قصة قصيرة بائع الكلام

ولما أرادت صاحبة الجلالة إذلاله ركلت تاريخه بكل صلف; فهوى من برجها العالي; ولولا أن زوجته العطوفة مدت له حبال المودة و تشبث بأطرافها الرحيمة وصعد للسطح; لدق عنقه بصخرة العجز القاتل التي كانت تنتظره بالقاع. نهض محطم الفكر; قلمه مكسور وحبره مسفوح. أخذ يقلب ركام الحظ يبحث عن رزقه المدفون في كومة المهن الملقاة على هامش الحياة.
يتسلل كلص إلى بيته في وقت القيلولة حتى لا يشعر به أحد; يدخل من الباب الخلفي للمطبخ عائدا من السوق; يضع أغراضه فوق المنضدة ويزفر الضيم. بروح تصطخب بضجيج الدعم المعنوي والذي هو في أمس الحاجة له تستقبله زوجته بإبتسامة كأنها شراع الأمل; يصفو ذهنه ويهدأ باله. اليوم هو مقدم على نحر السنين السمان التي قضاها في خدمة جلالتها قربانا لآلهة لا تقبل صلواته ولا تستجيب لدعائه. تهمس زوجته وهي تتفقد الأكياس:
(ها أحضرت كل الأغراض).
وكانت حريصه ألا تقع عينها بعينه حتى لا تحطم كبريائه. يشير إليها بيده وهو يجاهد لإلتقاط بعض الأنفاس ويستدير واضعا كفه على فمه مانعا نفسه التفوه بحرف حتى لا يجرح خاطرها; وهي تتشاغل بترتيب الأكياس قالت:
( حالما تبدل ثيابك سيكون الشاي جاهزا. الأولاد حضروا من المدرسة تغدوا وناموا). تلتفت لتجد نفسها تكلم جاكيته المعلق على ضلفة الباب.
يقف أمام المرآة وقد غسل ماء الحياء وجهه. لقد فكر في إرسال خطاب إلى أحد المسئولين الذين كانت مقالاته وتحقيقاته الجريئة العدسة الصقيلة العاكسة لجهودهم الطموحة في محاربة المحسوبية والفساد … سببا في ظهور صورهم و لمعان أسمائهم مما حدا بالقيادة الوثوق بهم و ترقيتهم إلى مهن أرفع; أحدهم أصبح وزيرا في الحكومة الجديدة وآخر صار وكيلا لوزارة سيادية هامة. لا يدري لماذا ابتسم حين تذكر تلك العبارة الساخرة التي كان يوقع بها مقالاته( بائع كلام). سحب ورقة وفتح غطاء القلم وهم بالكتابة; سالت حروفه دموع لونت وجه الورقة بلون ضبابي قاتم. وكأنه سمع للتو نشيج القلم وهو يضغط سنته الحادة ببطن الورقة; فينفجر شلال الحبر الأزرق ( لا. لن أمرغ شرفي بالوحل. لن أستدر عطف المسئولين بتلك الكلمات السمجة و العبارات المبتذلة الرخيصة. أنا الذي كنت كالسيف أقطع دابر الواسطة والمحسوبية والفساد; أدوس على قيمي وأمزق كرامتي وأنزل لهذا المستوى! أفضل لي أن تيبس الحروف بحلقي ولا أدلق حبري أتسول السراب جرعة ماء).
ارتعشت أصابعه سقط القلم; وهو يتدحرج من على الورقة إلى الأرض وينزوي أسفل الكنبة تخيله قال:
( أنا قلم حر لن تملي عليّ ما أفعل أبحث لك عن قلم آخر).
سمع القلم يهمهم متهكما.
(هناك على الرف قلم أحمر يمكنه تلوين شفتيك بالكلام الذي تريده).
مزق الورقة وألقى بها في سلة المهملات و قام من مكانه و خرج. كانت زوجته قد جهزت له الأغراض. أكواز الذرة الشامي. قدر الحمص المسلوق. البهارات والفلفل الحار وثيرمس الشاي. وهو يهم بالمغادرة وضعت جاكيته على كتفه وشيعته بنظرات ودودة كان لها مفعول السحر.
في ناصية المسجد المقابل لمركز الشرطة; نصب شراكه وانتظر ما تجود به دعوات المصلين. حالما انقضت الصلاة وارتفعت الأكف إلى السماء; اشتعلت نار الرزق التي حركتها رياح الدعاء وارتفعت غلل الدخان غيم فرج. انهمر الغيث; تجمهر الزبائن. تحركت دورية الشرطة تستطلع الأمر. الدخان عابق بالجو و يضع أكواز الذرة على الجمر وسرح بخياله. المكتب الواسع. الصالة المكتظة بأجهزة الحاسوب واصطكاك الحروف بين أزرارها موسيقى حالمة. رائحة حبر المطبعة; هرولته بين مكاتب زملائه الصحفيين وهو يقلب عدد الغد بأصابعه; يعدل ويمسح ويضيف. التحقيقات الجريئة التي قام بها. الحروب التي خاصها; الانتصارات التي عاشها; الخيبات وانكسارات القلم التي أحسها في موضع الشدة والسكون والضمة والفتح والكسر والوصل والقطع والهمز. وضع نقطة لمسار حياته وجد نفسه يرسم دائرة يدور رأسه.
والجمر يوقد ويحّمر وأكواز الذرة تتقلب وتطقطق وتنفجر من الوجع والدخان يتصاعد وعيونه تحمر وتدمع وأيادي الكبار والصغار تمتد. يضع الطلبات بآلية ويستلم الفلوس يضعها لا في جيبه يلقمها فم النار. والزبائن يصرخون والأطفال يضحكون. يحضر رجل الشرطة يصمت الجميع يفجر السؤال القنبلة:
( أنت هناك ماذا تفعل؟).
( أبيع الكلام يا سيدي).
[email][email protected][/email]