أيهما أثقل هَمُ المعيشة أم شنطة المدرسة؟

أجاز البرلمان كما هو متوقع ميزانية هذا العام الجديد بأغلبية ساحقة. ولكن هل ستأتي الميزانية بحل لما يعانيه المواطن من ضائقة أم ستظل الأمور تراوح مكانها؟ وهذا ما كشفت عنه الأيام الماضية. عموماً، تنسب لأحد كبار المسؤولين قولة مشهورة مفادها: “نشفق لما نشوف طالب صغير يحمل شنطة تكسر الظهر” وهذا، بلا أدنى شك، شعور طيب من هذا المسؤول، الذي نتمنى أن يدرك ما يعانيه المواطن البسيط من همٍ أثقل كاهله وكسر خاطره وأرهق ذهنه، ألا وهو هم توفير أدنى مستوى من المعيشة، أياً كانت، ومصاريف الدراسة الباهظة لأولاده وبناته وتكلفة العلاج والسكن وهو ويلهث ويكد ليل نهار من أجل تحقيق ذلك الهدف! يا حضرات المسؤولين، يحدث هذا في وقت يرفل فيه بعض أفراد الشعب في نعيم ورفاهية تعجز الكلمات عن وصفها، من غير أن يقول لهم أحد من أين لكم هذا! لقد تطلع الناس إلى تحسن الأداء الكلي للاقتصاد والأوضاع المعيشية بعد رفع الحظر، الذي كانت تفرضه الولايات المتحدة على السودان، إلا أن ما حدث لم يكن في الحسبان، فقد قفز سعر الدولار الأمريكي إلى معدلات غير مسبوقة، وتبع ذلك ارتفاع جنوني في أسعار البضائع الأساسية مثل الدواء وحتى الحليب الذي ليس له علاقة أصلاً بسعر الصرف؛ إذ كل مدخلات انتاجه تتوفر محلياً. حكى لي أحد الأخوان أنه ذهب ليشتري بعض الحليب من أحد الرعاة في غرب أم درمان فما كان من الأخير إلا أن قال: يا فلان اليوم سعرنا زاد شوي! فسأله لماذا؟ فرد بقوله: يا جنا إت ماك عارف سعر “الدونار”، يعني الدولار، ارتفع أمس”. وما هذا إلا مجرد مثال واقعي على ما يحدث في هذه البلاد الطيبة من انفلات في الأسواق والأسعار. وحسب وجهة نظر كثير من المراقبين، فإن العلة ليست هي ارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه، بل هنالك تراجع في عملية الإنتاج والإنتاجية على المستويين القومي والفردي، وهنالك مجموعات من البشر تمارس أنواعاً من التجارة والأعمال المريبة والسمسرة، وربما “الفهلوة”، دون أدنى مساهمة في التنمية والإنتاج أو إيجاد الوظائف ، وتضارب في مصالح الناس بلا وازع أو ضمير، وبلا رقيب لا من عند أنفسهم ولا من السلطات، ولعل أبسط مثال على ذلك شركات الأدوية التي كانت تقبض الدولار من البنك المركزي بسعر منخفض من أجل توفير الدواء ولكنها في واقع الأمر كانت تمارس التهريب والمضاربات في البورصات العالمية والإقليمية، ولم يتخذ ضدها أي أجراء قانوني رادع حتى بعد افتضاح أمرها، للأسف الشديد. وما هذا إلا غيض من فيض، وما خفي أعظم. ومن أجل كبح جماح الدولار لا يكفي فقط ملاحقة صغار تجار العملة أو إلقاء القبض عليهم، وإن كان هذا الإجراء مطلوباً كخطوة أولى، فهؤلاء ليس هم أس البلاء، ولكن هنالك “تماسيح كبار” يعملون من خلف الكواليس بمسميات وهمية يسيطرون بها على حركة السوق والاقتصاد والأسعار، وهؤلاء أولى بالملاحقة والمحاسبة؛ إذا كنا فعلاً نريد وضع اقتصادنا القومي في مساره الصحيح. نحن لسنا بحاجة لمعالجات تكتيكية أو مرحلية، ليس من ورائها طائل، بقدر حاجتنا إلى خطط استراتيجية طويلة المدى من شأنها أن تدفع عجلة الإنتاج قدماً وتضع حداً للعبث بمقدرات البلاد ومصالحها العليا. لقد عانى هذا الشعب الأمرين، يا حضرات المسؤولين، من تصرفات بعض الجشعين الذين لا ينظرون إلا تحت أقدامهم، ولا تهمهم إلى حساباتهم الخاصة، وهؤلاء لا مانع عندهم من شراء الدولار بأي سعر كان؛ لأنهم قادرون على جلب البضائع، غير الضرورية، التي توفر لهم أرباحاً لا يتصورها العقل. ولقد لاحظت، وأنا أغادر السودان، عائداً إلى مقر عملي بالخارج، ازدحام صالات المغادرة بأعداد كبيرة من الشباب، وهم يحزمون حقائبهم للخروج من الوطن؛ بحثاً عن فرص أحسن في الخارج، وقد تحدثت مع بعضهم، واتضح لي أن معظمهم من ذوي التأهيل الجامعي والفني الذين ضاقت عليهم فرص الحصول على وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم وتطلعاتهم في أرض الوطن. فلماذا لا نحتفظ بهذه القدرات والكوادر البشرية عن طريق تقديم بعض التسهيلات اللوجستية البسيطة من حيث التدريب على إدارة المشاريع وتوفير الدعم المهني والمالي المعقول عبر المؤسسات ذات الصلة بحيث نغير طموح الشباب وتفكيرهم في الهجرة التي لم تعد ذات فائدة مادية مغرية ومحسوسة؟ إن إجازة الميزانية لا تعني وضع حد لنهاية المعاناة ضرب لازب، بل يجب تسخير الواردات لتوفير مدخلات الإنتاج وزيادته حتى نستطيع أن نوفر لقمة العيش لهذا الشعب الأبي، ومن عرق جبينه وليس من فتات موائد الأخرين وهباتهم، أعطونا أو منعونا. في واقع الأمر هنالك الآن تفاوت مريع بين مكونات الشعب السوداني؛ إذ لم تعد هنالك طبقة وسطى، بل هنالك طبقة مسحوقة وكادحة من أجل لقمة العيش وأخرى مترفة لا نعلم من أين ينهال عليها النعيم! لماذا لا تتخذ الدولة خطوات حاسمة لمحاسبة المفسدين؟
[email][email protected][/email]