حساب الحقل وحساب البيدر

عندما ينهي الزارع بذره، وتهتز الأرض وتربو، يلتحف الحقل حينها عباءة خضراء تخفي كافة العيوب عن الناظرين، فيعود الزارع إلى بيته كالاً من عمل يده جراء ما أصابه من وصَبٍ ونَصَب، فيغطُ في سباتٍ عميق لتراوده أضغاث الاحلام على غرار “كان نجحت الزراعة المرة والحماره”، وما إن يجمع الحصاد في البيدر (البيدر مكان جمع الحصاد) تتبدى نتيجة أعماله عارية من كل وهم وحلم، وحينها لا شك سيحتار بين “المرة والحماره” في حال تَعذَّر الجمع بينهما.
قبل الولوج في جوف الموضوع، لا بد من الاشارة إلى قسوة المثل الشعبي الذي يحط من قدر المرأة، ويعكس لنا دون زيف أو تدليس مكانة المرأة في العقل الجمعي المتقيح، ذلك العقل الذي اختار لنا، دون وعي منا، واقعنا الذي نعيشه بكل تفاصيله ومراراته واخفاقاته وانكساراته، رغم ما يناتبنا من حالة رفض وانكار، تبدو أحياناً في صورة بلهاء، أدت بنا في نهاية المطاف إلى أن نلعن، بلسان الحال والمقال معاً، ليس الوطن وحده وإنما الأقطار المجاورة.
هنالك بون شاسع بين الأفكار النيرة التي نحمل، والسلوك الذي نسلك، بين أحلام الديمقراطية والحرية في الرأي والمعتقد، وبين ما نمارس من قسوة تجاه كل من يخالف ما نقول، تبدأ بالتشهيير والمنع ولا تنتهي إلا بإفناء من نخالف، ونفعل ذلك بأسلحة مختلفة بعضها نجلبه من (كنانة) التراث التي تعج بأسلحة القتل والفتك والبعض الآخر من سقط مفاهيم الحداثة التي أتت لنا بالاستعمار، وفي كلا الحالين ينتحل العقل صفة الوصي على القاصر.
لا فرق هنا بين حكومة ومعارضة، ولا خمسينيات القرن العشرين ولا بدايات القرن الواحد وعشرين، لأننا ببساطة نعيش في حالة (زمن ثقافي ساكن) لا حراك فيه، حيث لا يصلح حاضرنا إلا بما صلح به ماضينا، حتى ولو كان ماضينا هو سبب نكبات حاضرنا، اللهم إلا إذا ابتغينا الشهرة والعزف على حواف الكلمات الرنانة التي يرقص لها طرباً كل واهم بتغييرٍ قريب.
كل واقع هو نتاج أفكار أصحابه، لن يتغير الواقع دون تغيير الأفكار التي أنتجته، والأفكار لا تتغيير بالأماني العسجدية والخطب البربرية، انما يتغيير بالعلم والمعرفة والوعي، ولكن يكون السؤال كيف يتم ذلك؟
توفي قبل يومين الواعظ الأمريكي (بيلي غراهام) الذي يقال أنه قدم الوعظ الديني “بصورة شخصية” لأكثر من 210 مليون شخص على مدى 60 عاماً، ما يهمنا في هذا الخبر هو كثافة النشاط والايمان بما يفعل والاصرار على أن يفعل ما يؤمن به، بعيداً عن الأحكام القيمية التي ما قتلت إلا أرواحنا وقعدت بنا في مزبلة التاريخ، التي اتخذناها منصة نحاكم منها كل صاحب فعل ورأي.
كلما تأملنا الواقع، كلما علمنا عمق الورطة التي نعيشها، وحجم العمل المطلوب لتغيير العقلية التي تنتج هذه الأنظمة المستبدة كل مره، مالم نقف ونقول (الإمبراطور عريان) ونبدأ في ستر عوراتنا ونسج أفكارنا التي تنعش (الزمن الثقافي السكوني) الذي نعيشه، فلن ينصلح الحال وستستحيل الثلاثين إلى ستين.
لا بد من مطابقة حساب الحقل مع حساب البيدر وعمل التسويات اللازمة، ومحاولة بناء صوامع غلال فكرية تغذي عقلنا الجمعي ليغيير الواقع المعيش، ذلك لن يكون إلا من خلال المثاقفة والمقابسة وطرح الافكار والافكار المضادة، وضرب بعض الرأي ببعضه ليتولد منه الصواب، ومحاربة الطقوس الشعائرية المتبعة في الفعل السياسي الذي يعاني من فرط وحدة الاستقطاب التي أفقدتنا رشدنا وحطمت بوصلتنا.
بالتزامن مع الدعوة للديمقراطية على مستوى الشعارات علينا أن نحيل هذا المفهوم إلى علم راسخ في عقلنا الباطن ليخرج سلوكاً متناغماً مع دعوتنا، ليتحول الزمن الثقافي من السكون الى الدينامية والعنفوان الذي سيهدم كل أصنام الاستبداد والقهر والاستعباد الديني الذي يمارس علينا بفوقية من رجال الدين الذي سطوا على الدين وحرمونا سماحته التي جاء من أجلها بلا اكراه.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..