ترى أين أنت أيها البحّار الغريب: أم أنها لعنة الغجر؟

هي قصة ذلك البحار السوداني الذي قابلته يوما خارج البلاد
فأثار في النفس كثير من ‏المشاعر ‏و الخواطر. و من بينهم هذه الخاطرة .‏
أيها البحار الغريب ذو الجسم الاسمنتي المتين ترى أين أنت ؟
في أي البحار تحلق أنت الآن كما النورس ؟
في أي الموانيء؟
في أي الأرصفة؟
في أي المحطات؟
أم سئمت من البحار و الموانيء إذ لم تجد فيهن الدفء الذي تريد؟
أم ترى وجدته في صدر عاشقة حنون؟
أم ترى صرتَ كائنا برمائياً بعد أن أنهكك السفر و التسكع في المواني الغريبة ؟
أم يا ترى رجعت لحبيبتك التي التقيتها يوما ما في مرسيليا؟..‏
تلك الزوجة الطارئة التي التقيتها في ذلك الميناء المزدحم …‏
ذلك البلد الذي شهد التقاء نُطَفُكما لتنجبا كائنا هجينا …‏
‏….كائنا غريبا عن الميناء و عنك و عنها …كائن ضائع الهوية…‏
ترى هل لا زلت أسيراً ل(لعنة الغجر)؟
لعنة الغجر التي ذكرها الشاعر مصطفى سند في قصيدته ‏التي يقول فيها: ‏

فى الصبح حين يرجع المهاجرونْ
من آخر البحار، فجأةً يسافرون‎
لأن لعنة الغجر‎
منقوشةٌ على عيونهم‎
لأن في عيونهم سحابة الضجرْ

الوقائع:‏
لعلك يا (س) لا تذكرني و لا تذكر إنك التقيت بي.. ‏
كما أنك من المؤكد لن تتذكر اسمي(ليس لأنك لم تسألني ‏عنه)….‏
لن تتذكره فقد كنت سارحا بعيدا …لربما في نقطة آخر البحار.‏
و لكني أنا أذكر ذلك ، كأن ذلك حدث بالأمس…‏
في منتصف التسعينات و صهد النهار القاهري يلهب الظهور بالعرق السخين ….‏
و رطوبة الجو تطرد ‏النوم النهاري العنيد من العيون المتعبة ..‏
و أنت في غرفة الفندق ذو الثلاثة النجوم المزروع في أحد الشوارع الجانبية…‏
و أنا كنت ُشابا يافعا أجمع شتات خبرة مبعثرة عن مبادئ التجارة المختلطة بالرغبة في ‏التسواح ‏و التجوال الشبابي المراهق..‏
هل تذكر ذلك؟ أعرف أنك لن تذكره…‏
‏ لعلك لا تعرف أن ما جذبني لاقتحام خلوتك في ذلك اليوم ، و الحديث معك كان شيئا غريبا…‏
كان شيئاً غريبا لا ‏تصدقه…إنه شخيرك. نعم شخيرك المخيف الذي يكاد أن ترتجف منه ‏أوصال ذلك الفندق الصغير ذو ‏الطابقين…‏
شخيرك و جسمك العملاق العريض اللذان كانا مصدر فرجة للعاملات في الفندق إ كان باب ‏الغرفة مفتوحاً
أشفقت عليك حينئذ !‏
إي والله أشفقت عليك برغم أنني أصغرك بأكثر من عقد من الزمان..‏
أشفقت عليك بالرغم من جسمك الاسمنتي المتين………‏
نعم أشفقت عليك بالرغم من صدرك الواسع الأرجاء و ‏طولك الفارع المهيب.‏
اقتحمت عليك وحدتك و سكونك لأحذرك من ترك باب غرفتك مفتوحاً…‏
‏…لأحذرك خوف السرقة و أنت تنام في ‏كهفك العميق لا تسمع صوتا و لا تحس ركزا…‏

و لكن لنترك كل ذلك جانباً: يا ترى أين أنت الآن؟
‏ كانت ملامح وجهك بمنخاره المربع و خدودك المنتفخة و وجهك العريض يوحيان بكل ‏براءة ‏الدنيا و بكل بساطة أهلنا الطيبين…‏
‏ فدونت منك معبّرا عن صداقةِ الغريبِ للغريب.. في البلد الغريب…‏
‏…..و قبِلْتَها أنت دون تأفف أو تردد..‏
و جلسنا..و تعارفنا ..و تسامرنا و ربطت الألفة المؤقت الطارئة بين قلبينا…‏
و لكن أيضا كان يفصل بيننا فراغ…فحاولت ملئه بالتعارف لنزداد إلفة و وثوقاً: ‏
‏- لماذا أتيت للقاهرة؟ تجارة أم عمل؟
‏- أنا أعمل بحار…‏
‏- ……. جاءت مركبنا للسويس لمدة ثلاثة أيام..‏
‏- هل تجيء القاهرة كثيرا
‏- احيانا..‏
‏-؟؟
‏-لأن معظم سفرنا في أوروبا..‏
‏- منذ كم سنة و انت تعمل في البحار؟
‏- حوالي عشرين عاما.‏
‏- طبعا متزوج…. و لديك أبناء…( كان يناهز الخمسين من العمر تقريباً)‏
و هنا صمتَ طويلا حتى خلته لن يجاوب..‏
‏…. و لُمتُ نفسي على فضولها و سذاجتها و على طيش صاحبها…و صمتُّ أنا كذلك..‏
أشعل غليونا غليظا. و عدّل من جلسته… ثم ابتسم و هو ينظر لدخان غليونه…‏
‏… تنحنح قليلاً مُسَلِّكاً حنجرته الضخمة حتى خلته سيحكي لي تاريخ العالم أجمع…‏
لا أدري لماذا داهمتني عندئذٍ صورة القرصان المخيف في قصة جزيرة الكنز ‏treasure ‎island‏ مع أن محدثي رغم ضخامة كل شيء فيه إلا أنه كان مسالما وديعا ‏و أليفاً…‏
قال لي فجأة:‏
‏- البحارة عادة لا يتزوجون.. و لا يعشقون.. ( ثم ضحك)‏
‏-؟؟؟
‏- ….لأنهم قد عشقوا البحر و تزوجوه.. ‏
ثم واصل حديثه
‏- لكني في إحدى زيارات مركبنا لمرسيليا قابلت (ليز) و هي من إحدى جزر الكاريبي و ‏التي ‏تعيش في فرنسا…‏
‏-؟؟
‏- تزوجنا و أنجبنا إبناً..و لكننا انفصلنا بعد عام…‏
‏- لماذا انفصلتم ؟ لعله عدم التوافق؟..أو لأنك تعشق البحر و لا تحب الاستقرار…‏
ضحك و قال:‏
‏- لا ..لا …‏
ثم واصل:‏
‏- هل تصدق أن سبب الانفصال كان أني أردت أن أسمي الولد على اسم أخي( يحي) ..‏
و هي تريد أن تسميه على أخيه (خوان).فاختلفنا و غضبت أنا و تركتها…‏
‏- و لكن بعد ذلك اكتشفت أن اسم يحي بالعربي هو نفس اسم خوان بالاسبانية ..‏
‏- دنيا غريبة
‏- و لم تقابلها بعد ذلك؟
‏- لم يحدث مطلقاً
‏- غريبة1 و ابنك تركته لها؟
‏- لم اتركه لها و لكني تركته للزمن
لم أفهم جملته تلك ….يبدو أن البحارة حتى لغتهم غريبة..و ليس تفكيرهم فقط…‏
‏- ابنك هذا مسئولية تربيته تقع عليك انت..لو صار لصا او مجرما..‏
‏- الآن عمره يكاد يكون ستة عشر سنة ..سأذهب خلال الشهور القادمة لألتقي به…‏

كان ذلك اللقاء قد ألقى ظلاله في نفسه و بث تساؤلات عديدة في ذهن شاب يافع مثلي . ‏‏.. شاب ‏كان ينظر للحياة بمنظار مثالي …‏
لم أكن أظن أن ما نقرأه في القصص يحدث أغرب منه في الواقع..‏

ساهرت تلك الليلة و نمت متأخرا..‏
و في الصباح ذهبت لاصطحابه في رفقة كوب صباحي…‏
‏….و لكني فوجئتت بغرفته فارغة…. و حقيبته ‏الوحيدة غير موجودة.‏
‏-؟؟؟؟
وقفت مشدوها أنظر إلى فراغ الغرفة…..لم انتبه إلا لجملة بلكنة مصرية:‏
‏- صاحبك سافر الصبح ‏
التفتُّ لأجد موظف الاستقبال يقف غير بعيد مني..‏
‏ – ترى هل سافرت لآخر البحار؟
‏- إذن هكذا أنتم أيها البحارة كطيور النورس تعشقون فقط الموانئ و البحار…و تكرهون المدن ‏
‏- تسافرون فجأة و عيونكم تحدق فقط في البحار العميقة و السماء الزرقاء…‏
‏- آه …الآن عرفت السبب : لأن لعنة الغجر منقوشة على عيونكم.‏
‏- أخي الغريب الذي لم أعرف اسمه حتى.. ‏
‏- لقد دعوت لك في سري بكل صدق … دعوت لك بأن تُشْفَى من لعنة الغجر..‏
و دعوت لك بأن تعود لتحضن من جديد …..ابنك (يحى) أو خوان لا فرق ‏
و لكنه ابنك. ابنك الذي تركته ذات يوم في المدينة الكبيرة ..‏

[email][email protected][/email]‎

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..