قراءة متانية لتعويم الجنيه السوداني

كل التنبوءات تشير الى قرار قادم مع بداية العام الجديد وبدأ العمل بالموازنة الجديدة وهو تعويم الجنيه السوداني.
تعويم الجنيه السوداني في أبسط صورة له هو ترك سعره مقابل العملات الاخرى أى ان يتحرك سعره أمام العملات الأخرى، حسب العرض والطلب، فكلما زاد الطلب على العملة الاجنبية ارتفع سعرها والعكس، وفي هذه الحالة نجد أن البنك المركزي لا يستهدف سعراً محدداً للعملة في حالة التعويم المطلق، ويكون سعر العملة هنا أقرب لسعر الذهب والمعادن والنفط الذي يتم تغييره يومياً في الأسواق الدولية، حسب العرض والطلب ، بل قد يتغير من ساعة إلى أخرى.

وفي حالة اعلان البنك المركزي السوداني سياسة التعويم المطلق للجنيه السوداني فمعنى ذلك انه لن يتدخل البنك المركزي لاستهداف سعر إداري وعند نقطة محددة للجنيه السوداني مقابل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني وغيره من العملات.
وفي حال التعويم المطلق للعملة للجنيه السوداني والتي لا تستهدف سعرا محددا للعملة كما قلت، يكون حال سعر العملة مثله مثل أسعار السلع الموجودة في الأسواق، خاصة السريعة التقلب كالخضروات والفاكهة والطماطم والأغذية.
هنا لا يتحرك الجنيه السوداني أمام العملات الاجنبية صعوداً وهبوطاً بحسب المؤشرات الاقتصادية للدولة من معدلات نمو وبطالة وتضخم وأسعار مستهلكين ووظائف وصادرات وايرادات النقد الأجنبي، إنما تحركه المضاربات في سوق الصرف ورهان تجار العملة على حصد مزيد من الأرباح حتى ولو جاء ذلك على حساب الأسواق وأسعار السلع والاقتصاد الكلي.
التعويم المطلق الذي مقبل لاتخاذ قرار اعتماده لا نجده في معظم دول العالم، حتى اقتصاديات مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان نجد أن بها تعويماً شبه مدار، فهذه الدول تتدخل في سوق الصرف عن طريق مصارفها المركزية.
والدليل على ذلك أزمة الإسترليني الأخيرة الناجمة عن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فعقب الهبوط الحاد للإسترليني عقب استفتاء يونيو الماضي من نحو 1.5 إلى 1.3 للدولار، هنا تدخل بنك إنكلترا المركزي، وأعلن رصد نحو 430 مليار دولار للدفاع عن العملة البريطانية ضد أي مضاربات محتملة وتلبية احتياجات المستثمرين والمؤسسات المالية الراغبة في الخروج من البلاد.
ولا توجد دولة في العالم تترك عملتها المحلية معومة تعويما كاملاً، وإلا تعرضت لخسائر فادحة كما حدث للاسترلينى إبان حكم مارغريت تاتشر في تسعينيات القرن الماضي، نظرا لخطورة ذلك على الاقتصاد الكلي وجاذبية البلاد للمستثمرين الدوليين وكذا ضررها للأنشطة المدرة للعملات الأجنبية مثل الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين.
ولذلك فإن معظم عمليات التعويم التي تتم في العالم تكون مدارة بحيث يتم إدارة سوق الصرف من قبل المصرف المركزي.
قرار التعويم للجنيه السوداني هو من أخطر القرارات التي تتخذها حكومة المؤتمر الوطني ، فالتعويم في حاجة لتوافر شروط كثيرة، منها امتلاك الدولة لاحتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، بحيث يتم من خلالها ليس فقط استهداف سعر محدد للعملة، ولكن الدفاع عنها ومواجهة أية مضاربات عليها، وكذا توافر سيولة دولارية ضخمة في السوق تلبي احتياجات المستثمرين والتجار والمستوردين وأصحاب المصانع والمسافرين للخارج للعلاج أو السياحة أو التعليم.

والكارثة هنا هي أن يقوم البنك المركزي بتعويم الجنيه السوداني دون امتلاك النقد الأجنبي والسيولة المالية الكافية، هنا يحدث تذبذب شديد في سعر العملة، وهذا أمر في منتهى الخطورة، لأن الاستثمارات الأجنبية سوف تهرب من السودان في حالة اتخاذ القرار لان أسواق الصرف تصبح غير غير مستقرة والعملات المتذبذبة وهو ما مهدد للاستثمار في بيئة يتصف سعرها صرفها بعدم الاستقرار ، كما ستهرب الاستثمارات المحلية أيضا من هذه الأسواق، لأنه في حال التذبذب الشديد للعملة يصبح من الصعب تحديد التكلفة الاستثمارية الحقيقية للمشروعات، وتتآكل معها الأرباح المحققة تحت ضغط التضخم وتذبذب العملة وارتفاع تكلفة الإنتاج خاصة للمواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة.
ومن هنا اؤكد أن البنك المركزي غير قادر وغير جاهز الان على تعويم الجنيه السوداني ، لأنه لا تمتلك أدوات الدفاع الكافية ومواجهة المضاربات المحتملة كتلك التي تحدث حالياً.
اذا اقبل الساسة في بلادي الى اتخاذ هذا القرار وفي هذا التوقيت بالذات فتصبح كارثة اقتصادية لا تحمد عقباها، حيث سترتفع معدلات التضخم بصورة غير معهودة من قبل ، وسترتفع اسعار كل السلع الاساسية بما فيها البترول الى نسب لا تقل عن مائة بالمائة وسيقفز سعر الدولار الى اكثر من خمسون جنيه ، كل ذلك خلال عام واحد ، فبالتالي ستنخفض القيمة الحقيقية للدخول باقل من النصف وعندها ستزيد الدولة من الضرائب والجمارك لمقابلة الحاجة لزيادة الاجور والمرتبات والتي بلا شك ستضر بالانتاج المحلي ومدخلات الانتاج المستوردة. ويصبح الاقتصاد السوداني في دوامة دائرة مفرغة لا يمكن الخروج منها.

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..