حزب الأمة والمأزق الثلاثي (المأزق الثالث: الديمقراطية )

اليوم نتناول أزمة الديمقراطية في حزب الأمة ونقترح فيها ما نراه واجباً لتصحيح مسار الحزب ليضطلع بدوره الريادي في خارطة السياسة السودانية بما يماثل حجم الحزب ويلائم قدراته في ظل الشعبية الكبيرة للحزب وعدم وجود كوابح ايديولوجية تعيق تحالفاته مع الأحزاب الأخرى لتحقيق النهضة الوطنية ، وكنا قد تناولنا أزمتي الهوية والدولة الدينية في حلقاتنا السابقة، أما اليوم فسيكون الفصل صعباً في التفريق بين قيادة الحزب وشخص الصادق المهدي ، فكلاهما نفس الشي ، وهذا هو عصب المشكلة.
ملخص الأزمة : يتجلى المأزق الديمقراطي في غياب الديمقراطية داخل الحزب ، ثم عدم المحاسبة على ممارسات القيادة في فترة الديمقراطية مما يساعد على تكرار المأساة، كذلك غياب التأليف (عدا اجتهادات السيد الصادق ) والتأصيل الديني المستنير لنهج الصحوة، يضاف إلى ذلك الجمع المحرم الذي يمارسه الصادق المهدي بين (الأختين) الدين والسياسة لرجل واحد أسهم في انسداد القنوات الديمقراطية الداخلية التي من شأنها أن تجدد دماء الحزب.
من الواجب على قيادة حزب الأمة المبادرة بمحاسبة وانتقاد نفسها على الأخطاء التاريخية التي أسهمت في حدوث ونجاح الانقلاب العسكري في 30 يونيو ، وانتقاد ممارساتها التي أدت إلى تعطيل ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، فقيادة حزب الأمة مطالبة بالتفوق على نفسها وتجاوز والاعتراف بسلبياتها بشجاعة وشفافية ونقدها وتشخيص أسبابها حيث أنها فشلت في قيادة السودان إلى بر الأمان ولم تكشف عن الوجه المشرق للديمقراطية وتترجمها إلى لغة (مصروف البيت وقفة الملاح)، بتحسس مشكلات الناس الحياتية وحلها لكنها على العكس جعلت لعبة الكراسي أكبر همها فأفقدت الناس الثقة في النظام السياسي وظن الكثير من أبناء الشعب أن الديمقراطية ليست سوى الفوضى، وسقط ميثاق الدفاع عن الديمقراطية في أول معركة فلم يدافع عنها أحد، بل إنطلت خدعة الكيزان على اكثرية اهل السودان بأن (ميزة الإنقاذ أنها وفرت السلع بأسعار غالية حين عجز النظام الديمقراطي عن توفيرها من الأصل حتى وإن امتلكت المال آنذاك) ، وهي خدعة إخوانية خبيثة نجحت في تثبيط همم الجماهير فلم يسعوا لاستعادة نظامهم الديمقراطي بسبب الممارسة اللامسؤولة من قيادة حزب الأمة، فالحزب مطالب الآن أكثر من أي وقت مضى بتقديم نقد ذاتي حقيقي وبناء قواعدة وهيئاته الداخلية وفقاً لقواعد الديمقراطية والشفافية والمسئولية والمحاسبة .
مأزق الديمقراطية في تقديري لدى حزب الأمة يتجلى كذلك في غياب التأصيل الديني لنهج الصحوة الإسلامية ، بتوضيح ملامحه حيث لم يجتهد معظم قادة الحزب ومثقفوه عدا الإمام الصادق المهدي في هذا الشأن في أيضاح نهج الصحوة والتأصيل له من الناحية النظرية ولم يقدموا البديل الديمقراطي الإسلامي المستند على تفسير مستنير للدين ينأى به عن المعترك السياسي ولم يقدم الحزب للناس دروساً في تاريخ القمع الدموي للدولة الدينية بما يقطع الطريق أمام جماعات الهوس الديني ولصوص الاسلام السياسي، كما لم يؤكد للناس أن الله تعالى لم يفرض دولة دينية وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاكماً دكتاتوياً بل إنه لم يحكم إلا بعد أن بويع في المدينة وارتضاه الناس حاكماً على اختلاف مشاربهم وأديانهم بلا قهر ولم يشرح الحزب لأنصاره ولاهل السودان أن مقاصد الشريعة يجب التعامل معها كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه وفعل صحابته وليس من خلال الجمود وتحميل النصوص ما لا تحتمل ، كما قصر الحزب في شرح أن الخلاف السياسي لا يمكن تحويله إلى صراع ديني يقسم البلاد ويهلك الحرث والنسل كما حدث في دولة الانقاذ.
إن أزمة الديمقراطية في حزب الأمة متجذرة بسبب جمع الإمام الصادق المهدي بين السلطة الروحية لطائفة الأنصار والسلطة السياسية التي يجب أن تخضع للمحاسبة وفقاً للمنهج الديمقراطي ، وهذا الخلط يضع حزب الأمة في مأزق غياب المساءلة لذلك يجب على الحزب الفصل بين السلطتين ومن ثم إلتزام الصادق كسلطة روحية بعدم التدخل نهائياً في العمل السياسي الإكتفاء بدوره كمفكر إسلامي ديمقراطي والإلتزام بالعمل الفكري التنويري لنهضة دينية تعضد الديمقراطية وترفع قيم الإنسانية والحداثة بنشر الوعي الديني حتى لا يقع ابناؤنا في يد المغالين وتجار الدين ، وبذلك يعظم دوره في تحرير العقل السوداني من إستعمار الجهل كما عظم دور جده في التحرير السودان من الإستعمار التركي.
أن فترة حكم الصادق المهدي في تاريخ السودان لم تشهد أي محاولات للرجل للبطش بأعدائه، أو الاستفراد بالسلطة – إنما أعيب عليه التسويف والمماطلة في حسم الأمور آنذاك – لكن للإسف فإن المتابع لمسيرة الحزب وانقساماته الداخلية يخرج بنتيجة رئيسية مفادها (إنغلاق) القنوات الديمقراطية داخل الحزب وسد المنافذ أمام القوى الصاعدة داخل الحزب على مر تاريخه منذ تسلم الصادق المهدي زعامة الحزب في الستينات وهذا خلل كبير يمنع تطور الحزب ويحرمه من الاستفادة من كوادره لوجود سقف لا يمكن تجاوزه في الهرم الحزبي ، وهذا يجعل شخص الصادق المهدي ومعاونيه مسئولين عن عدم تجدد دماء الحزب بل إن الكثيرين من أبناء الحزب انخرطوا في صفوف حركة الاخوان المسلمين بسبب مشكلات قيادة حزب الأمة المصابة بداء (البقاء الأبدي) الذي تعاني منه الحكومة السودانية وأحزاب المعارضة على حد سواء.
سألني أحد الأصدقاء ، لماذا تتناول حزب الأمة تحديداً بهذه المقالات؟ فأوضحت بأن إنتقادي لحزب الأمة ينبع من رغبتي في إصلاح مؤسسة الأحزاب السودانية بشكل عام وحرصى على حزب الأغلبية بصفة خاصة، كما أن الواجب يحتم علينا دعوة الإمام الصادق ليقوم بدورة في تنوير الشعب السوداني وجماهير الأنصار عن الدين الوسط وترك مفاتيح السياسة في يد جيل جديد وقيادات شابه يتم انتخابها وتتم محاسبتها وفقاً للاصول الديمقراطية، هكذا فقط يمكن أن يتطور السودان إلى الأمام.
[email][email protected][/email]