حسين بازرعة.. قصة حب أقوى من الحقيقة..

الخرطوم: محمد الأقرع
حسين بازرعة… (اسم) يستفز الحروف فتتهاتف جميعها لكي تلتصق بسيرته وترويها… (إنسان) في أطوار الكمال العشقي المتسامح حين هوى وذاب حباً تفاعل معه وناصره الشاطئ والنجم والمساء… (شاعر) طوّع القوافي بصورة غريبة ليعبر عن ما لاقى واتقى… (هرم) إبداعي أعاد ترتيب مكتبة الغناء السوداني بعد أن مدَّ رفوفها و(كوبليهاتها) بكلمات بليغة الوصف عميق المعنى، أنيقة التطريب…
مدينة سنكات بالبحر الأحمر سنة 1934م شهدت لحظات ميلاده وعاش فيها طفولته وصباه ويحكي الراوي أنه قد نشأ في كنف أسرة ترجع أصولها لمدينة (حضرموت) اليمنية…
في بواكير شبابه اجتاحته عاصفة عاطفية عنيفة زلزلت كياناته الداخلية واقتلعت كل ما فيه من ثبات فهام في مجابهتها ووصفها شعراً.. عاصفة كان لها ما بعدها من منافٍ وعزوف…
حاول كثير من الصحفيين استفساره عنها من أين أتت؟ ماذا حدث؟ وكيف كانت النهاية؟ ولكنه كان يستأثر بالمعلومات لنفسه مع إعلام النذر القليل من الأصدقاء المقربين جداً…. أحياناً يكتفي ببعض التلميحات التي تفهم في السياق العام…
حتى خلال الأشعار لم يورد ذكره اسم البطل الآخر في القصة (المحبوبة) ولا حتى وصفها الشكلي وأيضاً اكتفى بالجانب الجوهري والرمزي…. عموماً وكما قال هو نفسه كان (قصة حب أقوى من الحقيقة) انتجت إبداعات أدبية عظيمة أصبح بمثابة المأوى للعاشقين لدرجة أن بعضهم توجها في خانة أجود ما قيل في العاطفة والهجران في السنين الأخيرة.
قصتنا…!!
ملامح القصة قد تتضح بعض تفاصيلها من خلال أغنياته، فالمبتحر فيها سيكتشف سريعاً الفترة قبل التجافي (بالهوى العشناهو بي أعصابنا خمسة سنين ومات) والدلائل في الأشعار والأغنيات جميعها يشير إلى أن هذه القصة تم نسفها بصورة مفاجئة، لم يكن بازرعة يتوقع حدوثها فتجد مقاطع مثل (فجأة يتبدل مصيري.. القا أحلامي وسمايا) وأيضاً تجده يقول (اجتمعنا على المحبة في ثواني في طريق مفروشة بي حبي وحناني، وافترقنا كل واحد في طريقه، أنا ضائع وإنت مخدوع بالأماني)…
النص لدى بازرعة كانت بداياته مختلف من ناحية أن جميع النصوص أو يكاد يفتتحها مخاطبةً ومعاتباً الحبيبة مثلاً تجد (جاي تترجاني أغفر ليك ذنبك ما كفاية الشفتو من نارك وحبك، أتذكر في الدّجى السّاجي… مدار حديثنا العذب… وفوق العشب نستلقي… لنطوي صفحة الغيب…، حاولت اديك من روحي شوية… من أدبي وفني ونهار عيني…. حاولت كتير ما لقيت… من حبك غير كل أسية ،….الخ).
فراق المحبوب كان المحرك والملهم الأساسي عند بازرعة.. ويمكن أن تصنف أعماله ضمن البكائيات على ما حدث والرجاء بالعود ومصابرة النفس.. وفي هذا السياق كان يخاطب المحبوبة مسترجياً العودة ومسترجعاً الذكريات والتضحيات التي قدمها هو في سبيل العشق ومثال لذلك أغنية شجن التي قال فيها:
لي متين يلازمك في هواك مر الشجن
ويطول بأيامك سهر ويطول عذاب
يا قلبي لو كانت محبته بي التمن
يكفيك هدرت عمر حرقت عليه شباب
لكن هواه أكبر وما كان ليه تمن
والحسرة ما بتنفع وما بجدي العتاب
أحسن تخليه لليالي وللزمن
يمكن يحس ضميره ويهديه للصواب..
مسألة رجاء المحبوبة ومطالبة العودة تفهم دائماً في اتجاه أن عاطفة بازرعة لم تكن مستسلمة لتكالب الأزمان والنسيان وحفيف قول العوازل فكل النصوص أو أغلبها بعد العتاب وذكر مشاهد اللقيا وأماكنها والتباكي على الأطلال (ها هنا كان موعدي وها هنا كان مقعدي) كان يختم النص بضرورة إعادة تلك الأيام (أفلا عُدت وعادت قصة الحُبِ كأمسِ، وتعود مراكب ريدنا لي بر الأمان، لا وحبك لن تكون أبداً نهاية، بكرة تلقى الدنيا بي خيرها.. ونعيما… الخ).
يمكن أن تجد مثلاً كلمات دالة على وجود خيبة عاطفية واستسلام لكن لو تتبعت بقية النص ستجده سرعان ما أنه زجر نفسه أو تحدى واقعه يقول: (لكن حنانك ليا، أو حتى مشاعرك نحوي، ما كانت حقيقة.. كانت وهم، كانت دموع مسفوحة بأحرف أنيقة) وفجاة يرجع ويقول: (ما بإيدي.. لو ضباب الغيرة أعماني، وزيف لي
الحقيقة، إنت نبع حناني.. إنت كياني)..
المحبوبة ملهمة المواضيع والمعالجات..!!
لم يكن حبي متاعاً
لا ولا كان التياعاً
أو لقاءً أو وداعاً
حبي نابع من بلادي من جمالها وانطلاقها
أودعت حسن حبيبي من صباها كل باقة
من صفاء الطيبة والكلمة الحبيبة والطلاقة
كل رعشة حرف فيها ترجمت سر العلاقة
عشق بازرعة كان المنطلق الأساسي للإلهام الشعري لديه من حيث المواضيع والمعالجات.. فمن المعالجات مثلاً ستجد أن أغلب وأغلظ الاستحلافات (القسم) التي يسوقها لتأكيد شيء ما أو نفيه يتم عن طريق ذكر المحبوبة وأيامهم الخوالي، ففي بدايات أغنية قصتنا الشهيرة تجده يقول:
بالمعزة بالمودة البينا بي أغلى الصلات
بالهوى العشناهو بي أعصابنا خمسة سنين ومات
بالعذاب الشفتو والسر الكتمتو وباقي الطيبات
استحلفك تترك سبيلي.. وسيبني
أيضاً المواضيع التي كان يتناولها بازرعة شعراً ذات صلة وثيقة بقصته العاطفية، فموضوع الوطن مثلاً كان يعالجه بطريقة تعرفه باعتباره المكان الذي تعيش فيه المحبوبة أو الذي شهد حكايات الهوى واللقيا (ليك يا حبيبي للوطن).
الكلمة الأنيقة والوصف الدقيق والخيال المدهش كان أسلوب بازرعة في سياق الشعر وتطويع المفاهيم السابقة بدون كثير تمعن بصورة حصيفة ستكتشف درر بازرعة الوصفية (ضباب الغيرة، حف في كأسنا الرجاء، هاج مدمعي، الأماني تشيب، ونذيب الليل همساً وعناقاً وملاماً، ..الخ).
أخيراً…!!
عموماً كانت قصة حب بازرعة نفسه أكد أنها فوق إرادته وقدرته (أصلو حبك فوق إرادتي).. قصة حشد فيها بازرعة كل التفاصيل (النظرة الأولى، اللقيا، التجافي، العتاب، الغيرة، العوازل) وصوبها في اتجاه الصحيح، فزخرف الكلمات ووضح المعاني وأنتج الأغاني فكانت (ورسالة فني سامي.. تدعو للخير والمحبة) ستظل منارة للعاشقين.
الجريدة