مقالات سياسية

جرة نم 33

جرة نم هذا الأسبوع تحملنا إلى ربوع دار حامد؛ خاصة منطقة السيسة وتحديداً قرية الكوكيتي، التي ورد ذكرها كثيراً في الشعر الشعبي لدار الريح، حيث تقيم الشاعرة الحامدية الفذة خادم الله بنت أحمد ود إبراهيم صغيرون المعروفة “بأمغيس” وقد تكون الكنية أصلاً أم غيث، ولكن هذا شأن اللسان السوداني الذي ينطق “الثاء” سيناً، أو “تاء” في بعض الأحيان. شاعرتنا هي من الفراحنة، الغبشان، وأمها من الهبابين، عيال حامد. وزوجها هو الفارس “السابل عرضو ما مشروط”، حمد ود سلامة ود حامد ود جقدول، رحمه الله، فرحاني من الكوارير الذين ينسب إليهم الفضل والكرم، ويكفيهم أن يكون منهم عمنا الحاج داني ود كارور، رحمه الله. شاعرتنا المجيدة، امرأة بدوية خالصة، تعشق العيش في الهواء الطلق، حيث تلتحف السماء وتفترش الأرض، كانت، حتى وقت قريب، “تنشغ” مع الإبل، خريفاً مع زوجها الذي تكن له كل الود والحب على طريقتها الخاصة. وحسب علمي فإن هذه الشاعرة هي الحامدية الوحيدة التي كانت ترتحل مع الإبل من منطلق حبها لحياة البادية واستجابة لمشاعرها الدفاقة التي كانت تسبقها إلى تلك الوديان والوهاد التي كانت يرتادها رعاة الإبل. أما زوجها الذي يلقب “مغيبين” فهو رجل يهوى الصيد في البراري والصحراء وقد كان “نشنجياً” لا تطيش له رصاصة. أمغيس من شاعرات الجراري المبدعات فهي القائلة:
الريع الطار جبّاله
فوقو أم زور عيّالة
مين بضرب غزاله
بلا مغبون وخاله
وهي هنا تشير في صدر المربوعة إلى الأماكن البعيدة التي تشرئب جبالها للناظر من بعد، فأنظر يا رعاك الله إلى كلمة “الطار” بمعنى أنها تُرى كأنها بين السماء والأرض أو عند خط الأفق، وهذه كناية عن البعد، ولكن مع ذلك ترتادها “أم زور” وهي الإبل وترعى هناك ” أي تعيل” وقد استخدمت الشاعرة اشتقاقاً جميلاً من هذا الفعل وهو صيغة مبالغة حيت تقول فوقو أم زور “عيّالة” على وزن “فعّالة”. ثم تتساءل الشاعرة عمن يستطيع اصطياد الغزلان في ذلك المكان البعيد؟ وتجيب هي بنفسها منوهة ألا أحد يستطيع ذلك سوى “مغبون” أي زوجها “مغيبين” وخاله.
وفي مربوعة أخرى تمدح الشاعرة زوجها أيضاً بقولها:
شولك عصر البركة
هيلك ما فيه شِرْكة
سيد البسوج وركة
العزْ هيلك تركة
وقد صدقت فيما قالت بأسلوب السهل الممتنع وبعدد قليل من الكلمات المعبرة التي تخلو تماماً من المبالغة أو التكلف وهذا لعمري منتهى البلاغة والإبداع.
وتصف أمغيس “كير” أو بعير زوجها بقولها في موضع آخر:
نم يا عقيلي الفاضي
وشغل سلك الرادي
البِكْري النايبك ماضي
بقرقر في المعادي
وهذه صورة رائعة أخرى ترسمها لنا هذه الشاعرة المبدعة وهي كعادتها دائماً تستخدم العبارة والمفردة البسيطة لكنها مفعمة بالإحساس وحسن التصوير وإن شئت فقل الرسم بالكلمات. أمغيس لا تزال على قيد الحياة ونسأل الله أن يمتعها بالصحة والعافية فقد والله أبدعت شعراً عبقرياً لا يضاهى.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. (جرة نم في منتهى الروعة)
    اقتباس ( وحسب علمي فإن هذه الشاعرة هي الحامدية الوحيدة التي كانت ترتحل مع الإبل من منطلق حبها لحياة البادية)
    وتنبذ حياة (التسكّع ) والعطالة ؛ انظر إلى قولها :
    يا الحارسين الفاقة
    حس عجّولكم لاقا
    الوادي الفوقا الناقة
    تحتا سنيدر قاقا
    وإلى قولها كذلك :
    حجل القدّاله
    ما جرّوه في قواله
    تلّب بي فرواله
    (صبق) لي الشرّ جُهّاله
    وقالت كذلك :
    بعد العشا والنِيمه
    برق برّاق دار مِيمه
    لفح اللي كزيزيمه
    وعقرّ الهاب نسيمه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..