طب الأعشاب، مأساة السودان ، الإسلام السياسي … و ما بينها

مهدي رابح
قال تعالي في محكم تنزيله : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) صدق الله العظيم سورة الكهف , الآية رقم 104
الإسلام السياسي ، كما هو معلوم ، يمكن تلمس نشأته الأولي علي يد سلسلة من الشيوخ الإصلاحيين الأفاضل و الأجلاء ما بين نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين ( الأفغاني، محمد عبده, الكواكبي, الطهطاوي , رشيد رضا و آخرون), كان غالب انتاجهم الفكري الكبير هو استجابة متزنة الي حد كبير لما يمكن ان نسمّيه بداية اصطدام الحضارة الغربية بالحضارة العربية الإسلامية و التي كانت آنذاك في ضعف و انحطاط كبيرين ، و من المنطقي القول ان دخول نابوليون الي مصر كانت أبرز لحظاته التاريخية المؤسِّسة , او كما عبر عنه احد المفكرين انّ صوت مدافع الحملة الفرنسية ايقظ العرب من سُباتهم العميق .
كما اتّسم , أي انتاج الشيوخ الاصلاحيين السابقين الفكري ,بلا شك , بدرجة كبيرة من الجهد ,الحرفية و الأمانة.
فكان رد الفعل للاصطدام الطويل جدا , الذي دام الآن أكثر من 120 عاما, كما راينا في البدء, انبهارا مبرّرا ,و الذي عبرت عنه بصورة مكثفة مقولة الشيخ الإمام محمد عبده الشهيرة عند عودته من مؤتمر في باريس عام 1881 م ( ذهبت للغرب فوجدت اسلاما و لم اجد مسلمين و عدت للشرق فوجدت مسلمين و لم اجد اسلاما ).
ثم تحول ذلك الأعجاب تدريجيا و علي مدي اجيال من (المنظرين ) الاسلامويين الي شك ثم رفض و كراهية ثم بغض للعالم كله تقريبا بما في ذلك جزء كبير من المجتمعات المسلمة ذاتها و المستهدفة بما سموه تجنيا صحوة, كما نجده في اوضح تجلياته عند الفكر الاقصائي لسيد قطب , ممثلا في رميها, أي المجتمعات المسلمة , بالجاهلية و الكفر احيانا ثم استحداث المبادي الخبيثة التي بني عليها متّبعوه منهجهم كما فعل من خرج من عباءتهم ممن تبنّوا العنف الشديد بمسمياتهم المختلفة من قاعدة و داعش و غيرهم , و هي مبادي ما سمي بالعزلة الشعورية و الاستعلاء بالأيمان و اعادة تعريف فقه التقيّة و التمكين و الضرورة .. الخ , بما يناسب تكتيكاتهم الملتوية , فاتحين بذلك باب استباحة الأموال و الدماء و الانفس التي حرم الله الا بالحق , علي مصراعيه.
كل تلك التطورات السلبية المتراكمة في الفكر الأسلاموي كان عمادها حتما عدة عوامل متداخلة يمكن ذكر بعضها دون ادِّعاءٍ بالإحاطة :
اهمها نفسي ناتج عن عقدة نقص و إحباط شديدين ازاء التقدم المهول لما ظل في المخيلة الجمعية العربية المسلمة و المصابة بالكِبر الباثولوجي , مرتبط بارض الكفر و التحلّل , و قلة الحيلة امام ذلك الواقع المؤلم و انعدام القدرة و الأدوات للّحاق بركب الحضارة الإنسانية .
و بلا شك ايضا لعب الاستعمار و من بعد ذلك قيام دولة يهودية في قلب العالم الاسلامي و الهزائم المتلاحقة لدولِه دورا محوريا.
كما ان البطش السياسي العنيف لنظام عبد الناصر و انظمة عربية اخري اضطر اعضاء مؤثرين من الإخوان المسلمين للّجوء و لسنوات طوال الى المملكة السعودية حيث تأثر كثير منهم بالفقه الوهابي و الفكر السلفي مضيفا لبنة اخري الي تطرف الفكرة الأصل الهزيلة و بالتالي القابلة للتحوّر اينما كثُر المال .
فجاء الفكر الاسلاموي السياسي ردا تبسيطيا لهذه التفاعلات و الأسئلة ، مولودا مشوها كما نرى ، و بالتحديد كما نشهده بصفة يومية ، نحن ضحايا دولة ( المشروع الحضاري السودانية )..ذات الشعارات العاطفية الفارغة المحتوي… خصوصا و اننا نعيش هنا تجربة النسخة (المقلدة و غير الأصيلة ), الأكثر فقرا فكريا و اخلاقيا من الحركة المصرية ،الأم ..
لكن و على اية حال فان كلتيهما ، اي الأصل و النسخة اعتمدتا علي رؤية قاصرة تتمثل باختصار شديد, نتمناه غير معيب , في انه بدلا من بذل مجهود كبير لاستيعاب القفزات الحضارية الكبيرة المتمثلة في الإبداعات الفكرية و المفاهيم الاخلاقية ثم المضي قدما بالبناء عليها ، اي العمل من الأسفل للأعلى ، ركنوا الي قناعة كسولة بأن الرجوع لأصل الدين الإسلامي و الاستيلاء علي السلطة يكفي حتي تأتي البركات و الخيرات متسابقة و متدفقة تحت ارجل و فوق رؤوس المؤمنين المخلصين , و ليتحول العالم الاسلاميالعربي بعد برهة قصيرة سيدا على العالم أجمع غالبا بالسيف طبعا.
أي البناء من الأعلى للأسفل ,
و هي, و لنكن منصفين , و اذا استثنينا عامل البركات , رؤية تتفق مع كثير من الحركات السياسية المؤٙدلجة التي اثبتت التجارب عبر التاريخ الحديث , فشلها المريع علي ارض الواقع ,كما ارتبطت عهودها بمآسي انسانية كبيرة و فشل اقتصادي مريع .
لكن الفارق الواضح بينها و حركة الاسلام السياسي عموما , بجانب مفهوم البركات الضبابي الي حد كبير هو ان الأخيرة بدلا من القيام بجهد فكري عميق لابتداع اجابات جديدة قد تستفيد منها الإنسانية أو علي الأقل التواضع و الاعتراف بالضعف ثم محاولة استيعاب الإرث الإنساني الكبير الموجود, ركنوا الي استنكاه حلول من النصوص بصورة مباشرة او غير مباشرة احيانا عبر تبنّي مراجع اجتهد فيها علماء عظام قبل الف و نيف سنة , و محاولة استنباط العبر من تجارب دولة الخلافة الإسلامية الأولي و التي تم تصويرها بكثير من الاختزال و عدم الامانة العلمية و لكأنها كانت مثالية و جنة لله في الأرض , رغم ان التراث الاسلامي عينه يقول بغير ذلك.
و ازاء ابتسار التاريخ و التراث الإسلامي في صورة مخلة-جميلة , فيها كثير من التبسيط و السذاجة , قد تصلح لكتاتيب طلاب المدارس الأولية علي احسن تقدير , و رفضهم بغرور و كِبر التواضع و الاعتراف بالهوان علي كافة الأصعدة و محاولة دراسة الحضارة الإنسانية المعاصرة (و التي سموها تحقيرا بهدف الأقصاء ,غربية) و الاقتداء بها بهدف اعادة البناء و لو علي سبيل البراغماتية فقط لا غير ,اصبح اصحاب مشروع الإسلام السياسي نتيجة لهذه المقاربة المعيبة غير قادرين علي الإجابة علي التساؤلين المركزيين الرئيسين , اللذان لا مناص منهما البتة لبلوغ اهدافهم المدّعاة :
*السؤال المركزي الأول هو : كيف تدير دولة ؟ .
و بما أن السودان هو الدولة الوحيدة , السنية علي الأقل , التي سيطر فيها و مازال الإخوان المسلمون علي مقاليد الحكم و لمدى ثلاث عقود طوال , فلا خيار لدينا الا ان نجزم بان هذا النموذج هو التمثيل الحقيقي لدولة الإسلام السياسي, و التي يمكن تعريفها كالتالي :
واقعيا , و بدلا من ان تكون الدولة جهازا خدميا ملتزما بدستور و قوانين علي هدى عقد اجتماعي واضح المعالم , يضمن الفصل بين السلطات و قومية المؤسسات من اجل امن و رفاه المواطن و تنمية الوطن ,يصبح تعريف الدولة هو دولة تدّعي ايهاما رفع لواء الإسلام و تحمل حقيقة سيفا حادا, تسلطه علي الرقاب سلاحا مصحوبا بإرهاب فكرى من اجل الاستمرار في السلطة باي ثمن , واضعة مصلحة الوطن و المواطن في مؤخرة سلم الأولويات بينما يأتي تمكين الجماعة الحاكمة (أي الإخوان)و اعوانهم و تنابلتهم من الثروة و السلطة بشتى السبل, في المقدمة دون رادع قانوني او وازع اخلاقي .
و يمكن ايضا اعادة تعريفها كنظام دولة : هي خليط من كليبتوقراطية(أي سلطة اللصوص) ممزوجة بثيوقراطية مبهمة(أي سلطة رجال الدين) , تفتقد لأي رؤية او خطط او برامج تتعدّى التكتيكات الهادفة للحفاظ علي السلطة.
او يمكن توصيفها كذلك بحكم المحصلة النهائية للحالة السودانية , بانها دولة فاشلة سياسيا و اقتصاديا , فقدت ثلث مساحتها بانفصال الجنوب و اجزاء اخري في كل من حلايب و الفشقة, تشتعل اطرافها بحروب اهلية مزمنة, يموت فيها الأطفال جوعا بينما ثلاثة ملايين من اخوتهم خارج مؤسسات التعليم و قرابة ثلث مواطنيها اميين .كما ان معدلات الفساد و الفقر و العطالة فيها تنافس صدارة القوائم العالمية .
* السؤال المركزي الثاني هو : ما هو تعريف اصل الدين المقصود بالدّعوة للرجوع اليه ؟
واي من مفاهيم اصل الاسلام يقصدون ؟؟.. هل هو السلفي الحنبلي ام الأشعري ام العقلاني الفلسفي ام الصوفي ؟ ، و كل منها بحر لم يجرؤوا الخوض فيه لسببين في تقديري : الافتقار الي الأدوات المناسبة و الميكيافيلية السياسية.
فكانت الاستجابة العبقرية للتساؤلات المذكورة آنفا هي بدلا من الاجتهاد و التجويد هو اتخاذ الطريق الأقصر المُختزل في تعظيم شعائر العبادات و المبالغة في شكل التديّن المتصوّر عند العامة البسطاء , ممثلا في فرض الحجاب علي النساء و التضييق علي حريتهن و اطلاق اللّحي, و بالطبع المبالغة في تشييد المساجد بدلا عن المشافي او المدارس .. و قس علي ذلك من المظاهر الخارجية.
و كما قال احد الأساتذة الأجلاء عندما تجد احدهم يعظم من شيخ الإسلام بن تيمية أعرف انه سلفي و حين يمجد الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي فانه صوفي أو العلامة الفقيه ابن رشد لتعرف انه فلسفي عقلاني أو الشيخ ابي الحسن الأشعري للأخوة الأشاعرة الوسطيين .. لكن حين يدعي احدهم انه يمجد كل هؤلاء و ربما زاد عليهم الرازي ,بن سينا , الفارابي و الكندي و رصفائهم الذين اتهموا بالزندقة لأسباب وجيهة, حسب وجهات الراي الفقهية التقليدية السائدة , فتأكد انه اخ مسلم .
و في حالتنا السودانية البئيسة تحديدا بلغ تجويد المظهر درجة تكاد تكون مضحكة باستبدال التصفيق بالتكبير و الإكثار من لبس الجلابيب و تغيير لهجة الكلام للجماعة بإدخالهم بعض البهارات الصوتيّة كالإدغام مثلا و المبالغة في ترديد بعض الألقاب و الكلمات في غير مكانها و زمانها .
فكانت النتيجة الحتمية للامتحان المكشوف (كما يقال) فقر فكري علي مستوي الفلسفة و العقيدة و العلوم بتقسيماتها المعروفة … تُرجم بسقوط أخلاقي باهر لحظة الاستيلاء علي مقاليد السلطة بالقوة .
خلاصة القول إن الإرث و الانتاج الحضاري غربيا كان أم شرقيا ، منذ شخبطات كهوف ما قبل التاريخ و حتي اختراع النوفوجين الذي سيسمح قريبا جدا ببناء أنسجة حية حسب الطلب ، هو إرث إنساني واحد و لا يملك مكابر الا الاعتداد به و محاولة البناء عليه بدلا من المقاربة الساذجة بالسعي لإيجاد اجابات للمشكلات المعاصرة من النصوص المقدسة بصورة شبه مباشرة، أو انتظار إجابة اكثر مباشرة من السماء … كاستخدام الجن كما اقترح أحد الإخوان الملهمين نموذجا ضمن نماذج اخري كثيرة ليس هنا المكان لذكرها .
و في الختام من حقنا ان نسأل …
هل استخدام السيارة و الهاتف و الحاسوب و الدواء ، و حتي المدافع و الطائرات الحربية… الخ ، مقبول لدي اصحاب الفكر الاسلاموي لأنه لا يرتبط بإلغاء السلطة الابوية عموما أو سلطة رجال دين او مجتمع أو دولة ؟ بل العكس ،يضمن بقائها كما في حال الأسلحة الحديثة الموجهة نحو صدر الشعب المغلوب علي أمره ؟.
بينما نظم الحكم الحديثة ( رغم احتوائهما علي مبدئي الحكم الوحيدين المذكورين في القرآن الكريم صراحة، و هما الشوري و العدل ) و هي إرث حضاري إنساني أثبت جدارته بالتجربة بامتياز كالدواء سواء … غير مقبولة و خبيثة و حرام و غربية و غريبة عن عاداتنا و تقاليدنا لأنها تهدم مشروعية منظومة السلطات المثبطة للتقدم و الإبداع و المذكورة آنفا ؟ …
فالنوفوجين و الاعلان العالمي لحقوق الإنسان يجب اعتبارهما منتج واحد في سياق الإبداع الإنساني و الإرث الحضاري الواحد , كليهما يخدمان مصلحة كل فرد من الجنس البشري في هذه الحياة الدنيا القصيرة ،مسلما كان ، يعيش في منشية الخرطوم، إم شامانيا، يعيش في (قضاء) مدينة نوك بجرين لاند-القطب الشمالي .
فيا ايها الأخوان المسلمون, عساكر او متعسكرون و غيرهم و من لف لفهم , طلاب السلطة و الجاه نحن لن نوافق علي رؤيتكم غير الناضجة حتي يسترجع الشعب السوداني السلطة الشرعية التي اقتلعتموها غدرا و يقتص لكل من اغتيل غيلة و يعيد المال الذي نهبتموه بليل الي خزائن الدولة حيث ينتمي , ثم بعد ذلك يمكنكم التوكل علي الحي القيوم و ركوب الدواب و التطبّب بالأعشاب … و ربما بعد حين ستجتهدون و تبهروننا نحن البسطاء بما لم تأت به الأوائل من اختراعات و ابداعات عظيمة .
لكن و حتي ذلك الحين وفي انتظار تجلياتكم المرجوّة الثرة سنواصل السعي الحثيث لبناء دولة الحرية و الديموقراطية و حقوق الإنسان و سنواصل نحن المساكين استخدام الدواء و الهاتف و السيارة أيضا ،
بعد اذنكم طبعا…ان لم يكن هنالك فتوى بتحريمها!!.
مهدي رابح
[email protected]