رسالة إلى صديقي الأديب عمر جعفر السوري..

(1)
اثارت رسالة من رسائلك أيّها الصديق، شجناً يصعب استجهال أثره، أو التغاضي عن إحيائه في الذاكرة الآفلة، أصداءَ تلكم الأيام الذهبية التي عشنا وعاش معنا في ظلّ بهائها، جيل تفتّح على الدنيا في عقود القرن العشرين الوسيطة. أشرتَ أيها الصديق العزيز في رسالتك لي، إلى سنوات القرن العشرين وهيّ سنوات ذهبية بامتياز، وبأعلى معيار تعتمده أسواقه، رضي من رضي وأبى من أبى. قرأتُ رسالتك ، فطربتُ من أساي على الذي مضى من سنوات تعابثنا بحلوّها وبمرّها، وانطوتْ غير أبهة بكسبنا ولا بخساراتنا الماثلة. هي الحياة وسننها: يذهب جيل ويأتي جيل، والأيام دوَل بين الأجيال، كما قد يعلم الناس، والعبرة أن تكون الحكمة هي الصفة المستدامة، وإنْ كنت على غير اقتناع كاملٍ، بأنّا ملكنا من الحكمة ما قد يؤهّلنا لإحالة خيوطها الذهبية لجيلٍ تالٍ، عصفتْ به وبأيامه عاصفات الدهر، من ثورات المعلوماتية وانقلابات وثورات الاتصالات الكاسحة، وفوق ذلك وبعده، ما حاق بأحوال البلاد من تراخٍ في الإمساك بما يصون كيانها ووحدتها من غوائل الدهر، ومن أفاعيل صناع الأزمات، فصرنا أقرب إلى الفناء منّا إلى البقاء . .
(2)
لكنْ دعني أحزن معك قليلاً، لما أثارت أبيات المُتنبّي التي أوردت في فاتحة رسالتك من شجون، رأيتُ أن أحدّثك عنها، لا إعراضاً عن محزنات الوطن، بل نشداناً لظلٍّ يحمينا من هجير السياسة الحارق، واستصناع هدنة للنفس، قد يراها غيري زائفة مخاتلة، وأراها مطلوبة، كطلب الكحل لعين ضَعُفَ إبصارها. هدَّتْ الحُمّى أبا الطيّب، فنظم أبياته الشهيرة :
مَلومكُما يجلّ عَن الملامِ وَوقـع فعـالهِ فـوقَ الكلامِ
ذراني والفلاة بلا دليـلٍ وَوجهي والهجيرُ بلا لِثامِ
فإنّي أستريحُ بذي وهَـذا وَأتعبُ بالإناخةِ و المقـَامِ
أوردتها في رسالتك، وكأنّك عرفت أن المتنبّي نطق عن حالي ذات يومٍ وأنا ببيروت، بمثل ما نطق عن حالك، وأنت مُعنّىً بعِلّتك وحُمّاك، عافاك الله ومجدّك وأكرمك وأزال ألمَكَ إلى أعدائك.
(3)
كنتُ قد أُخطرت أنّ مهمّتي في بيروت قد انقضَتْ، وأنّ عليّ أن أغادر مودّعاً بيروت إلى الخرطوم. شرعتُ أرتّب لقاءات الوداع، وفق التقاليد المراسمية المتبعة، مع قيادات الحكومة اللبنانية، وقد مكثت لعامين في ظروف أزمات لبنان، والتي تعرف أنتَ عنها الكثير، ولكنّها الأيام وهيَ دول، كمثل دولة الأجيال التي حدثتك عنها أعلى رسالتي هذه.
دخلتُ على رئيس الوزارة اللبنانية وقتذاك، دولة الرئيس فؤاد السنيورة مودّعاً، وهو رجل بشوش ورقيق الحاشية، له في السياسة ظلٌّ خفيف وروح ودود، وفوق ذلك له محبّة بالشعر العربي، ولا تكاد تجالسه إلّا ويهمس إليك بأبيات من الشعر العربي، تُحلّي كلامه السياسي، ويعلّقها عليه كأنّها الأقراط على أذن الحسناء. بادرني مبتسماً بعد ترحيبه: أهكذا تغادرنا سريعاً ؟ السفراء يبقون سنوات وسنوات بيننا، برغم ظروفنا الصعبة . .
أسعفني المتنبّي بذات الأبيات الثلاثة التي جاءت في رسالتك، وأعدتُ عليه البيتين الأخيرين من شِعر المتنبّي:
ذرَاني والفلاة ُ بلا دليـلٍ وَوجهيَ وَالهَجيرُ بلا لِثامِ
فإنّي أستريحُ بذي وهَـذا وَأتعبُ بالإناخةِ والمقـَامِ
وانشرحتْ أسارير دولة الرئيس السنيورة للشِعر، وأدرك أن السّفراء كما الشّعراء أيضاً – ومثلما قال الشاعر الفارس- يتعبون من الإناخةِ ويملّون المقام إذا طال . . ! وكم سعدت بهذا التخاطر الذي لاح لي في رسالتك . .
( 4 )
سنواتُ السبعينات من القرن العشرين، سَمَونا فيها بمشاهد لا تبرح الذاكرة، ولا تغادر الوجدان، كمثل ما حكيت عن قصة رحيل “أيزاك هيز”، ذلك المغنّي الذي ميّز موسيقاه بصوتٍ رخيم يجلجل كأنه يخرج من طبول أفريقية، تهزّ شجر الغابات هزّا. تسمع الصوت وتسمع الموسيقى تدوي على غنائه الشجيّ، فتجدهما يسموان تلازماً على ارتفاع سامق. إنه “أيزاك هيز”، صوت يسمّيه أهل الموسيقى صوت “الباص”، ولعله صوت “الترعيد” الذي قال عنه الشيخ الرئيس “ابن سينا”، وهو المرجع في الطبّ كما في الموسيقى، منذ القرن الخامس الهجري كما تعلم. ولقد أدهشني جيل أبنائك، أيّها الصّديق، يدركون قامة موسيقيّ مُغنٍّ، مثل ” آيزاك هيز”. فرحت لهم فقد عرفوا مذاق الذهب معنا . .
لن أنسى فضلَ صديقي وابن خالة لنا، هو كمال الأمين السمكري، وقد آب من بعثته في برلين في تلكم السنوات، وهو رجل تكاد تستدفئ ممّا في وجدانه من نيران لاهبة توّاقة لارتياد عوالم المجهول، واستكناه كواليس الدنيا، لو أدركتَ ما أعني أيها الصديق. ذهب كمال إلى ألمانيا (الشرقية وقتذاك) وهو المتخصص في الزراعة، فعاد منها بماجستير في المكتبات، وطموحات عراض. أهداني أسطوانتين لـ”أيزاك هيز”، جاء بهما من برلين، إحداهما “شافت” الشهيرة من “هيــز”، وما كنت قد أنصتّ مليّاً إلى موسيقاه من قبل. لا يملك الواحد إن سمعه، إلّا أن تتعشق أذناه هذا الصوت الذي يملأ كلَّ الفضاء “ترعيداً”، ويهزّ البدنَ طربا. ولقد ارتحل صديقي كمال السمكري، بعدها في سنوات الثمانينات من القرن الماضي، إلى إحدى مدن الجنوب الأمريكي، ولا أدري لربما كانت “ممفيس”، حيث كان لـ”أيزاك هيـز” مقامٌ هناك . . !
(5)
يرحل “إيزاك هيــز” رحيله النهائي في عام 2008، فترانا نأسى لرحيل مساحاتٍ من ذاكرة ابتنيناها في سنوات ذهبيّة، ثم هيَ الآن تتفلت من بين الأصابع، ولا يبقى لنا إلّا أن نحكي للأبناء ولجيلٍ لاحق، عن بريقٍ خالدٍ أضاء لنا أياماً حالكات، وقد غابت كواكبه. نحدثهم عن وهجٍ جاءنا من مجرّات الإبداع فشغفنا به. عن دمع نجهد أن نحبسه في المآقي فيأبى إلّا أن يراه جيل، إن ارهف السمع سيعرف أيّ موسيقى أطربتنا، وأيُّ صوتٍ ملك وجداننا، في سنوات أفلتْ في القرن العشرين وشيّعناها بحسراتٍ ومآقي باكيات. كنّا في السودان نهتزّ أيضاً في ذلك الزّمان، مع الفنان شرحبيل أحمد، وقد أسهم في نقلة موسيقية وطفرة بعيدة الأثر، بدأها صوتٌ مبادر مقتحم هو الموسيقار السوداني عثمان ألمو، في زمانٍ كان الغناء في أغلبه شعراً عميقاً رصينا، ولكنه رهين طمبرة صوتية رتيبة، بلا وترٍ ولا أبواق، هو ما أسموه فن غناء “الحقيبة”، فيما التطريب الوتري جاهد جهاداً خجولاً، حتى شقّ له موقعاً بعد ذلك. هل يتذكر الناس أننا ومن السودان، قد سبقنا بلداناً كثيرة، ربما بينها مصر، في تمرين الذائقة الموسيقية، للأخذ بأسلوب أغاني الـ”سول” واعتماد الجيتارة والطبول، وهي الأقرب لجغرافيا الوجدان الأفريقية الكامنة فينا انتماءاً وانحيازا . . ؟ ذلك كان “الأفرو بيت”- الايقاع الأفريقي- الذي قلت عنه أنت، وقد صدر في السودان عن “ألمو” و”شرحبيل”، وعبّرنا عنه قبل ان تعرفه الذائقة الموسيقية المصرية. .
(6)
في سنوات الخمسينات من القرن العشرين، دخل الشاعر الفيتوري إلى الساحة الأدبية في مصر، بذات الإيقاع الأفريقي، واستفتح في الشعر وبناء القصيد بنفَسٍ أفريقيّ، وكأنه خارج من حركة “الزنوجة” التي تجذّرت بعض فروعها، في القارة السوداء الفرانكفونية، وفي جزر المارتينيك. ذكر لي صديق قديم حكاية عن زيارة لموسيقيّ ضخم هو “بوب مارلي” أنه حين جاء إلى القارة الأفريقية ، مرّ على الخرطوم، وطوّف بطبول الذاكرين يوم جمعة في ضريح “الشيخ حمد النيل ” بمدينة “أم درمان”. لا أعرف صحّة القصّة، ولكن قل لي أيها الصديق، ألا تسمع أصداء تلك الطبول في بعض موسيقى الـراحل “بـوب مارلي”.. ؟
( 7 )
تحدّثني عن “فيلا كوتي” وجمهوريته التي استبيحت من قبل عسكر نيجيريا، فتستحضر الذاكرة أمرين :
أولهما هو الأثر النيجيري في ذائقتنا الموسيقية في السودان النيلي. ها هو الراحل أبو داؤود- وأنا من أشدّ معجبيه- وعائشة الفلاتية في زمان الخمسينات والستينات من القرن العشرين، يشكّلون إضافات مهمة لهذه الذائقة الفنية، ونحن في حزام السافنّا السوداني، مصهرة لثقافات عابرة ومقيمة، فتجد لغناء السودان اليوم مساحات واسعة من الاستماع في أصقاع “سودان السافنا” الجغرافي، وهو حزام يشمل بلدانا مثل اثيوبيا والصومال وجيبوتي شرقاً، ومثل تشاد ومالي وأجزاء من نيجيريا، حتى أرض الشناقيط وربما السنغال، غرباً. حين احتفلتْ نيجيريا باستقلالها، كان عبد العزيز داؤود وعائشة في لاغوس، نجمين مشعّين في تلك الاحتفالات. كانت عائشة تغني للسردونا كبير نيجيريا، بلغة الهوسا، لسانها الأم ولسانه، وهي التي أثرتْ تلك الذائقة السودانية ببصمة لا تخطئها أذن مرهفة. حين أنظر إلى حال موريتانيا وبكل تنوّع مجتمعاتها بين شمال يختلف عن جنوب، ولا نسمع عن نعرات لتيارات تنادي بالفصل بين الشقين، أسألك أن تضع يدك أيّها الصديق، على قلبك جزعاً لما يحيق بنا في السودان، وحالنا ليس على اختلافٍ كبير عن حال أرض الشناقيط، وبيننا وبينهم وشائج لحم ودم، ولكنه العجز عن استنطاق عبقرية التنوّع التي حبانا الرحمن بنعمائها . .
(8)
ثاني الأمرين أيها الصديق، هو ذلك القلق المزعج لمصيرٍ مُحزن، آل إليه حال “فيلا كوتي” في نيجيريا. هذا مصير يحيلنا لقناعة نرى فيها المجدّدين في ساحات التعبير الابداعي، يعانون الأمرّين دائماً، وبوتيراتٍ عالية. تضيق بهم وبما يبدعون، نُخَبُ من مهووسي السياسة ، فتذهب موسيقاهم وأغانيهم إلى غياهب السجون لتصادمها مع التيار السياسي السائد، وتذوي أغنيات مثل “خمر وكأسٍ وشفاه” للرّاحل سيد خليفة، أو “القبلة السكرى” للرّاحل عثمان حسين، أو “شذا زهرٍ” للكابلي، ولا يشفع له أنها من شعر “العملاق” محمود عباس العقاد. حجب الأغاني وحظرها إذن خيار أول، أما الخيار الثاني، فهو سَوْق الفنانين أنفسهم سوقاً إلى السّجون، هذا إن لم يلحق بهم في أسوأ الحالات، مهووس من مهووسي السياسة الخرقاء، بسكاكين تجزّ الأعناق جزّا، مثلما شهدنا الرحيل المأساوي لمُغنّي الوجدان السّويّة: الراحل خوجلي عثمان، قبل سنوات. . !
( 9 )
دعني أعبّر لك عن جزيل امتناني لما أضفت على ما سبق أن أشرت أنا في مقالي عن “فاعلية السودان” في الساحة الأفريقية، على وجه التخصيص. حديثك عن ذهب “الكونقو”، حديث يفتح ملفات لا يحب كثيرون عندنا، التطرّق إليها. عرفت جنرالاً من أصدقائي، في الجيش السوداني في تلك السنوات القديمة، حدّثني عن كيف تسلّموا صناديق الذهب “الكونقولي”، وقد حُفظتْ في مكاتب حاميته العسكرية، وتحت بصر جنوده، ومن عفةٍ أصيلةٍ، ما مدّ أحدٌ في الحامية يداً ليمتلك شيئاً منها .”عين الجندي السوداني ملآنة”. جرى ترحيل صناديق الذهب المهولة تلك فيما سمعت عنه، إلى البنك المركزي في الخرطوم، بعد ذلك. والقصص كثيرة والروايات تختلف حول ذهب “الكونقو”، وقد أعود إليه في مقالٍ أخصّ به الموضوع في زمنٍ لاحق.
( 10 )
أما عن الراحل “محمود درويش” ، فقد عرفته في الخرطوم، ثم في آخر أيامه حين التقيته في بيروت، وصدمني رحيله المفاجئ فحزنت عميقاً. أختم رسالتي إليك وأهدي ابنك وجيله، بعض أبيات قصيدتي في رحيل “درويش” :
لأنكَ كُنْتَ تَرَانَا،
سبَقتَ النّجوْمَ أفوْلاً لتأفَلْ
تسَللَ شِعرُكَ قبْلَ الحُضُوْرِ وَقَبْلَ الغيابِ،
كَأنّكَ قدّرتَ أنْ لَوْ قرَأنَا سنَخْجَلْ
أخَذْتَ الحَيَا في قَوَافيْكَ . .
لاَ فَرزْدَقَ يَهْجو. .
لاَ جَريْرَ يُشَاتِمُهُ في عُكَاظِكَ أخْطَلْ
فكُلّ القصَائِدِ مَسْموْمَةٌ
والبُحوْرُ مُغيّبةٌ وَالغيَابُ تَوَغّلْ . .
في
رحم الله زماننا الذهبي يا صديق . .
+++++
*من كتاب جمال محمد إبراهيم وعمر جعفر السوري:”مؤانسات سودانية في أدب الرسائل”، قيد الطبع
“شرتَ أيها الصديق العزيز في رسالتك لي، إلى سنوات القرن العشرين وهيّ سنوات ذهبية بامتياز، وبأعلى معيار تعتمده أسواقه، رضي من رضي وأبى من أبى. قرأتُ رسالتك ، فطربتُ من أساي على الذي مضى من سنوات تعابثنا بحلوّها وبمرّها، وانطوتْ غير أبهة بكسبنا ولا بخساراتنا الماثلة.”
آآآآآآآآآآآآآآآآخ منك ون آآآآآآنا الطاغية في كتابتك يامنفلوطي عصرك
“يغازل في المرايا خيالو وماعارف…… صباحك مالو ياليل”
“شرتَ أيها الصديق العزيز في رسالتك لي، إلى سنوات القرن العشرين وهيّ سنوات ذهبية بامتياز، وبأعلى معيار تعتمده أسواقه، رضي من رضي وأبى من أبى. قرأتُ رسالتك ، فطربتُ من أساي على الذي مضى من سنوات تعابثنا بحلوّها وبمرّها، وانطوتْ غير أبهة بكسبنا ولا بخساراتنا الماثلة.”
آآآآآآآآآآآآآآآآخ منك ون آآآآآآنا الطاغية في كتابتك يامنفلوطي عصرك
“يغازل في المرايا خيالو وماعارف…… صباحك مالو ياليل”