رحلة الموت

جمع غفير من الفتية إلتقينا في سواحل البحر الأبيض المتوسط،في سكنات تعرف ب{التراكين} وهي أماكن تجميع المهاجرين من قبل المهربين لحين المغادرة تنعدم فيها أبسط حقوق الإنسان الأساسية الماء،الغذاء،العلاج وغيره،بالإضافة الي الإزدحام الكثيف في الجابلونات الحارقه،اطفالا,نساءا،شيبا وشبابا من مختلف أنحاء القارة السمراء وأسيا وكل منا يحمل من بين جوانحه ألف قصه وقصه،يحكون مواجعهم بمرارة تفوق حد الإحتمال والتصور بلغات لم نكن نسمعها من قبل،يتألمون،يتأوهون،يصرخون من الأعماق،يبكون من غير دموع علي الذكريات والتواريخ الملطخه بالدماء التي تأبي النسيان.وفي ظل كل هذه المأسئ يستغربون علي الوضع الجديد الذي لايطاق البته،ولسان حالهم يقول أوليس لنا غير الجحيم مكانا في الأرض؟ أم خلقنا من أجل الشقاء ومصاحبة الفقر والإذلال من قبل المتغطرسين والمستبدين والمتجبرين الذين يمارسون علينا أبشع انواع التعذيب،الإضطهاد،الإستغلال،التهجير القسري والقتل بلا رحمة.فكل ما نهرب من حجيم يستقبلنا جحيم أكبر يصادر ما تبقي من الأحلام في بوابته الأولي وهكذا تدور بنا الساقية دون توقف.
وعلي تلك الشاكله نصبح ونمسي بوجبة واحدة لاتسمن ولا تغني من جوع بل تكاد لا تبلع إلا جبرا أو خصبا تحت تحديد السلاح،وعند غروب الشمس يأتون بسياراتهم الفارهه فيتجمع الجميع حولهم متأملين صدور قرار التحرك مما يسمي بالبوس ولكن تغيب الآمال ككل يوم حينما يلوح بيده إرجعوا للواراء يا سواديين أو{كنك يا زامن قامس لوتا} لا ندري ما المعني ولكن نتفهم مضمونه السيئ،وهو يصرخ مرارا بأن العدد لم يكتمل بعد رغم إقتراب العدد من الألف شخص ،فنضرب أيدينا في بعض ونعض شفاهنا الجافه ونعود الي مخأبئنا منكسرين منهاري الأعصاب ولا صوت يعلو سوي القليل من كلمة الصبر المتكرره التي مللناها،وفي تلك اللحظات يصرخ أحدهم أمراً بفتح البوابه الكبري الممنوعة الفتح ويدخل سيارات تعرف بالتلاجه وأخري ناقلات المواشئ محملة بالحشائش والأعلاف ومن تحته يخرج أوناس لايستطعون الوقوف ويضربونهم الغجر من أجل النزول وهم لايستطعون!وهكذا يمارسون ضالتهم بقسوه مع النساء الحوامل وعند صراخهن من الوجع يقول إسكتن يا{قحبات}وتمضي المتوالية حتي الإنتهاء،وفي نهاية المطاف يوقفهن في صفٍ طويل ويمارسون شهوة الكلاب الضالة بِنهم شديد! فكل منهم يختار مايشاء شاهرين اسلحتهم ويلوذون بالفرار،ثم يأتون في الغد بسابقات الأمس ويختارون أخريات ومن تجرأ من الرجال يضرب ضرب غرائب الإبل ويعاقب الأخرون بالجوع كي تنحل أجسامهم المنهكه ويخف اوزانهم تاره من أجل عدم المقاومة والإستكانه للضعف وتارةً اخي من أجل مضاعفة الشحن في المراكب.
وعندما نقدم ماء البحر المالح للقادمين الجدد يلتهمونه التهاما وهو اجاج،قائلين لم نشرب منذ يومين لأننا مغلقين داخل ثلاجة السيارة أو مصبين في أسفل الصندوق ومغطئين بحزم من الأعلاف ولا نستطيع التنفس،والكثيرون ماتوا من قلة الأوكسجين وهذه هي حالتنا منذ غادرنا أوطاننا عابرين السودان الممتد والصحراء الكبري التي لم نسلم من دواعشها تجار البشر ،إذ أمسكونا وزجوا بنا في غياهب الصحراء تحت كيل من صنوف العذاب نحو رعي البهائم،تنظيف المزارع،وأحيانا التصدير للعمل في مناجم الدهب عبيدا مطيعين لأسيادهم لحين شعورهم بالغني وبعدها يتم إخلاء سبيلنا ومن لم يحالفه الحظ في جني الدهب لسيده يتم شراءه لأخر،!فأما النساء الحوامل فهن يحملن أبناء الطريق في بطونهن وأباءهم الظروف.
وعند المساء نتسامر بحكاوي المأسئ وزفرات الدموع حري،ونتساءل لماذا جئنا الي هنا؟والي متي نمكث،وهل من سبيل للمخارجه؟أم نظل نراهن الصبر وعددنا في حالة من التناقص بسبب الجوع والأمراض!فعن أي جحيم نبحث أكثر من هذا الجحيم الذي بلغناه بأموالنا!!اوا لم يكن جنون اروبا أشبه بجنون البقر!فيتسابق الكثرين في الإجابة بنعم بل أفظع،فيجيب أخر قائلا:إن جنون اروبا أشبه بالفكر الجهادي الذي يقود معتنقه الي الهلاك المحتوم ولايُجدي لذلك ثمنا ولا نفعا! أو ربما جنون اروبا أكبر بكثير لأن مجانينها لايخافون الموت بل يطلبونه طلبا في عبارة {خلينا نغرق هي ما فارقه اصلا} لأن الأنباء تأتي يوما بالترادف عن حالات غرق عديدة في عمق المياه الزرقاء،والعديد من الجثث انتشلت ولم يتم التعرف علي هويتهم ويظل الأغلبية من ضمن المفقودين!ولكن تأكد مصادر أن أغلب الضحايا من الأرتريين والسودانين.
فالمؤسف أن سامعي هذة الأخبار لايستجيبون للتراجع أو التفكير برهة في الأمر،وعادة عند غرق {القُمم وهي جمع قُمه} التي تعني الأنبوبه المطاطية المليئه بالهواء يأتون أتباع البوس في محاولة لرفع الروح المعنوية وسرد الكثير من رحلات العبور الناحجه التي لم يتخيلوها تنجح، ثم مزج الأمر بالدين الحنيف والأتيان بالمبررات من داخله وحسم الموضوع بالمقوله:الجماعه يومهم تمه وخلاص.
وفي ظل حالة الذهول الذي تقشعر له الأبدان وتتصبب عرقا تطلق صافرة المغادرة بخته ،فيدخل الجميع في دوامة التنشنه والتوهان العقلي ثم الصراع مع الذات وكلما تلتفت يمنة ويسري تري صفوفا من المتبولين علي ازقة الحيطان،يعلوها أصواتا ممزوجة بالأنين والبكاء الجهير ولا أحد يبالي كُل متصارع مع ذاته يتخيل سماع همسات ملك الموت بأذنيه الأثنين!والبعض الأخر يفكر مليئا في الهروب ولكن الحراسات أكثر تشددا ولا يتوانون في إطلاق النار في أي كائن من كان والمضطربين يمنحونهم المسكرات للثبات،وفي تلك الأجواء الإرهابية يُساق الكل للمراكب ويتم الترتيب بالضغط والقوة إلصاقا ببعض فلا احد يستطيع التحرك من شدة الضغط الجبري،وبعدها يولون القيادة لأحد المهاجرين ويعطون مساعده هاتفا خلويا للإتصال بفرق الإنقاذ الذين لايستجيبون في أغلب الأحوال،وتبدأ عملية الإبحار والصراع مع الطاغوت الأشرس الذي يتأهب لتقديمنا قربانا لأسماكه.للرحله بقية
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..