شبر ثاني ناصية قصة قصيرة..

انقضت أيام العزاء. نفض فتات القدر عن الفراش. طوى أحزانه التي سوف يتلفع بها في مقبل الأيام ومضى.
هو الآن قربة مملؤة للآخر بالشجن. ينضح منه الأسى ويسيل يروي جذور شجرة النيم التي توسطت صحن الدار. نظر إلى شجرة النيم وجدها قد شاخت فجأة وما عاد ظلها وارفا يغطي باحة الدار الرحبة مثل أول. ساقها الضخم أصابه التقشف وفروعها الخضراء جفت وانحنت في يباس.
جرجر ساقية المقيدين بحبل الصبر إلى غرفته المنزوية; أنوارها ثكلى ولونها شاحب. وحيد و يتيم وحزين يتوكأ الفقد. فتح باب الغرفة وغاص في العتمة. لم يوقد السراج خاف أن يوقظ ذكرياته التي كانت تدعي النوم وهي واقفة على طولها أو معلقة على الزوايا و في الاركان. جلس على أريكتة الموضوعة أسفل النافذة المطلة على الشارع; وهو يحمل على كاهله سنينه الثمانين. أزاح الستارة و فتح النافذة بقدر يسير. اندلق النور من عمود الانارة وسال خيطه لداخل الغرفة; فرت أسراب العتمة من فتحة النافذة الضيقة. أمسك بكراسة قديمة. وبخيط النور المنبثق; أخذ يقلب في أوراق العمر المهترئة عله يجد صفحة فارغة يقيد عليها ديون الزمن. هكذا كان يفعل دوما كلما أخذ منه الزمن عزيز كدين تحت الحساب. ترى ماذا سيخط قلمه اليوم والدهر حسابه زاد وصار الدين ثقيلا على كاهله الذي انحنى تحت وطأة السنون؟. همهم.
(لطفك يا الله). لم يعد قادرا على تحمل المشوار وحده. بعد أن انكشف صدره وفقد العصاه; شعر أن الدهر سينشّب مخالبه الحادة و يمزق عمره. بلع ريقه بصوت خفيت ناجى ربه.
(يا إلهي خذني إليها. أستغفر الله العظيم).
هكذا ناجى حاج الطاهر ربه بقلب خالي الا من حزن طاغي وايمان وافي. الكراسة ملآنة بديون كثرة سحبها الزمن حين ضائقة ولا أمل في في استرداد الدين أو وقفه أو رفع الحزن مما اضطره للتقليب كثيرا حتى وجد صفحة بيضاء.
يا الهي ماذا أكتب وماذا أقول؟
أاكتب عن نصفي الذي سلبه القدر و انتزع معه احشائي؟. أم عن تلك الأيام والشهور والسنوات التي عشناها سويا بحلوها ومرها؟. أم عن ذلك الحب الذي كتمناه في حنايا روحينا وحشايا الفؤاد ولم يبح به أحدنا للآخر فظل معتقا كخمر نحتسيه فننتشي طربا كلما غنى عثمان حسين( لا وحبك).
وهل ستكفي هذه الوريقات المهترئة المتبقية الفارغة من هذة الكراسة القديمة لتدوين كل الذي عشناه وعرفناه؟!!
يا إلهي أرحمن برحمتك التي وسعت كل الكان وما هو كائن وما سيكون.
مسح دموعه التي سالت وقطرت على أوراق الكراسة فتماهت الحروف وانتشر حبرها ليغطى المسافة بين السطور البيضاء وكأنها رسمة سريالية لحزن نبيل.
لا. لن أكتب شيئا من تفاصيل حياتي مع زوجتي ميمونة. لو كانت حية لما وافقت على ذلك. لو كانت حية لماتت من الحياء ولكفنّت وجهها بطرف ثوبها لتخفي خجلها الذي كان حتما سوف تفضحه شفاهها المدقوقة بالسواد.
ابتسم بآسى.
لا…. لا لن أكتب شيئا.
في تقليبه ذاك قرأ بعض الديون القديمة والتي باتت بمثابة ديون هالكة لا أمل في استردادها للحياة مرة أخرى. في أول صفحة سطر كلاما عن رحيل جارهم السادس حماد. انتقل حماد الى دار جديدة في حي راقي برفقة زوجته و ابنائه. يومها قال لهم. أن أولاده حكموا عليه هو وزوجته بالرحيل. فما عادت هذه الدار تسعهم. استحى أن يخبرهم أن ابنائه اصبحوا يستعرّون من الحي الشعبي ويجدونه لا يليق بمقاس خفافهم الواسعة.
كتب في آخر السطر (علهم يجدون جيرانا يسعون موطئ أقدامهم كما وسعتهم قلوب أهل الحي الشعبي الرحبة ورسم عدة علامات تعجب). في الصفحة قبل الصفحات الأخيرة نعى صديقة وجاره السابع عبد القيوم بقصيدة لم يقرأها بصوت مسموع ولم يطلع عليها أحد.
سكن حاج الطاهر في هذا الحي الذي سمي على أسم الثورة التي انطلقت شرارتها قبل أكثر من أربعين عاما. لم يختار هذا الحي ولا جيرانه الذين ساكنوه لسنوات طويلة وربما هي أطول من السنين التي عاشها بين أهله وعشيرته حيث نشأ في قرية بشمال السودان ظلت مختبئة من عين الحكومة في تخوم الصحراء لتغافل الطبيعة القاسية و تلثم خد النيل حينما انحنى غربا مودعا قبل أن يتوغل شمالا في الصحراء. حدث الأمر عن طريق القرعة. حينما أدخل يده في الجراب وأقترع ورقة مسكنه ابتسم موظف الأراضي وقال.
مبروك 440 متر مربع وتاني ناصية.
لم يكن يعرف أين تقع داره ولا من هم جيرانه في هذا الحي الجديد. مثلما كانت الثورة وليدة تحدد أركان حكمها وتحدث الناس أنها انطلقت من الشعب لخدمة الشعب انطلق هو يحدد أركان أرضه ويحدث زوجته ميمونة بعيون تكسوها البهجة وقلب يغمره الفرح.. عن جنتهما الصغيرة التي يجب عليهما أن يخلدا فيها بانجاب الذرية من غير أن يقربا شجرة الطلاق البغيضة. ولا يستمعان لوساوس أبالسة الجن والأنس. هكذا خط ساس بيته الذي أراده أن يكون متينا. حينما شقت بذور البيوت التربة ونبتت الغرف من باطن الأرض; سقوها بعرق الأجساد التي كانت فتية والذي كان يتفصد من تلك الجباه العالية. طاهرا نقيا كما الماء ينضح من قرب مصنوع من جلد جدي فتي و معلق على فرع شجرة عالية تضرب جنابته الرياح بالصباح والمساء. أتوا من جهات السودان الأربعة ومن الوسط. كانت سحناتهم مختلفة ولكن قلوبهم كانت مؤتلفة على هدف واحد وهو تعمير الأرض بطوب الحب و تزيينها بحسن الجوار;
فنمت بيوتهم متشابهة في رسمها. غرفتان معكوستان من الطين اللبن المغطى بروث الأنعام أو من الطوب الأحمر تلفهما فرندة من الجانبين ومستراح يقابلك عند الباب بجواره حنفية يقف حارسا لها وعلى أهبة الاستعداد لأي طارئ برميل يصلب طوله على اطار سيارة معطوب. البرميل مملوء بالماء الى المنتصف ومغطى بصينية من الألمونيوم حوافها مشققة. صحن الدار مفروش بالرمل الناعم المبلل بالماء يتوسطه أما شجرة نيم أو شجرة ليمون كانتا تنثران أوراقهما مع ثمارهما على المكان. على الجدار تتكيء إما شجرة جهنمية أو حناء يضوع منهما عطر خريفي ساحر. بعضهم يزرع ريحان عند المدخل وبعضهم يزرع شجرة لبلاب قد تمتد فروعها حتى السبيل الذي يقع في المنتصف تماما وربما مال قليلا ناحية المطبخ الذي ينحني أمامه عريش من القش.
حينما سطر حاج الطاهر نعيه لصديقه وجاره الجنب آدم أدرك أن من يمسك أوراق القرعة قد اقترب منه كثيرا.
الآن هو بات موقنا أن الموت وصل الى داره. ذلك القادم من قريب ونظنه آت من بعيدا. عزرائيل مد يده بطولها واقترع ورقة القسيمة التي عقد طياتها المأزون يوم أن عقد قرانه على زوجته وأم أولاده ميمونة قبل خمسة وأربعون عاما أو يزيد.
لم يكن يهذئ في ذلك اليوم عندما اقترح على جيرانه ذلك الاقتراح. حدث ذلك عقب وفاة جارهم الخامس أوشيك قال لهم وهم يتحلقون حول طاولة الكونكان وكان قد لاحظ زيادة المقاعد الشاغرة برحيل اصحابها وصل عددها لثلاثة بقى أربعة فقط من جيرانه يقفون بالصف.
علينا ترك وصية لأبنائنا نوصيهم فيها بجعل قبورنا صفا واحدا كما هي حال بيوتنا. حتى اذا انقطعت حبائل وصلنا في الدنيا وصلناها في الدار الآخرة.
خط سبعة خطوط على الأرض بعصاه وقال.
عبد القيوم بالناصية الشرقية السابعة يليه حماد و أوشيك و سيد أحمد ثم بلة وبالناصية الاولى الغربية آدم. لم يذكر اسمه وان كان قد رسم خط قبره من ضمن القبور التي رسمها على الأرض.
ضحك محمد صالح جاره من الخلف وتندر عليه قائلا.
– يا حاج الطاهر لا تخف حتى ونحن أموات سوف أهزمك في الكونكان. لن يفلح الموت في تخليصك من هزائمي المتعاقبة.
ضحكوا وانفض سامرهم مع آذان المغرب.
سوف يخبر ابنه الصغير بوصيته تلك. انجبه وهو في نهاية العقد السادس وكانت زوجته في نهاية العقد الخامس. هو الوحيد الذي سوف يظل عائشا معه بالدار بعد رحيل زوجته عن الدنيا وارتحال بقية ابنائه وبناته بعيدا مع قطار الحياة.
ابتسم ابتسامة باهتة حينما تذكر حديث جاره حماد يوم أولم عقيقة الصبي.
آخر البلية حصى يا حاج الطاهر.
يومها تلمظت النسوة النميمة مع مذاق القهوة المر.
(عيب على ميمونة. تلد في يوم أسبوع بنتها النفساء).
كن يتنافسن على انجاب الابناء بشرف مثلما يتنافسن على اقتناء الأواني المنزلية والشراشف والأثاث. ميمونة الآن متفوقة عليهن بالمولود الأخير.
لابد أنهن فكرن في اشعال النار في الحفرة التي ردمها غبار السنين و بعد أن عصفت سن اليأس بالأجساد المجعدة وتساقطت زينتها الواحدة تلو الأخرى كما تعصف الريح بالنخلة العالية فيتساقط التمر اليابس (المكرمش).
هو لم يختار جاره في الحياة ولكنه قادر على اختيار قبره بعد الممات. شبر واحد. أخذ قياسه بيده على الورقة ليطمئن لسعته. زاد الشبر قليلا عن عرض صفحة الكراسة بمقدار هامش. تمتم( و هذا كاف).
كتب في آخر السطر.
شبر تاني ناصية من قبر آدم و على الهامش كتب وضع نجمة وكتب( شبر تاني ناصية).
وضع الكراسة على صدره وأسند رأسه الى حافة النافذة التي اندلق منها النور مختلطا بصوت آذان الفجر وأغمض عينيه.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..