المشروع العلماني في السودان بين الحقيقة والوهم

(1) تاريخ السودان القديم يحدثنا عن ممالك ودويلات وسلطنات عديدة بعضها وثنية وبعضها مسيحية وبعضها اسلامية ، وإذا تمعنت في أي المشتركات تجمع بينها لوجدت ان علاقة الحكم والسلطان فيها بالغيب من اهم المشتركات ، في العصور القديمة في مملكة كوش حيث سادت الوثنية تجد ان ادعياء معرفة الغيب او ان شئت قلت الكجور والسحرة هم مرجعية الحكم والسلطان ، وإذا انتقل بك التاريخ الي دويلات المقرة وعلوة ونبتة والتي تدين بالمسيحية ستجد ان الدين كان حاكماً مطلقاً في الحياة العامة والخاصة ، وبعد دخول الاسلام الي السودان يحدثنا التاريخ عن الممالك الاسلامية تقلي والمسبعات والبجا وكبيرهم السلطنة الزرقاء في سنار والتي جعلت واتخذت من الدين مرجعية في الحياة كلها و يعتبرها مؤرخي الحركة الاسلامية السودانية انها اول مشروع اسلامي في السودان ، و بعد انهيار السلطنة الزرقاء جاء الحكم التركي للسودان وصار السودان جزء من الخلافة الاسلامية في الاستانة عند الباب العالي ، وبعد انهيار الحكم التركي جاءت دولة المهدية وحكمت وقاتلت وسالمت وحاربت وفعلت كل ما فعلت تحت راية الدين .
(2) استناداً الي التاريخ ومروياته القديمة لم يشهد السودان في تاريخه نظاماً سياسياً اسس علي غير المرجعية الدينية حتي تلك الايام التي ارتفعت فيها شعارات الماركسية الحمراء الرافضة للدين في الخرطوم لم تدم سوي ثلاثة ايام ، ولم يعرف الشعب السوداني اصواتاً داعية الي ابعاد الدين عن الحياة العامة في عصوره القديمة حتي في فترة المستعمر الانجليزي ، فالأحزاب السياسية السودانية التي تشكلت يومئذ كانت تستمد شرعيتها وسطوتها من الطوائف الدينية ولعل هذا كان ذو اثر ايجابي في حينه ولكن كان له تأثيراً بالغاً في السلبية علي مستقبل الحياة السياسية في السودان ، بل يمكن ان نذهب ابعد من ذلك فحتي حركات المقاومة والمجاهدة ضد المستعمر الانجليزي علي قلتها كانت تتكئ علي رصيد من المعاني الدينية الجهاد والاستشهاد اضافة الي موروث السودانيين في الرجولة والشجاعة ، و حتي بعد التحرر من المستعمر الانجليزي لك ان تتخيل ان اول رئيس وزراء سوداني كان من طائفة دينية لا انتماءاً ظاهرياً فحسب بل تجسد هذا الانتماء في حياته الخاصة والعامة ولعل حادثة معهد المعلمين تبين عمق التدين الذي عليه زعيم الوطنية السودانية ، والقارئ عن الحياة الاجتماعية في ايام المستعمر الانجليزي يلمس بوضوح حيل المستعمر في ضرب التدين عند العامة فمجاورة الخمارات والاندايات للمساجد وجعلها كلها في ساحة واحدة لم تكن حيلة ناجحة في ضرب التدين و يحدثنا التاريخ ان الاندايات والخمارات تخلو من روادها في اوقات الصلوات وان غالب الشعب يستبشع هذه الممارسات الشهوانية في اوقات العبادات .
(3) اول مقاربة يمكن النظر اليها في بروز تيار علماني في السودان هي تجربة اليسار الماركسي السوداني ، ولكن اذا قارنت تعريف العلمانية في أي صورة من صورها المعرفية او السياسية في كل مدارسها مع المشروع اليساري الماركسي ستجد ان هناك مفارقة كبيرة بين المدرستين ، فالمبادئ العلمانية ليس لها اشكالات مطلقة مع الدين ، فأصول مبادئ العلمانية تقوم علي ابعاد الدين من الحياة العامة وحبسه في الكنائس ودور العبادة ، وعلي نقيضها تماماً مبادئ اليسار الماركسي التي تقوم علي عدمية الدين ، تريد ابعاد وإزاحة الدين من الحياة العامة و الخاصة استئصالاً كاملاً ، و برغم هذه المفارقة المعرفية لكن يمكن ان نجد بعض خيوط التلاقي بين المدرستين العلمانية واليسارية الماركسية مما يدلل علي بروز تيار علماني سوداني يمكن مقاربته بالعلمانية في أي من صورها .
(4) من الممارسات الشائهة التي تشكلت عليها السياسة السودانية سياسة الاختباء والتخفي تحت وجوه لا تعبر عن ذات الوجه ، فمنذ اختباء ودس شعراء المقاومة السودانية حب الوطن تحت ستار الحبيبة دخلت كل الاشياء عندنا تحت الستار ، وإذا سلمنا ان اختباء حب الوطن تحت ستار الحبيبة كان لدواعي سطوة المستعمر وبطشه فليس هناك من مسوغ للسياسة السودانية لممارسة هذه العادة غير الحميدة ، ولعل سياسة التخبئة هذه كانت سبباً في عدم نشؤ تيار علماني سوداني ، فلم يشهد تاريخ السودان السياسي نشأة حزب سياسي سوداني تقوم فكرته علي العلمانية ويعبر عن ذاته وعن افكاره وتصوراته ، صحيح ان هناك العديد من الدعوات الفردية من مثقفين سودانيين داعية الي نظام علماني ولكن هذه الدعوات والمبادرات الفردية لم تتطور الي فعل سياسي جماعي ولم تمشي علي ساقين او حتي عكازتين ، وظل العجز يلازم دعاة المشروع العلماني في السودان وظلت العلمانية تختبئ وتتستر داخل الاحزاب الطائفية ذات المرجعية الدينية ويصيبك البعض بالدوار وهو يتحدث بلسان علماني وهو يجلس تحت القبة ،وظلت تختبئ داخل الحركات المسلحة المدافعة عن احلام اهل الهامش وتستعجب حينما تختلط دعوات المناداة بالعدالة للمناطقية والقبلية بدعوات العلمانية والحداثة .
(5) بعد الفشل الذي لازم المشروع الاسلامي في بعض فصوله تعالت بعض الاصوات بان واحد من اسباب الفشل يعود الي المحاولات التي بذلت من الاحزاب والحركات المسلحة التي تختبئ بداخلها العلمانية السودانية وان تلك المحاولات اسهمت في اضعاف المشروع الاسلامي وعدم وصوله الي نهاياته المطلوبة وقد لا اتفق مع هذا الاستنتاج وأظنه خاطئاً ، فالمشروع الاسلامي كان يحمل بداخله بذور فشله ، ولكن اذا كان التحليل اعلاه يحمل شيئاً من الموضوعية فلماذا لا نساهم في ان يكون الصراع بين ثنائية الاسلام والعلمانية علي السطح بدلاً من الاختباء غير الحميد ، وتستغرب لماذا يصر البعض علي مصارعة طواحين الهواء كما يفعل دون كيشوت ، لماذا ترهق النخبة السودانية الدولة السودانية بصراع عبثي يقضي علي نسيجها المهترئ والمتهالك اصلاً .
(6) اعتقد انه من الواجب لموضعة الصراع ووضعه في سياقه المنطقي ان نثير اسئلة مشروعة لماذا لا يبرز التيار العلماني الي السطح مباشرة بدون ادوات تجميل تخفي وجه الحقيقي ، لماذا لا يبشر بمقولاته وأفكاره وتصوراته بلا واجهات ولافتات ، هناك مقولة مشهورة للشاعر الفرنسي بودلير يقول فيها يا ليت كل النساء جمعن لي في امرأة واحدة فأنال منها وأستريح ، علي نسق هذا القول للشاعر الايطالي ولكن في سياق مختلف ، اعتقد ان من مصلحة الوطن ان يكون التنافس والصراع فيها بين تيارات قليلة ومحدودة تملك وعي وفكر بدلاً من هذا العبث فما نملكه من احزاب تتجاوز المائة لم تعرفه الديمقراطيات الاوربية مجتمعة .
(7) ختاماً صراع الافكار مهما تطاول وتجذر افضل مما يعيشه السودان اليوم من صراع عبثي لا تعرف له هوية ولا تعرف له نهايات كما لم تعرف له بدايات ، صراع الافكار اذا قدر له ان يُصبح واقعاً ، ستنزوي كل الحركات المسلحة التي ترفع راية الغلابة والهامش وتخبئ تحتها رايات العلمانية و ستنتصر الحقيقة علي المخبوء مثلما تنتصر الزوجة علي العشيقة في روايات تولستوي ، وسنطوي كثير من الصفحات السوداء في تاريخ السودان ، و سنري ديمقراطية علي اصولها كل يعرض بضاعته ويختار الشعب من يريد بلا غش وبلا خداع ، ولن تكون كل الحياة بلون الورد فستظهر اعراض الامراض القديمة وسيكون الصراع بين تمشيخ الدولة وتعلمن الدولة وهو افضل كثيراً من صراع البندقية والدبابة وسيكون الصراع حاضراً بخطابه التسفيهي بين من ينعتون الاسلام بالظلامي والماضوي وبين من ينعتون العلمانيين بالانحلال والخروج عن الملة ولكنه صراع حميد لا يساوي فقدان ارواح وأنفس بريئة ، وقد يصيب البعض الخوف من تجارب العلمانيين كما حدث في مصر وسيكون الرد ان المسرح السوداني لا يشبه المسرح المصري ، وسيكون الرد ولكن المسرح التونسي له مذاق اخر وشكل اخر فليس كل الهذيان نتيجة صراع مع الحمي .
علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]