واحد من أوغاد هذا العالم

ارتسمتْ علامة الخيبة، على وجه لورد الله الفقير، حالما فتح بابَ شقته المستأجرة، وتبين له هوية الطارق الماثل قبالته، في صمت وترقب وضحكة خرساء ميتة.

وكما هو متوقع في مثل تلك الحال، أو لربما حتى لطبيعة شخصيته المُتقبِلة في سلبيتها للخراء نفسه، تغلب لورد الله، دونما صعوبة تذكر، على شعوره بالمرارة.

مد يده المبتلة.

وقال:

“أهلا”.

ما لبث الآخر أن مد يده، بمواتِ مَن يحمل أحد تلك الأخبار السيئة، قائلا:

“سلام”.

كان ما يحمله الطارق، هو بالفعل “شيئا من هذا القبيل”. إلا أن أوان إعلانه لم يحن بعدُ، كما أوحتْ تاليا هيئته العامة، وهو يهم مندفعا بالدخول أولا، على طريقة “فليكن من بعد ما أخطو بقدميّ هاتين متجاوزا عتبة هذا الباب اللعين إلى الداخل ما يكون”، وهو ما لم يتحقق، كما توقع الطارق نفسه قبلها بثقة، في الحال.

لما لم يعد العالم لعيني الطارق هكذا أليفا، مثلما كان عليه الأمر دوما، وتراءى له فجأة على غير ما ظلّ يتراءى عليه طوال أوقات تلك الزيارات المتكررة وما أكثرها كي تُحصى؛ شرع ينظر، من أعماق دهشة عميقة أخرى، إلى وقفة اللورد الراسخة المتصلبة الغارقة، حد البلاهة، في الخرس والتبلد وقلة الحيلة، هناك عند المنتصف، من فراغ الباب المشرع، منذ نحو الدقيقتين، أو أقلّ، على اتساعه.

“ماذا يحدث في ها اللحظة بحقّ العذراء”؟

تساءل الطارق كمسيحيّ زائف، في نفسه.

وبدا الصمت، على حين غرة، حادا شائكا.

كان من الممكن جدا لجليد المفاجأة هذا أن يستمر مبقيا على صلابته الباردة، وهو مغمور في آن بوهج شمس الحيرة الساطع في قيظه، إلى ما لا يعلمه سوى الله، لو لا أن تمكن الطارق كوغد حقيقي أخيرا من أن يلقي بنظرة بدت دقيقة فاحصة، في وميضها الخاطف ذاك، إلى هيئة لورد الله، وقد بدا ذلك وحده (الأرجح) كافيا ليجعله يبتسم، وهو ما أزعج اللورد، في المقابل، بل زاد من مدى حيرته وجلاء ارتباكه الماثل، أكثر فأكثر.

لقد كان واضحا حتى لأي غبي آخر من هذا العالم، وفقط من رائحة العطر الكيميائي الكثيف النفّاذ لصابون “لوكس ماجيك”، ناهيك عن لطخة رغوة الصابون الفقاعية المنسيّة هناك أعلى رأسه، إلى جانب حبات الماء البلورية الصافية المتساقطة السائلة من شعره العالقة حتى على كتفيه العظميتين وصدره ذاك الأسود المسطّح العاري الخالي تماما من محض شعرة، فضلا عن مرأى تلك المنشفة البنية القديمة الحائلة شبه المبلولة لكن الملتفة بإحكام شديد ودقة حول وسطه ذاك شديد الضمور؛ كما لو أنّ لورد الله الفقير قد قطع حمّامه وقتها، عند المنتصف، أو نحوه، كي يفتح الباب، مستجيبا حالا لنداء “هذا الطارق”.

كانت على أية حال شقة مكوّنة من صالة وبلكونة وغرفة لا ملامح محددة لها، سوى أنّها تبدو، في آخر المطاف، مثل أي حيّز آخر صغير، قد يصلح للعيش، على مضض.

غرفة بسرير خشبي قديم، تنقص متنه نحو ثلاثة ألواح..

لا نافذة لها.

أما أحد حيطانها فمنبعج قليلا، عند المنتصف تقريبا، إلى الداخل، وقد بدا على نحو عام، أشبه ما يكون بنسيجِ بطنِ امرأة يعاني، تحت الجلد، من تمزق دائم أعقب ولادة.

لم يكن ثمة من باب يفصلها، كغرفة معدة للنوم واحتمالات الخصوصية الأخرى كالمضاجعة، عن أجزاء الشقة الأخرى. رطبة صيف شتاء.. ذات رائحة “كبريتية ميتة”، خانقة، كفسوةِ حصان عالقة في الهواء الراكد منذ مدة. كي تصل إليها، من الصّالة الضيّقة ذات الأثاث الرثّ القليل، واطئا على البلاط القاتم المتشقق العاري لا بد لك من أن تسلك ممرا طويلا نسبيا، بالغ الضيّق، مثل لحد لعملاقْ، يطل عليه، من جانب، في صمت وكآبة قاتلين، بابا المطبخ والحمّام الذي خرج منه اللورد للتو ركضا مستجيبا لنداء الطارق.

مع ذلك، أو مهما تكن طبيعة مثل تلك المسميات المعمارية الصارمة كعِلم في دقة توصيفاتها، فهي تبدو في نهاية المطاف مثل أي “غرفة” أخرى، لا أدفأ ولا أرحب بل لا أمن، في مدينة كبيرة مثل القاهرة، قلّما تترفق حتى بأهلها أنفسهم، أو بالكاد تحنو.
كان لورد الله الفقير، كمثقف “متسق”، حسب مسميات تلك الأيام، لا يزال يقف في فراغ الباب، محاولا أن يُفْهِمَ الطارق، من دون أن يرتكب في عرفه “جريمة جرح المشاعر”، أن الوقت غير مناسب بعدُ تماما للزيارة:

“يا رفيق حامد عثمان”.

كان اللورد يتطلع، في الأثناء، إلى سلّم البناية القاتم الضيّق الصّاعد خلف كتفيّ المدعو حامد عثمان هذا، بترقب وقلق وشيء آخر بدا أقرب، من رعشة صوته الخفيض، لا إلى الحزن الذي يتولد عادة عند الشعور بفقدان السيطرة على مجرى الأحداث، بل إلى الذعر، فأخذ قلب حامد هذا يؤكد له مستمتعا كوغد بلحظة الكشف ولا بد أنّ لورد الله الفقير يتوقع زيارة عشيقته المسماة أم خميس، في أي لحظة، قد تتخلل وقفتهما تلك.

وقد كان.

الآن، وقد هجس حامد عثمان، وصوت بوق سيارة ينفجر فجأة أسفل البناية، بسرّ عدم ترحيب اللورد به، كما قد يليق الترحاب بين أعضاء حزب ثوريّ واحد “في منفى”؛ مد يده بأريحيّة، وقام بدفع لورد الله الفقير خفيفا، أو كمن يفتعل مزاحا، عند منتصف الصدر، إلى الداخل، ثم نحّاه بيده اليسرى نفسها جانبا، مندفعا في آن صوب المطبخ القريب لا يلوي على شيء من تذمر اللورد المكتوم، حيث لم يعد بوسعه بعدُ فعلَ أي شيء آخر لوقف عملية الاقتحام المباغتة تلك، سوى أن يهز رأسه، علامة استنكار كذلك كظيم، بينما يتجه ناحية الغرفة عابرا الصّالة والممر الضيّق، لارتداء ملابسه، هناك.

لقد كان على اللورد إذن أن يعود من غرفته بعد مرور نحو الدقائق إلى الصّالة لمجالسة ضيف غير مرغوب بالمرة في حضوره ومرة أخرى عليه أن يفعل ذلك من دون أن يرتكب “جريمة جرح المشاعر”. ظني أن أمثال اللورد هذا لا يحتفظ بهم ظهر الأرض طويلا حيث يتزايد في العادة عدد الأوغاد ويتكاثر.

عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. سعيد جداً بمطالعة هذا النص….كان عندي شغف كبير عشان اقرء رواية الريس القرد..ولا اسمها شنو ما عارف..لكن شكلها ح تكون ضياع زمن …يا سيدي الفاضل ماركيز شبع موت..شوف ليك زول تاني تحاكيه..يا عزيزي نصيحة مني إعتمد علي نفسك ..عليك الله لو بتعرف الكاتب السوداني الأديب باخوس وصل ليه الكلام ده..
    نفس الكلمات والتعليقات ونفس رسم الشخصيات…قرأت كل روايات ماركيز تقريبا وكثير من أدب أمريكا اللاتينيه ..يعني ما تحاول تخمنا بكلمات زي خراء ورائحة كبريتة ميتة وأوغاد وكلام من ذاك القبيل..سيدي البرنس إذا دي طريقة حكاياتك شوف لك شغلة تانية تاكل منها عيش نصيحة لوجه الله

  2. شكرا عبد الحميد البرنس على هذا الألق السردي المدغدغ اللذيذ، والذي لا يقدر عليه (ولا يتذوقه) إلا من رحم ورزق ربي.
    أبهرني وصف الممر الضيق (كلحد لعملاق!)
    وكاد أن يحبس أنفاسي أعجابا وصف ما يمكنك تسجيل براءته بإسمك تحت وسم “ما بعد خروج إبن آدم على عجلة من الحمام لفتح الباب”!

    المشهد الأخير ذكرني بقول ماركيز، والذي كان في بداية مشواره الروائي يستصغر هيمنجوي، أنه أحتاج وقتا ليفهم عبقرية هيمنجوي السهلة الممتنعة، وختم قائلا: “يمكنك ككاتب أن تتعلم منه أكثر من أي شخص آخر وصف كيف يدور (يعني: يلف) شخص حول زاوية شارع!”

    منك يمكن أن يتعلم أي كاتب كيف يصف:
    “الخروج عجلة من الحمام لفتح الباب”!
    شكرا مرة أخرى
    And keep up the good work

  3. سعيد جداً بمطالعة هذا النص….كان عندي شغف كبير عشان اقرء رواية الريس القرد..ولا اسمها شنو ما عارف..لكن شكلها ح تكون ضياع زمن …يا سيدي الفاضل ماركيز شبع موت..شوف ليك زول تاني تحاكيه..يا عزيزي نصيحة مني إعتمد علي نفسك ..عليك الله لو بتعرف الكاتب السوداني الأديب باخوس وصل ليه الكلام ده..
    نفس الكلمات والتعليقات ونفس رسم الشخصيات…قرأت كل روايات ماركيز تقريبا وكثير من أدب أمريكا اللاتينيه ..يعني ما تحاول تخمنا بكلمات زي خراء ورائحة كبريتة ميتة وأوغاد وكلام من ذاك القبيل..سيدي البرنس إذا دي طريقة حكاياتك شوف لك شغلة تانية تاكل منها عيش نصيحة لوجه الله

  4. شكرا عبد الحميد البرنس على هذا الألق السردي المدغدغ اللذيذ، والذي لا يقدر عليه (ولا يتذوقه) إلا من رحم ورزق ربي.
    أبهرني وصف الممر الضيق (كلحد لعملاق!)
    وكاد أن يحبس أنفاسي أعجابا وصف ما يمكنك تسجيل براءته بإسمك تحت وسم “ما بعد خروج إبن آدم على عجلة من الحمام لفتح الباب”!

    المشهد الأخير ذكرني بقول ماركيز، والذي كان في بداية مشواره الروائي يستصغر هيمنجوي، أنه أحتاج وقتا ليفهم عبقرية هيمنجوي السهلة الممتنعة، وختم قائلا: “يمكنك ككاتب أن تتعلم منه أكثر من أي شخص آخر وصف كيف يدور (يعني: يلف) شخص حول زاوية شارع!”

    منك يمكن أن يتعلم أي كاتب كيف يصف:
    “الخروج عجلة من الحمام لفتح الباب”!
    شكرا مرة أخرى
    And keep up the good work

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..