من أيام التونج: نذر الخطر
تلقي العميد دعوة رسمية من الحاكم العسكري لمديرية بحر الغزال لحضور احتفالات مجلس المديرية والذي اختيرت مدينة رمبيك مكانا له والمجلس عبارة عن برلمان مصغر للمديرية وستجري الانتخابات لعضويته هناك ثم تعقد جلسة الافتتاح بحضور حاكم المديرية العسكري وكل رؤسآء الوحدات الحكومية بالمديرية والسلاطين وكانت المناسبة فرصة طيبة للتعرف علي هذه المدينة الكبيرة والتي تلي واو في اهميتها وتوجد بها المدرسة الثانوية للبنين الوحيدة في كل الجنوب .. وخرج صاحبنا مبكرا في ذلك الصباح الخريفي وكان الصبح طيب الهواء في نداوة والأزهار بالوانها الجذابة في الحديقة يفوح اريجها والسماء حبلي بسحب دهماء مبشرة بالغيث ، واعتلي العربة ( الكومر ) الي جانب السائق ميممين صوب مدينة رمبيك وتستغرق الرحلة اليها زهاء الساعتين والطريق شريحة وسط الغابات الكثيفة وتحفه من الجانبين علي مدي البصر الحشائش الطويلة التي ترتفع الي فوق قامة الانسان ، وما ان تحركوا بضع كيلومترات حتي بدأ رذاذ المطر في الهطول وشعر بخدر لذيذ بفعل الهواء المنعش والمناظر الخلابة واغفي في سنة من النوم افاق منها منزعجا علي توقف العربة بغتة وسأل السائق عن الأمر ، واجابه ( جنابك شوف قدامك هناك في شنو ) واشار بيده الي الامام ، ونظر وعلي بعد خمسين مترا تقريبا رأي اسدا راقدا متمددا علي الطريق ، واحس بخوف وبرغم ذلك كان مأخوذا بمنظر هذا الهزبر الرابض امامهم ، فعهده بالاسد الذي شاهده داخل القفص في حديقة الحيوان بالخرطوم صغير الجثة هزيلا وربما كان الحارس يقاسمه قوته من اللحم ! اما هذا الماثل امامهم فشيئ آخر فهذا عملاق ضخم الجثة عظيم الهامة غزير الجمة لبدته كأنها شجرة تشابكت اغصانها واوراقها وعيناه كرتان من الجمر ، وخال انه اذا ضرب الكومر بيده العظيمة لانطبق الحديد او لشطره أثنين ، وكان اول سؤال وجهه للسائق هو : هل من نجاة من هذا الوحش المارد ؟ وطمأنه بأن الأسد لا يهاجم الأنسان الا اذا بدأه بالعدوان أو اذا كان جوعانا علي النقيض من اللبوة التي تفتك بالحيوان والانسان دون استفزاز وقال له ان يصبرا حتي ينصرف الاسد من تلقآء نفسه .. وابطل السائق محرك العربة وجلسا ساكنين وصاحبنا يخال انفاسه تتلاحق حارة كبخار متصاعد من مدخنة القطار القديم الذي يسير بالبخار ويحسب ان وجيب قابه في قوته اصوات نوبة ضاربها منجذب هيجه الوجد ، واستوثق ثانية من السائق عما قاله من طبع الاسد فأكده له ودخل شيئ ون الطمأنينة الي نفسه واستحضر ما يحفظه من القران سور وأيات يتحصن بها ، وتقاطعت في ذهنه شتي الاحتمالات فلا يدري ما يدور في جمجمة هذا الوحش وماذا اذا غير من طبعه وحذا حذو لبوته في اللؤم والافتراس ؟ وهل معدته الان ممتلئة أم خاوية ؟ يخيل اليه انه شبعان مستكفي ويبدو ذلك من اضطجاعته المتراخية الكسلي ولكن علي أسوأ فرض هل ستكون منيتهم علي يد أسد ؟ لا بأس ! لئن يموتون بين براثن ملك الغابة اكرم من ان يموتوا علي ايدي الضباع أو الذئاب وعلي كل حال تنوعت الاسباب والموت واحد .. وان لم يكن من الموت بد فمن العجز ان تموت جبانا ، واخذ يشد من أزر نفسه الوجلة بهذه المقولات ليحثها علي الثبات ( والصقر ان وقع كتر البتابت عيب ) ، وظلت اعينهم معلقة بهذا الوحش الرابض امامهم ترقبه في اهتمام وخشية ، وسارت الدقائق بطيئة كبطء المتكاسل المتشاغل عن العمل .. يا لله ! هل توقف الزمن ام تسارع خوفنا ولهفتنا للخلاص ؟ وبعد ما يقرب من ثلث ساعة من الزمن خالها ساعات بل يوما بطوله قام الاسد وتمطي .. يا الهي ! اهذا اسد ام حصان ؟ في هيئة أسد ؟ هذا العلو وهذه الضخامة وهذه المهابة تملأ نااظري المرء اعجابا ورهبا.. ومشي الاسد بتؤدة وعظمة ونظر تجاههم نظرة طار منها قلب صاحبنا فزعا ، ثم سار في طريقه ولا يدري اكانت نظرته تلك استخفافا ” بهم ام شفقة عليهم ؟ ودخل الحشائش الطويلة وابتلعته الغابة وردت الروح فيهم ولكنهم تلبثوا في موضعهم وقتا حتي اطمأنت قلوبهم وايقنوا ان ملك الغابة لن يرجع ثانية .. ثم ادار السائق العربة واستانفوا الرحلة الي رمبيك ، واسترخت الاعصاب المشدودة واخذ صاحبنا يدخن سيجارة اثر اخري بتلذذ واضح ولم يتحرج من اعطآء السائق سيجارة ولكنه رفضها تأدبا وقال انه لا يصح ان يدخن امامه ، ولم ينقطع المطر من التهطال الا لفترة قصيرة شم يعاود النزول مرة اخري برفق كبطش الغريم بغريمه أو كحنو الحبيب بحبيبه .. ولم يروا في طريقهم انسيا ولا حيوانا سوي الاشجار الكثيفة المورقة الخضرآء والمياه الدفاقة من السماء والجارية علي الارض ، وبعد مسيرة اكثر من ساعة مروا علي قرية شوبيت ويميزها وجود كنيسة ومدرسة قريبا من الطريق رائعة البنيان وتتميز بطلائها الابيض من الخارج وبدت شيئا غريبا ” وسط هذه الادغال ، وسيرتبط اسم هذه القرية مستقبلا باغتيال الزعيم السياسي الجنوبي وليم دينق الذي اغتيل فيها وكان رئيسا لحزب سانو والذي كان يدعو للفدريشن أي الاتحاد الفدرالي بين الجنوب والشمال ولا ندري اليد الآثمة التي اغتالته ولم يكشف النقاب حتي الان عن قتلته ولكن ما يدعو للحسرة والاسي والتوجع انه لو استجيب لمطلب الفدرالية منذ ذلك الوقت كما وعد الساسة الشماليون لقفلنا ابواب الجحيم التي انفتحت علي بلاد السودان من حرب اهلية ما زال اوارها مستعرا فقدنا فيها ما فقدنا من ارواح غالية وسكبنا فيها دماء عزيزة وانفقنا فيها اموالا طائلة و غذينا حزازات وضغائن وثارات وخربنا بلادنا بايدينا .. والنتيجة اننا قبضنا الهواء ! واصبحنا الان وقد وافقنا علي تقرير المصير للجنوب بين خياري الوحدة أو الانفصال ويحدث هذا بعد اربع واربعين سنة منذ ان نادي وليم دينق بالفدرالية التي تحفظ كيان الوطن الواحد …وما زلنا نحرث في البحر .. ، واقتربنا من رمبيك وكانت تاتينا اصوات النقارة وتزداد علوا كلما اقتربنا من رمبيك وفي مشارف المدينة خلب انظارنا مرأي عشرات حلقات الرقص الصاخبة وقد ارتدي الراقصون خير زينتهم من عقود السكسك الملون واساور وخلاخيل من اسلاك النحاس والعاج ودهنوا اجسامهم بالزيت ونقشوا عليها اشكال من البقع بالالوان الحمراء والبيضاء والصفراء واخرون توشحوا جلود الفهود واتخذوا منها طواقي في الرؤوس وجماعة يؤدون رقصة الحرب وحرابهم مشرعة الي عنان السماء تبرق وتلمع في اشعة الشمس والارض تهتز تحت وقع اقدامهم والهواء يرتج من هدير اصواتهم الحماسية ، وتمثل صاحبنا قول الشاعر في وصف الجيش اللجب : كأن مثار النقع فوق رؤوسنا واسيافنا ليل تهاوي كواكبه
ولكن هنا الكواكب المضيئة في الرماح المشرعة لا تتهاوي ولكن تعلو وتتنخفض في الجو .. وكانت حلقات الرقص تمثل جميع القبائل التي تقطن المديرية واكثرها حلقات قبيلة الدينكا بافرعها المتعددة فهؤلاء دينكاأقار قاطنوا رمبيك وهؤلاء دينكا ثيت ودينكا اتويت .. وهؤلاء الجور والبونقو ، وكانت هذه الحشود الراقصة تقطر منها البهجة والحبور واصوات الغناء تعطر الجو ان صح التعبير ودقات النقارة وضرب الارض بالاقدام المحجلة تجعل المرء يتحرك في طرب رغما عنه وقد يتحرك الجماد ان كان يشعر ، واستقبلهم في مدخل المدينة مدير المدرسة الشانوية الاستاذ الكبير محمد الامين كعورة ورحب بهم ووكل احدهم ليدلهم وياخذهم الي مقر استضافتهم حيث ينزلون ، واخذهم الي منزل ضابط المنزل الحكومي الذي أعد للضيوف مع منازل ا خري ، وبعد قليل حضر ضابط المجلس الجنوبي من الخارج ورحب بهم اجمل ترحيب وعرفهم بنفسه واسمه تيتو ادبو وتزين جبينه ( فصادة ) الشلك ، ثم احضروا لهم العصائر الباردة واتبعوها بافطار شهي وكانوا ستة من الضيوف في المنزل كل اثنين في غرفة والمنزل والاثاث والاكسية في غاية النظافة والنظام وعين لهم خادمان لخدمتهم ، وامدوا كل واحد منهم بورقة مطبوعة عليها برنامج الاحتفال وكان البرنامج ممتلئا بالحفلات والاستقبالات ومن ابرز نقاطه اجراء الانتخابات في نفس اليوم واعلان النتيجة شم انعقاد الجلسة الاولي بقاعة المديرية والقاء خطاب الحاكم العسكري ، وفي المساء يلبي الضيوف دعوة العشاء الكبير الذي يقيمه مفتش الحكومة المحلية بداره وفي اليوم التالي يتفرج الضيوف علي حلقات الرقص المختلفة يليها في العصر يوم رياضي في الميدان الكبير بالبلدة لمختلف الالعاب الرياضية والالعاب الشعبية شم يبدأ في المساء ليلة مسرحية تقدم فيها فرق القبائل المختلفة اغانيها ورقصاتها ، وقد اقيم مسرح ضخم في الساحة وانير المسرح واساحة بالانوار الكهربائية واتي زودت بها من المدرسة الثانوية التي لديها مولد كهربائي .. وكان الضيوف يتناولون وجبات الطعام في مكان اقامتهم وكان الطعام جيدا وشهيا وبكرم مبالغ فيه علي عادة السودانيين وكان كل شيئ معدا بدقة وامتياز ، وقال العميد ان البلدة كلها كانت في حالة فرحة طاغية وكأنه العيد ، وكان العرض علي المسرح في اليوم التالي بالغا حد الروعة ، وبينما الكل في انسجام يتابعون العرض بتشوق انطفأت فجأة جميع الأنوار في المسرح والساحة ولم تمض سوي دقائق حتي احضروا رتائن اضاءت المسرح وجنبات الساحة واستمر العرض مما يدل علي تأهبهم وتحسبهم لأي طارئ وهو برهان آخر علي حسن الأعداد والتنفيذ وهو لا يستغرب من ذلك الرجل القائم علي رأس هذه العملية مفتش الحكومة المحلية الهمام صلاح قرشي ، ويذكر له العميد من قبل ان كان لديهم بالتونج مدرستان جاءتا من الشمال منقولتان الي رمبيك تنتظران في التونج وسيلة مواصلات لتحملهما الي هناك ، وصدف ان كان المفتش قرشي عائدا من واو في طريقه الي رمبيك والذاهب اليها لا بد ان يمر بالتونج التي تتوسط الاثنين وحدثه عن المدرستين ورحب باخذهما معه ، ولما كانت عربة الكومرلا تحمل غير اثنين من الراكبين في الامام مع السائق فقد امر المفتش السائق بأن يركب في صندوق العربة في الخلف وقام هو بقيادة العربة الي رمبيك واجلس المدرستين في المقعد الأمامي .. وقال العميد ان الحفل الممتع استمر وانفض قريبا من منتصف الليل وذهب الجميع منتشين ، وكانت ليلة من ليالي العمر لا تنسي ، وعندما وصلنا الي المنزل وجدنا حارسين من الجنود بسلاحهما ولم يكونا موجودين قبل ذلك وشعرنا بشيئ غير عادي وسألنا مرافقنا عن الأمر فاجاب انه كانت هناك خطة وضعها المتمردون للهجوم علي مكان الحفل وابادة كل الموجودين من الحاكم العسكري والمسئوليين الحكوميين ولكن قوة الجيش كشفت المؤامرة في الحظات الاخيرة واحبطتها وقبضت علي المتامرين وكان قطع الكهرباء بداية لتنفيذ العملية ، فقد قطعوا سلك الكهرباء الموصل من المولد بالمدرسة الي مكان الحفل…
والي فصل جديد
هلال زاهر الساداتي
[email][email protected][/email]