معراج سيدي الرئيس: الذين هم بعد الله (2)

(حكاوي عن الديكتاتورية وفساد الطغمة)..
ظل أمجد الطائف ينظر من أعلى (جبل دولار) صوب الشمال الذي يغطيه الضباب الكثيف.. رأي اشباحا تتحرك من البعد البعيد مارقة من القلابات وقادمة نحوهم.. وكان هناك شبحا يترنح منفردا ناحية الشمال الغربي.. عرفه على الفور من أسماله البالية انه عبد الكريم نيانق قادما من (جنقرة) حيث المومسات الرائعات والخمور المعتقة كما يقول..
إلتفت أمجد الطائف ناحية دينق الدبل الذي بدا مشغولا في وضع التوابل والبهارات على الفئران المذبوحة والمسلوخة بعناية.. ثم اوقد النار ووضع عليها (طوة) مملوءة بزيت الفول السوداني المعصور في عطرب.. وقال : نعم كان جلال فرغلي يردد دائما عبارة محمد الماغوط (ليست مشكلتنا مع الله.. مشكلتنا مع الذين يعتبرون انفسهم بعد الله .(
تفحص امجد الطايف عينات البذور التى بيده.. كان يتساءل هل انتهت حربه مع (نبات القنا) اخيرا.. ثم عادت به نفحات الذكري الى الوراء الى سنوات مضت.. عندما كان طالبا يدرس في جامعة بيروت العربية في مدينة الأسكندر الأكبر المطلة على البحر الابيض المتوسط.. هناك تعرف رجل صاحب شخصية فريدة ومتزنة اسمه دكتور فرغلي عبد الحميد.. كان دكتورا مميزا ومبرزا في كلية الطب بجامعة الاسكندر الاكبر .. وله عدد من العقارات والشقق المفروشة يأجرها للطلبة الوافدين من جنسيات متعددة.. ولأنه يؤمن بوحدة وادي النيل الضاربة في عمق التاريخ.. كان يختص طلبة بلاد الغبش بمعاملة خاصة يؤجر لهم الشقق بأسعار متدنية ويتجاوز عنهم اذا فشلوا في السداد.. بل كان يعالجهم مجانا وأحيانا يصرف لهم قيمة روشتة الدواء دون ان يسددوا قرشا واحدا.. كان أمجد الطائف واحدا من الطلبة الذين حظوا بتلك المعاملة الأبوية الراقية والحنونة ..
قال أمجد الطائف وهو يخاطب دينق الدبل وكان يسند ذراعه على ساق شجرة الجزورينا: دكتور فرغلي عبد الحميد رجلا نبيلا فريدا من نوعه.. كنت أذهب كل يوم جمعة بعد الصلاة الى منزله الكبير.. حسب ما يطلب منا ويلح.. خلف المنزل حديقة غناء وندية محاطة باشجار الكافور يجمع فيها الطلبة الوافدين من جنسيات مختلفة ويلقمهم ما لذ وطاب من الطعام.. وكان مثل الأب تماما يطالبهم دوما حين العودة الى أوطانهم بالاجتهاد والتفاني في العمل.. اما ابنه جلال فرغلي صار دوما يشرف على هذه الوليمة الفاخرة التى كنا ننتظرها بفارغ الصبر كل اسبوع لنودع مصاحبة العدس والبسلة والسلطة.. لم نكن نر اللحمة إلا عند وليمة دكتور فرغلي الاسبوعية..
قال أمجد الطائف وهو يرى دينق الدبل يرمي الفئران المتبلة في الطوة..
– في احدي أيام الجمع استفردت بدكتور فرغلي ورويت له قصة حلم يتكرر دوما في منامي.. وقلت : يادكتور لي حلم يزعجني نبأني بتأويله أني أراك من المحسنين..
قال باستعجال: قل لي ما هو؟ سأنبيك بتأويله ..
قلت له: اراني دوما محصورا في غرفة من اربعة جدران خضر اللون ابحث عن شيء ما ولم اجده ..والغرفة ذاتها بها منفذ صغير لا استطيع الهروب منه.. وخلف الغرفة يقبع رجال سود السجنات يحملون البنادق ويضربون الارض باحذيتهم الصاخبة ويتجهون الى الافق حيث يتمدد قبر شاب غض.. مكتوب على شاهد القبر(سيروا الى الافق ففي الافق النجاة) وعلى الشاهد ذاته علقت صورة الشاب الميت كان يشبه الى حد كبير ليون تروتسكي.. والرجال السود يصيحون على ان اخرج معهم الى مقصدهم وانا متقاعس خائف..
قال دينق الدبل وهو يسكب في يد أمجد الطائف مزيدا من حبوب نبات القنا: هذه البذور من (شيلقا) انه ذات المكان الذي سجن الشفتة ود عبيد المسيري..
ظل دينق الدبل يدندن بلحن اغنية (ورها هيزيا) لـلمطربة (راهيل هايلي) ثم قال: ماذا كان تفسير دكتور فرغلي للحلم..
قال أمجد الطائف: فسر الغرفة الخضراء بانها خزينة البلاد .. ظن أنني سأتولى وزارة المالية.. اما الرجال السود السحنات الذين ينتظرون خارج الغرفة هم الذاهبون الى الافق لتغيير حكم الباباوات بالقوة.. فدكتور فرغلي يطلق على حكم السيد الرئيس بحكم الباباوات.. اي حكم رجال الذين الذي يعصفون الشعب باسم الله..
كان دكتور فرغلي ناقما على ثورة السيد الرئيس لانها قائمة على اساس الدين.. كان يسميها ثورة الباباوات.. وكان يقول عنها انها ستخرب بلادنا وتجزئها وتقزمها.. مثلما فعل باباوات روما عندما جمعوا بين السلطة الدينية والسياسية.. فالباباوات او رجال الدين بصفة عامة يظنون انهم بعد الله.. وانهم يأخذون التفويض من السماء مباشرة كأنهم رسل او أنبياء.. وأنهم فوق القانون لذا يفرضون سطوتهم بالقوة ويقهرون شعوبهم ويسرقون أقواتهم.. ثم يقولون هذا من عند الله..
(تصور يا دينق الدبل) .. واصل امجد الطايف قائلا: تصور ماذا قال دكتور فرغلي عن الشق التالي من الحلم..
كان دينق الدبل يقلب على المقلاة الفئران التى اصطادتها من جحور بلاشورا.. والتى بدا عليها الاستواء..
وقال دينق الدبل باستعجاب: ماذا قال دكتور فرغلي..
– قال لي انني في خاتمة المطاف ساترك وزارة المالية للالتحاق بالمعارضة..
ثم قال امجد الطائف بعدما قضم لقمة من وليمة الفئران التى وضعها امامه دينق الدبل: في احدى الاجازة الجامعية سافرت الى بلادي على عجل فنسيت باب الشقة مفتوحا ووضعت المفتاح في محفظتي.. قضيت اجازة ممتعة بين الاهل والاحباب عندما عدت الى مدينة الاسكندر الاكبر ذهبت كالعادة الى عيادة دكتور فرغلي عبد الحميد حيث وجدته هو وابنه جلال طلبت منه برفق ان يمنحني مفتاح الشقة .. ففي العادة قبل سفري اسلم المفتاح الى دكتور فرغلي او ابنه..
من حيث لا يدريان ظهر السائح العربي فجأة برفقته جلال الدوكاوي وزمزم عميان ضر وعندما رآهما السائح يأكلان الفئران بشهية قال : لقد سمعت البيان الاول للسيد الرئيس الذي وعد شعبه باكل (الهوت دوك) او (الكلب الملتهب) كما قال المترجم العام.. يا للمصيبة بدلا عن ذلك وبعد قرابة ثلاثة عقود من حكم السيد الرئيس الشعب يأكل الفئران تبا لكم.. وبعد قرابة ثلاثة عقود والسيد الرئيس وحاشيته مثل البط تماما لا يأكلون الفول المصري والعدس.. انما ياكل السيد الرئيس وحاشيته ما لذ وطاب من اللحوم مثل الضباع الهائمة.. تبا لكم..
تدخل جلال الدوكاوي وقال مخاطبا العربي: لا تقل لنا تبا لكم.. فحن لسنا سبب الازمة.. بل قل للسيد الرئيس تبا لك فهو من ادخلنا في هذا النفق المظلم..
التفت العربي يمنة ويسرة ليتاكد من خلو المكان من فرد المخابرات..
وقال بصوت جهير : تبا للسيد الرئيس ..
حملت الارواح الغاضبة لضحايا حرب الانجليز والتليان قول العربي ورمته بعيدا في طرف المتمة عند (مومسات جنقرة الخمسة).. قيزاش مارشا.. ومهاليت ووديد.. ومسرات اقيزي.. وناتي تيزازو.. وزيني هبتو.. وفي اليوم التالي استقر السر بين خلجات روادف زوجة مثثلا قبر برهان كما قال فرد المخبرات لرئيسه المباشر وهو يقدم تقريره اليومي..
كان ظهور زمزم عميان ضر برفقة السائح العربي ليس بمستغرب ويعد امرا عاديا فهو اتخذها دليلة سياحية له.. اما ظهورها على سفح (جبل دولار) لم يكن لم يكن عاديا مقارنة بسنها المتقدم.. فصعود الشباب للجبل في غاية المشقة ناهيك عمن خارت قواهم من العجائز..
قال امجد الطائف مبررا أكل الفئران : انها الضائقة الاقتصادية أيها العربي.. هذه الوجبة اسمها (الترس الاخير) .. اذا لم يحسن السيد الرئيس ادارة امور البلاد ستتفاقم الاوضاع وحتما تحدث مجاعة تعم ارجاء البلاد..
(انتم الان تعيشون عصر المجاعة.. اذا لم تكن تعرف اعرف..) قال السائح العربي بوضوح واردف: لماذا الخنوع اخلعوا السيد الرئيس..
(كيف سنخلع السيد الرئيس).. قالها امجد الطايف وهو يقرب طبق الفئران ناحية العربي ويقول له: تفضل كل..
رد العربي طبق الفئران وقال معنفا: انا آكل المفطح والمطازيز والمنسف والمندي اتريدني ان آكل الفئران.. وواصل قائلا وهو يقدم النصح لمن حوله: أملأوا هممكم بالعزيمة عندها ستعزلون السيد الرئيس بسهولة ويسر..
يتبع..
النذير زيدان
[email][email protected][/email]