هل نحن أمة من الرعاع؟!

فى بداية الألفية الثالثة بثت القناة الثانية لتلفزيون البى بى سى سلسلة من البرامج الوثائقية عن دول القارة الأفريقية لسبر أغوارها بعد مرور نصف قرن على إستقلالها وخروج الدول الإستعمارية العجوز منها، خاصة بريطانيا وفرنسا وأين تقف شعوبها تحديدا من مقولة الجنرال البريطانى برنارد مونتغمرى قائد قوات الحلفاء فى معركة العلمين، أثناء الحرب العالمية الثانية، تلك المقولة المثيرة للجدل والتى أطلقها فى نهاية الأربعينات ” آفريقيا ما هى سوى أمم من الرعاع” ويقصد بذلك، أنه لن تقوم لهم قائمة بعد حقبة الإستعمار. كان محور البرامج يدور حول هل نجحت الدول الأفريقية فى حكم نفسها؟ وجرى تقييم الزعماء الأفارقة الذين قادوا حركات التحرر ثم ورثوا الحكم في مرحلة ما بعد الإستعمار، وأسسوا نظما دكتاتورية ذات طابع عسكرى قمعى، تلاها إنقلابات هنا وهناك قام بها شبان مغامرون تزيح من قبلها بإنقلابات، وتهيمن على شعوبها بالسلاح والدبابة وليس بالإنتخاب الحر، ولذلك كان إهتمامهم بالسلاح وتقوية الجيوش أكثر من إهتمامهم بالتنمية والعلم والبحث العلمي وجودة الحياة، وخبراتهم عميقة في صناعة الأجهزة الأمنية والإستخباراتية المتخصصة في السيطرة والهيمنة على أي نشاطات سياسية في الداخل، مقابل الفشل الذريع دائما في الخارج، وأهدروا العدالة وحولوا القضاء إلى طقوس شكلية أو ديكورات وتصدر الأحكام بالأوامر أو التوجيهات الأمنية. أثارت هذه البرامج حينها، ردود فعل قوية و متباينة بين مختلف النخب الأفريقية السياسية و الأكاديمية منها، بل إتهم البعض البى بى سى بالدعوة لعودة الإستعمار للقارة الأفريقية مجددا وإعتبرت جوهرية البرامج ذات طابع عنصرى خبيث تمتطى مقولة الجنرال مونتغمرى.
فى الأسبوع الماضى أثار البروفيسور بروس غيلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بورتلاند في أوريغان بالولايات المتحدة الأمريكية ضجة كبيرة، بسبب نشره مقالا فى دورية Third World Quarterly تناولته صحيفة الإندبندنت البريطانية، دافع فيه عن الإستعمار الغربي للعالم الثالث، وطالب فيه بوضوح كامل بعودة الإستعمار لإنقاذ دول العالم الثالث من النظم السياسية المستبدة والفاشلة والتي أغرقت البلاد في الخراب والدمار أو الحروب الأهلية التي وصلت إلى حد المذابح الواسعة.
غيلي يرى أن تاريخ الإستعمار تعرض لتشويه السمعة، لإخفاء جوانبه الإيجابية، ويضيف: حظي الإستعمار الغربي على مدى المائة سنة الماضية بسوء السمعة. وقد حان الوقت لتمحيص هذا النمطي الشائع، لقد كان الإستعمار الغربي، بشكل عام، مفيدا موضوعيا وشرعيا في معظم الأماكن التي وجد فيها. ويرى الكاتب أن أداء البلدان التي تبنت الإرث الإستعماري بشكل عام أفضل من أداء تلك التي رفضته.
يقول غيلي: نحن لا نبالغ عندما نرصد آثار معاداة الإستعمار عالميا على الشؤون المحلية والدولية لدول العالم الثالث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد تسببت تلك الأفكار في دمار البلدان، في الوقت الذي قام فيه نخبة القادة القوميين الذين حكموا في مرحلة ما بعد الإستعمار بتدمير بلدان بكاملها، بتحريكهم للشعوب التي يغلب عليها الأمية وغياب التعليم، فأمموا الإقتصاد وسحقوا التعددية السياسية والأنظمة الدستورية والعمليات السياسية المنطقية التي وضع بذرتها المستعمرون. وفي عصر الإعتذارات على الجرائم، فإن هناك صمتا واضحا تجاه الجرائم التي إرتكبها هؤلاء القادة في العالم الثالث.
وتابع غيلي قائلا: لقد إستخدم الديكتاتوريون في العالم الثالث شبح عودة الإستعمار، لتشويه المعارضة الديمقراطية في بلدانها وإفقادها مصداقيتها ومنع وجود أي معارضة جادة لتلك النظم. ويرى أنه إذا كانت هناك معارضة للإستعمار وقتها وهو صحيح فإن قطاعات واسعة من الشعوب كانت تقبل به أوعلى الأقل لا تعاديه، بل وتستفيد منه إقتصاديا وثقافيا وتنظيميا ومعماريا.
دراسة غيلي أثارت ضجة أكاديمية كبيرة، وهاجمها بعضهم مذكرا بأن الإستعمار إرتكب مذابح في حق معارضيه، وتم الرد على ذلك بأن الأنظمة المستبدة في العالم الثالث إرتكبت مذابح في حق شعوبها ربما أكبر مما إرتكبه الإستعمار، كما أتهم بأن دعوته تحمل طابعا عنصريا.
هذه الدعوة التى أطلقها أستاذ العلوم السياسية الأمريكى لم تكن وليدة الغرب، وليست جديدة، فقد سبقه إليها مفكرين كبار في العالم الثالث، وفى آفريقيا تحديدا. المفكر الكيني العالمي الدكتور علي مزروعي ـ أستاذ الإنسانيات في الجامعات الأمريكية ـ أحد من نادى بتلك الدعوة في التسعينيات الماضية. ورأى أنها الحل لإنقاذ أفريقيا من النظم الفاشلة ومن القمع وغياب الديمقراطية ونهب الشعوب والإنقلابات العسكرية. المزروعى كان يتردد على لندن ويقدم محاضراته وقد شهدت العديد منها فى السنوات الماضية قبل رحيله فى أكتوبر 2014، حاورته كثيرا، فهو يرى أن أفريقيا والعالم الثالث تقع تحت هيمنة إستعمارية بالفعل، ولكن بصيغ مستترة، فقد كان يرى أن مدير البنك الدولي هو الحاكم الفعلي، لأن إقتصاديات الدول الأفريقية بكاملها مرتهنة بقراراته، وكذلك كان يرى أن الولايات المتحدة هي “الشرطي” الحقيقي الذي ينظم معظم السلوكيات السياسية والأمنية لأغلب دول أفريقيا وربما العالم. مما لا شك فيه أن بوادر القلق الإنسانى الغامض والرافض للأوضاع الحالية فى القارة الأفريقية بدأت تنتشر بين شعوبها، وإن تبدو غير واضحة المعالم حتى الآن، و فكرة عودة الإستعمار تبدو خيالية أو بعيدة عن الواقع، ولكني أتصور أنها وليدة إحباطات إنسانية نتيجة توالى فشل النظم السياسية المستبدة الغارقة فى القمع والفساد.
فى أوائل ستينيات القرن الماضى، وفى حفل العشاء الذى أقامته الملكة أليزابيث الثانية بقصر بكنجهام على شرف الرئيس الفريق إبراهيم عبود أثناء زيارته بريطانيا، قال له أحد اللوردات وهو يصافحه: لقد تركنا لكم ثلاثة معالم بارزة عضوا عليها بالنواجز ? الأولى تركنا لكم جيشا وطنيا مدرب تدريبا جيدا ? والثانية تركنا لكم مشروع الجزيرة عملاق الإقتصاد الوطنى ? والثالثة نظام الخدمة المدنية دفة تسيير شؤون البلاد الإدارية، وهو ما لم نقم به فى أى من المستعمرات السابقة بما فيها الهند درة التاج البريطانى. تعاقبت الحكومات من بعده، ثم جاء الإنقاذيون فجعلوها سلفا وأثرا بعد عين! فى غياب الوعى النخبوى والشعبى، ورحلة الغضب التي تبدو حتى الآن بلا أفق سياسي مفهوم، و لا يوجد طرح بديل لسلطة هشة وفاشلة إقتصاديا وسياسيا وأمنيا، و المعارضة عبارة عن “جيتو” سياسى صغير منعزل ومشكوك فى أمره عند الناس، نسأل أنفسنا ببراءة: هل أصبحنا أغبياء بما يكفى لقبول الوضع الذى نعيشه نستحسن الرداءة، ونلامس مقولة الجنرال مونتغمرى؟ مهما كانت المبررات، ربما نجد الحكمة فى مقولة عبدالملك بن مروان عندما قال: أنصفونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبى بكر وعمرا و لا تسيرون فينا ولا فى أنفسكم بسيرة رعية أبى بكر!

عزالدين حمدان ? لندن
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. صـدق والله صـدق كل من وصفـنا بهـذه الأوصاف . نعـم نحـن العالم الثالث والرابع والخامس امـة بـدائـيـة تعـيش فى عـالم الجهـل والـخـرافات لـم تـسـتـوعـب الحـضارة والـرقـى . ولـم نـسـتـفـيـد من الأسـتـعـمار الذى كان نعـمة من الله عـلـيـنا لكى نـرقـى بأنـفـسـنا ونـتـطـور حـسب سـنة الله فى الكـون , ولكن ضيعـنا الـفـرصة وحـتى الذين اسـتـفادوا من الحضارة التى جـلـبـهـا الأسـتعـمار لـنا , جاء الآخـرون ودمـروهـا . والـمضحـك المـبـكـى ان الله انعـم عـلـينا بـنـعـمة الأسـلام , وحـتى هـذا الدين لـم نـسـتـفـيـد منه لـنطـور انفـسـنا ونـرتـقى بتعـالـيـمـه . مصيبة حـلـت عـلـيـنا . ياريـت يعـود الأســتـعـمار من جــديــد ولكن هـيـهـــات ان يعـود فـهـو خائـف عـلى نـفـسـه من الضياع والتخـلـف ان اصابـتـه جـرثومـة التخـلـف الذى نعـيـش فـيه .

  2. السلام عليكم ورحمة الله
    يا جماعة ، اربعوا على انفسكم قليلاً . نحن الشعب السوداني شعب واعي مثقف ومنتج .

  3. صـدق والله صـدق كل من وصفـنا بهـذه الأوصاف . نعـم نحـن العالم الثالث والرابع والخامس امـة بـدائـيـة تعـيش فى عـالم الجهـل والـخـرافات لـم تـسـتـوعـب الحـضارة والـرقـى . ولـم نـسـتـفـيـد من الأسـتـعـمار الذى كان نعـمة من الله عـلـيـنا لكى نـرقـى بأنـفـسـنا ونـتـطـور حـسب سـنة الله فى الكـون , ولكن ضيعـنا الـفـرصة وحـتى الذين اسـتـفادوا من الحضارة التى جـلـبـهـا الأسـتعـمار لـنا , جاء الآخـرون ودمـروهـا . والـمضحـك المـبـكـى ان الله انعـم عـلـينا بـنـعـمة الأسـلام , وحـتى هـذا الدين لـم نـسـتـفـيـد منه لـنطـور انفـسـنا ونـرتـقى بتعـالـيـمـه . مصيبة حـلـت عـلـيـنا . ياريـت يعـود الأســتـعـمار من جــديــد ولكن هـيـهـــات ان يعـود فـهـو خائـف عـلى نـفـسـه من الضياع والتخـلـف ان اصابـتـه جـرثومـة التخـلـف الذى نعـيـش فـيه .

  4. السلام عليكم ورحمة الله
    يا جماعة ، اربعوا على انفسكم قليلاً . نحن الشعب السوداني شعب واعي مثقف ومنتج .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..