موقف المجتمع السوداني من الفساد: رؤية نفسية.

تقوم هذه المداخلة على فكرة مركزية تستند على آليات ضبط السلوك السائدة فى كافة المجتمعات وخصوصا المجتمع السوداني، مثل الاذعان للمعايير الأخلاقية أو القانونية التى تتولد عنها أنساق أخلاقية تستند على ثقافتي الشعور بالذنب (تأنيب الضمير) أو الشعور بالعار (الخوف من الجماعة)، أما آلية الضبط الأخرى فقد قال بها علماء نظرية العزو السببي في علم النفس الاجتماعي (فريتز هايدر، وهارولد كيلي، وبيرنارد فاينر، 1974) التى تقول أن الأحداث التى تقع على الفرد يمكن تفسيرها بطريقتين: اما داخلية أو خارجية، فالطرق الداخلية هى الجهد والقدرة، والخارجية هى المهمة والحظ. وتعمل المؤسسات الرسمية (المناهج المدرسية، الوسائل الاعلامية) أو غير الرسمية (الأسرة، جماعة الرفاق)، على غرس وتبني نسق أخلاقي قائم على ضبط السلوك بواحدة أو أكثر من آليات الضبط المذكورة.
لذلك يعمل الجو النفسي الذى ينشأ فيه الفرد على توجيه تفكيره، وتحديد اهتماماته، وحتى صياغة عقله ضمن القوالب التى أعدت ضمن أنساق آليات ضبط السلوك. وربما يعتقد الكثيرون أن هذه الانساق لا تلعب دورا مؤثرا فى تحديد أخلاق الأمم وأنماطها السلوكية التى ربما تجعل حياتها جحيما لا يطاق من كثرة التقاطعات الثقافية التى تعتد بالعرق واللغة والجهة، وبالتالي يفتقر المجتمع لمفهوم التقدير الاجتماعي الذى يؤكد أن الانسان بحاجة إلى الشعور بالحب والانتماء والتقدير ممن حوله، فالشخص الوحيد يعاني دائماً من القلق والملل والوحدة والعصبية وعدم تقدير الذات؛ لأن التقدير الاجتماعي يوفر للإنسان الشعور بالسعادة والاطمئنان والأمان والراحة النفسية، وبالتالي تنتج شخصية سوية متزنة نفسياً وصحياً، متضامنة مع من حولها تسعد بتقديم الخدمات له وتنفر عن إيذائه.
هنالك مجموعة من الملامح والمؤشرات التى تؤكد على وجود أزمة ثقة بالنفس داخل المجتمع السوداني، وربما تسهم بشكل أو بآخر فى تبنى آليات ضبط ينجم عنها كثير من أنماط سوءالسلوك، أوجزها عبد الوهاب محمد خير(2005) :
1. يلاحظ فى مختلف المراحل التاريخية أن نموذج الحكم السائد في القبيلة، أو العشيرة أو الحكم السياسي يقوم على فكرة القائد ذو المواصفات الخاصة (الكبير الذى لا يناقش)، والقادر على إدارة الأمور بحنكة، وتندر تجارب الحكم القائمة على المؤسسة وليس الفرد . حتى أن معظم الأحزاب والجماعات التي تتحدث عن المؤسسية والمنهجية فى يومنا هذا هي في واقع الامر تدور في فلك القائد ” الملهم ” وهنالك نماذج لحكام معلومين حكموا لسنوات طويلة وفق هذا المفهوم.
2. الاحترام الكبير و التقدير الذي لا حدود له للأجنبي كشخص موهوب، و تزداد الثقة بالسلعة التي ينتجها، و بالخدمة التي يقدمها، و هذا أمر غاية في الخطورة ، حتى و ان كانت له مبرارات مهنية و حرفية .
من أهم اسقاطات عدم الثقة بالنفس على الشخصية هي تحويلها الى شخصية غير قادرة على الحكم على سلوكياتها وافعالها بنفسها، فتعتمد على الغير لإصدار هذاالتقييم، و تصبح شخصية (غيرية التحديد)، وتضعف مقدراتها بالاحساس بالذنب عند الخطأ، ويتحول إلى احساس بالعار ناجم عن نظرة الآخر تجاه هذا الخطأ .إن الإحساس بالذنب قد يؤدي الى أن يصحح الشخص أخطائه، بينما تكون ردود الافعال تجاه الاحساس بالعار فقط محاولة اخفاء هذه الاخطاء عن العيون، ويكمن هنا خطر الفساد طالما أن احساسه به لا ينبع من ضميره الذاتي. وتتجلى هذه المسألة فى الاشتبكات القبلية أو الجهوية والتى يموت فيها العشرات وغالبا ما تنتهى بدفع ديات جماعية، تنتفي معها المسؤولية الشخصية، وتخبوء فيها جذوة الاحساس بالذنب الفردي، لذلك فإن النهب والسلب الذى يتم بتأكيد شيخ القبيلة لا يشعر فيه الافراد بالعار طالما أنه محمى بنسق الاخلاق الجماعي.
أما فيما يتعلق بنمط العزو السببي (تبرير خبرات النجاح والفشل) المستخدم لتفسير السلوك، فيمكن رؤيته أيضا من منطلق الاعتداد بالقبيلة أو الجهة أو المعتقد الفكري، فتبنى الطموحات وتنال المناصب على أسباب غير واقعية ليس من بينها بذل الجهد على أقل تقدير، وبذلك تختل معايير الضبط داخل المجتمع، وتتعاظم دائرة الفساد. ومن أفضل أساليب العزو التى يمكن أن يتبناها المجتمع هو نيل الحقوق القائم على بذل الجهد مع القدرة. وقد يفسر الفرد نجاحه أو فشله للقدرة العقلية فهي عامل داخلي لا يمكن التحكم فيه، ويعتبر استخدامه غير حكيم فى حالة الفشل، وقد يستخدم الفرد الحظ لتفسير نجاحه أو فشله وهو عامل خارجي لا يمكن التحكم فيه، وأخيرا قد يستخدم الفرد المهمة من حيث سهولتها أو صعوبتها لتفسير نجاحه أو فشله وهى عامل خارجي يمكن التحكم فيه.
ولذلك فإن ظواهر مثل انتشار الرشوة، أو الواسطة أو الاعتداد بالقبيلة، أو التعالي المرتبط بالنوع ربما لا يعطي لعامل بذل الجهد لانجاز المهام دورا كبيرا، وبذلك تسود مظاهر الفساد والتواكل داخل المجتمع طالما هنالك شخص واحد ينفق على جميع أفراد الأسرة.
لذلك تقوم على المجتمع مسؤولية تبنى مناهج تربوية وأسرية بواسطة كافة مؤسساته وحتى أفراده: المدرسة والأسرة ووسائل الاعلام على تبنى وغرس القيم التى تؤكد على المسؤولية الفردية للفعل ثوابا وعقابا، وذلك من خلال تبنى التوصيات التالية:
1. الاعلاء من قيمة المسؤولية الفردية للفعل من حيث التحفيز أو العقاب وذلك على كافة المستويات ابتداء من الأسرة الصغيرة مرورا بالقبيلة وانتهاء بالمؤسسات الحكومية، وذلك تعظيما ودعما لايقاظ الضمائر والاحساس بالذنب خاصة عند الخطأ.
2. الاعلاء كذلك من قيمة الجهد المبذول لبلوغ المرامي والاهداف والعمل على محاربة الواسطة والمحسوبية والرشوة بكافة اشكالها، حتى تصبح ثقافة بذل الجهد لنيل المرام ثقافة سائدة وسط المجتمع السوداني.
3. الاعلاء من قيمة التفكير الناقد، إذ لابد للفرد أن يكون قادرًا على أن يتناول تفكيره مجزّأً، ويتأمّل في الأجزاء المختلفة، إضافة إلى الالتزام بالتفكير ضمن منظومة متداخلة من سمات العقل، فعلى الفرد أن يكون متواضعًا، ومثابرًا، وجريئًا، ومنصفًا، وعادلا فكريًّا. كما يدرك الفرد من خلال هذه العملية السبل المتنوّعة التي قد تشوه تفكيره وتجعله مضلّلاً، متحيّزًا، سطحيًّا، غير عادل، ومعيبًا، فالمفكّر يسعى للكمال والنّزاهة كقيم أساسية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربنا العالمين.
لمزيد من القراءات:
1. جوديث بيك (ترجمة طلعت مطر) العلاج المعرفي: الأسس والأبعاد (2007)، المركز القومي للترجمة، القاهرة.
2. عبدالباقي دفع الله أحمد (2009): الشخصية: أسسها ونظرياتها، مطبعة جامعة الخرطوم ، الطبعة الأولي.
3. عبد الوهاب محمد خير (2005): ملامح الشخصية السودانية: أزمة الهوية وغياب الضمير، مطبعة الحرية، الخرطوم.
[email][email protected][/email]