مقالات سياسية

جمع السلاح… تجربة يحتذى بها!

عَجِبْتُ لمَنْ لَهُ قَدٌّ وَحَدٌّ وَيَنْبُو نَبْوَةَ القَضِمِ الكَهَامِ
وَمَنْ يَجِدُ الطّرِيقَ إلى المَعَالي فَلا يَذَرُ المَطيَّ بِلا سَنَامِ
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
“أبو الطيب المتنبي”
ينطبق قول المتنبي هذا على حالنا في السودان كأنه قد عنانا بذلك وحدنا، دون سوانا. وذلك لما نراه من نتائج واضحة لعملية جمع السلاح، ولمّا تكتمل التجربة أو الحملة بعد، بل إنها لا تزال في بواكيرها ولكن يشهد كثير من الناس بنتائج باهرة لهذا التحرك. ولقد أفادني أحد أبناء شرق دارفور، وهي من الولايات التي عانت كثيراً واكتوت بمشكلة انتشار السلاح، حيث ازهقت أرواح أبرياء كثر، دون طائل وبلا سبب وجيه، جراء نزاعات قبلية شلت التنمية وأوقفتها تماماً في تلك الولاية، أفادني بأنهم الآن ينعمون باستقرار نسبي ما كان من الممكن أن يتحقق إلا بفضل الله، ثم بجمع السلاح من أيدي المواطنين الذين تفرّغوا الآن لمزاولة نشاطهم البشري والتجاري دون خوف أو قلق، واختفت كثير من المظاهر والحوادث، كما أصبح المواطنون يمارسون حياتهم الاجتماعية بشكل طبعيي، ولله الحمد. ولكن طرح علي الأخ سؤالاً لم أجد له في واقع الأمر إجابة وهو: لماذا لم تجمع الحكومة السلاح غير المرخص منذ وقت مبكر حفاظاً على الأمن وسلامة المواطن وممتلكاته؟ فلم أملك إلا أن قلت لكل أجل كتاب، ولكن يظل السؤال مقبولاً. عموماً، أتضح أن تجربة نزع أو جمع السلاح فكرة رائدة وفي الاتجاه الصحيح، والمطلوب الآن تعميمها في أنحاء البلاد كافة، بلا استثناء، سيما وأنها قد بدأت تؤتي أُكلها سلفاً كما أشرنا. وبطبيعة الحال تتطلب هذه التجربة تدابير كثيرة وحاسمة؛ خاصة إذا علمنا أن كثيراً من السلاح إنما يأتينا من خارج الحدود وعلى وجه التحديد من دولة الجنوب ومن ليبيا ومن شرق السودان أحياناً نتيجة لبعض الأعمال الاستخباراتية لبعض دول الجوار التي لها مطامع معلومة في أراضينا وثرواتنا، وحتى نحول دون دخول السلاح من هذه المنافذ ينبغي تكثيف الوجود الأمني على الحدود المشار إليها، مع تواجد حرس الحدود والقوات المسلحة باستمرار في تلك المواقع، منعاً لدخول تجار السلاح ودحراً للمتلفتتين الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الشخصية الضيقة، ضاربين بمصالح البلاد العليا عرض الحائط. ومن جانب آخر، يجب على الدولة عدم تكرار تجربة تسليح الفصائل أو المليشيات القبلية تحت ذريعة محاربة التمرد، فهذا عمل ينبغي أن يسند للقوات النظامية بكافة مسمياتها وأنواعها. شخصياً، عدت من شمال كردفان مؤخراً وهي الآن مستقرة، على إثر نزع السلاح وجمعه، إلا أن المحليات الواقعة في شمال الولاية ووسطها قد شهدت نشاطاً محموماً للصوص خلال العام المنصرم، ويخشى أن يتكرر ذلك مستقبلاً، كما يشتكي المواطنون هناك؛ خاصة الرعاة، من عدم الوجود الفاعل لقوات الشرطة على الرغم من حالة الطوارئ المفروضة على الولاية، وهذا أمر يتطلب تحركاً عاجلاً من قيادة الولاية قبل أن يطيح الفأس على الرأس ويستغل اللصوص هذا الوضع لنهب أموال الناس وترويع أمنهم واضعين في الاعتبار هشاشة النسيج الاجتماعي الذي قد يتعرض لما لا تحمد عقباه إذا لم تقم الجهات المعنية بتحرك عاجل لردع المتفلتين من اللصوص. وعوداً على بدء، ونظراً للنتائج الملموسة التي حققتها عملية جمع السلاح على أرض الواقع، وهي لم تكتمل بعد ولم تطبق في بعض أجزاء البلاد، فلماذا لا تقوم الدولة بتجارب مماثلة على المستوى القومي لمحاربة الفقر والقبلية والجهل والأميّة مثلاً، وتكوّن لها لجان قومية برئاسة بعض الشخصيات الدستورية ذات المناصب العليا كنواب الرئيس ومساعديه، وتسند لها مهام محددة، مع توفير كافة المعينات والميزانية المطلوبة، وتشارك فيها الجهات والأجهزة الرسمية المعنية بهذه الملفات الملحة، ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة ؟ ذلك لأن أبا الطيب إنما يقصد أن ينحي باللائمة على من يؤتى القدرة على فعل أمر ما ولكنه يتقاعس عن القيام به، ويعجز عن النفاذ في مطالبه، ويقصّر عن التقدم في تجاربه، فيكون ظاهره ظاهر السيف الكهام، وهو الذي ينبو عند القطع وحقيقته حقيقة الصارم الحسام. ويعجب أبو الطيب، كما نعجب نحن، ممن يجد السبيل إلى معالي الأمور ولا يستنفذ في ذلك جهده؛ إذ أنه لم ير في عيوب الناس عيباً، أظهر وأبين، وعجزاً أبلغ وأفظع من نقص وتقصير من لديه القدرة على القيام بجليل الأعمال. فقد أظهرت عملية جمع السلاح، وهي لا تزال في مراحلها الأولى، على أن الدولة قادرة على حسم كثير من المسائل التي ظلت تؤرّق المجتمع السوداني، الذي يتطلع إلى حياة مستقرة حتى نحقق شعار مجتمع متحضر ومنتج، وذلك غير ممكن إلا بتقديم تجارب ناجحة ومشجعة بمساعدة الدولة والمقتدرين من المواطنين والمؤسسات المعنية بالشأن الاقتصادي والاجتماعي. تجربة جمع السلاح يجب أن تتحول لأنموذج يحتذى به في معالجة كثير من المشكلات التي يعاني منها المجتمع السوداني ولا داعي للعجز مع توفر القدرة.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. نعم العبقرية
    قارن بين ماكتبت وما كتب دكتور حيدر ألا ينطبق ما قلته لدكتور حيدر على كتابتك
    واقول لك اختشي

  2. نعم العبقرية
    قارن بين ماكتبت وما كتب دكتور حيدر ألا ينطبق ما قلته لدكتور حيدر على كتابتك
    واقول لك اختشي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..