رقصة العقل الأخيرة. قصة قصيرة

(هيا بنا تحرك بسرعة).
قال مساعد الشرطة جابر لزميله العريف يعقوب بصرامة مفتعلة وهو يرمي القبعة على طبلون السيارة بإهمال. نفخ دخان سيجارته كما ينفخ همه. بصق الحموضة العالقة بلسانه وقال.
(أدعو الله أن يعدي هذا اليوم على خير; فهو أول يوم لك بالشارع).
انطلق العريف يعقوب بالسيارة وما زال يدندن مع صوت الحوت الصادر عن جهاز التسجيل وهو يصدح بصدى الطيف الواسع (عمري).
مسح المساعد جابر وجهه تابع كلامه.
(لا أدري ماذا أصاب الناس هذه الأيام. في السابق كان الناس يعبرون عن احساسهم بصورة راقية. حتى المجانين كان يصيبهم جنون راقي. تجد الواحد منهم يرقص ويغني بالطريق. مع الموسيقى المنبعثة من المحلات التجارية وأكشاك المرطبات. على إيقاع صدفة والمرسال وخواطر فيل وفيفيان).
سكت وإلتفت ناحية العريف يعقوب وأشار للكاسيت.
(حتى الفتيات اليافعات. بائعات الفول والتسالي. كن يرددن مع هذا الحوت بلا حياء. فاض بي لهيب الشوق ما عارف أخبارك. أين ذهب كل هؤلاء الناس. أخشى أن يكونوا قد رحلوا مثلما رحلت هذه الأصوات الندية.
الجميع مكّفهر و واجم. أو يتحدث مع نفسه بكلام مبهم. بت أتشوق لمجنون تلبسته حالة انجذاب الدراويش يرقص ويدور بلا تعب أو لمنظر صبية تلميع الأحذية يرقصون ( أم برما). على إيقاع صناديقهم الخشبية الملونة بألوان الهلال والمريخ والمكتوب عليها بخط متعرج ولكنه معبر.. سيدا..و العجب حبيبي).
أشار بيده وهو يقول (اذهب بنا إلى تقاطع القندول. هناك حيث الحياة العملية الحقيقية).
في هذه الأثناء كان أستاذ الفلسفة بالجامعة العريقة; قد أنهى محاضرته لطلاب الفصل الدراسي الثاني للتو; والتي كانت تتحدث عن فلسفة الموت في الحضارات القديمة. وحينما هم بركوب سيارته سمع صوتا ينادي.
(يا دكتور.. دكتور موسى).
ترك مفتاح السيارة معلق بالقفل والتفت للوراء.
(أهلين زينب. زمن)؟
بفم تلونه ابتسامة داكنة قالت. (مشغوليات يا دكتور).
سكتت ثم قالت.
(ماتت وفاء).
الكلمات الموجعة لطمته بوجهه; فسقطت نظارته الطبية وتدلت على صدره. تمتم بلا وعي.
(يا الله… يا الله).
ركب سيارته. داس على وجعه بقدمه اليمنى بكل قوته; فانتفضت السيارة مسرعة مخلفة غبار ودخان كثيف ظل عالقا لفترة ثم ما لبث أن اختلط ببقية الأوجاع الملبدة في الأجواء.
بلا هدى تهادت اطارات السيارة بالأسفلت. بخطى مترنحة غاصت في الزحام. طوال الطريق ظل الدكتور موسى يحدث نفسه بكلام فلسفي عميق.
(الموت ذلك الحذاء الذي نتأبطه كظل ونمشي حافي القدمين. وعند موضع حتفنا كل يلبس حذائه ويهوى بجسده لأسفل بينما تحلق روحه لأعلى. ترى ماذا أصابك يا وفاء; وجعلك تنتعلين حذاء الموت بهذه السرعة؟. هكذا فجأة قررت روحك التحليق نحو البرزخ؟ آخر مرة شاهدتك فيها كنت وردة متفتحة بالحياة. برغم غمامة الحزن التي ظللت عينينك ولكن تلك النظرة الموجعة كشوكة النحل بقت في مكانها تحرس تينك العينين العسليتين. أهكذا تموت الورود متيبسة بأغصانها ويبقى عبيرها الفواح يلطف الأجواء؟. وأنا ماذا أصنع من بعدك يا وفاء؟. حياتي معلقة بين البين. إن مددت يدي تكسرت الوردة في يباسها المعطر. وإن تركتها ذهب الريح بعبيرها. يا الهي. ماذا أفعل بحياتي بعد اليوم.؟
قفز السؤال المربك عاريا إلى ذهنه. بلا اجابة تستره. أحس بالاختناق. فك ربطة العنق وزرارين وما زال يلتقط أنفاسه بصعوبه. بدأ جسمه يتصبب.
تذكّر حديث تلميذه النجيب عن فلسفة الموت لدى الحضارات القديمة. رأي هيقل( ان الموت هو تصالح الروح مع ذاتها. ان الموت هو الحب ذاته ففي الموت يتكشف الحب المطلق). رأي نيتشة في نظرية العود الأبدي ( ان كل شيء يموت وكل شيء يعود الى الحياة الأبدية).
قال بصوت واهن..
(إلا أنا سوف أبقى جسد بلا روح). صرخ (لا… أنا حي فازار ولا أنا ميت فأنسى).
همهم قائلا.
(وهل سوف أنسى وفاء. لا . لا. أنا لست ناقما على أحد. لا أبوها ولا المجتمع. ولا نفسي. جميعنا شاركنا في موتها. لا زلت أذكر نظراتها الحائرة وسحابة الحزن القاتمة التي غطت عينيها وتلك الدمعة المتكلسة بركن عينها اليسار. لا لست ناقما على أحد. سوف.. سوف أركن سيارتي هنا بوسط الطريق وأرقص على ذاك التقاطع المزدحم. نعم هو. لا يوجد خشبة مسرح بطول المدينة وعرضها أفضل من هذا المكان. سوف أقدم وصلتي على الهواء الطلق وأمام المارة. من يفهم رقصتي سوف يشاركني الرقص. تماما كما فعل أحد الحضور مع نزلاف نجنسكي. ومن لم يفهم فهو حر. ولا يهم بعد ذلك ماذا ستقول المدينة عني. لا يهم).
رقص الدكتور عاريا من اللياقة واللباقة. مد جناحيه كطير مذبوح ووقف على أمشاطه وحلقت روحه عاليا. رقص مثلما رقص زوربا اليوناني ونجنسكي الروسي بلا أحساس. لا خوف ولا حياء. على أنغام أوجاعه رقص. على إيقاع آلامه رقص.
(ماذا هناك يا عريف يعقوب.
لا علم لي يا سعادتك. ولكني أرى رجلا بمنتصف الطريق يرقص بملابسه الداخلية فقط. علينا أن نلحق به يا سعادتك قبل أن يتخفف من جميع ملابسه).
هتف المساعد جابر قائلا.
(لا. دعه علينا أن نشاركه الرقص).
ومن ثم خلع المساعد جابر لباس الشرطة وهرول إلى حلبة الرقص.
جمال الدين علي
[email][email protected][/email]