا
    4-مهندس /فهيم عطبرة
    5-مهندس/جورج الخرطوم
    زاملتهم في عطبرة و الخرطوم وكانت ايام جميلة وعلاقات اجتماعية ممتازة
    والله يرفع هيئة السكة الحديد بعد رفع الحصار عن السودان

  2. شـكـرا لكاتـب المـقال والأقـباط تـم الـتـضـيـيـق عـلـيهم من قـبل هـذا النظام والأسـتـيـئلاء عـلى ممـتلكاتهـم واجـبارهـم عـلى الخـروج وقـد هاجـر منهم الألـوف الى أوروبا واستراليا وبقـية دول العالم . وهـذا تـعـد من النظام عـلى حقوقهم كمواطـنين سـودانيين . واذكـر انه عـندما كنا ونحـن صغار فى الخـلـوة , كان اشـطـر تلمـيذ بـيـنـنا فى حـفظ الـقـرآن قـبطى وكان الـفـكى قـبل ان يضربنا , يعـيـرننا بزمـيلـنا الـقـبطى الذى تـفـوق عـلـيـنا فى تـسـمـيع القـرآن .

  3. الموضوع جميل ومهم
    والله اتذكرت اليوم زملائي في هيئة السكة حديد
    1-مهندس/جورج زكي رحمه الله
    2-مهندس/فايز كمال اندراوس لندن
    3-مهندس/مشيل جميل تكلا استراليا
    4-مهندس /فهيم عطبرة
    5-مهندس/جورج الخرطوم
    زاملتهم في عطبرة و الخرطوم وكانت ايام جميلة وعلاقات اجتماعية ممتازة
    والله يرفع هيئة السكة الحديد بعد رفع الحصار عن السودان

  4. شـكـرا لكاتـب المـقال والأقـباط تـم الـتـضـيـيـق عـلـيهم من قـبل هـذا النظام والأسـتـيـئلاء عـلى ممـتلكاتهـم واجـبارهـم عـلى الخـروج وقـد هاجـر منهم الألـوف الى أوروبا واستراليا وبقـية دول العالم . وهـذا تـعـد من النظام عـلى حقوقهم كمواطـنين سـودانيين . واذكـر انه عـندما كنا ونحـن صغار فى الخـلـوة , كان اشـطـر تلمـيذ بـيـنـنا فى حـفظ الـقـرآن قـبطى وكان الـفـكى قـبل ان يضربنا , يعـيـرننا بزمـيلـنا الـقـبطى الذى تـفـوق عـلـيـنا فى تـسـمـيع القـرآن .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..