أم خميس … العاشقة في السرّ

هذا المقتطف، من سياق مسودة رواية: “غرفة التقدميّ الأخير”، من نسج الخيال وحده، وإن تشابه أحيانا مع الواقع:
“اللورد يقول إنها لا تضيع زمنا أبدا في بعث أسباب الحياة داخله وفي كل ما تقع عليه يداها لحظتها داخل الشقة ولا شيء مهما صغر هناك قد يفوت عليها”.
مرت ندف تلك الذكريات القريبة تاليا، على ذهن حامد، وقد توقف، على حين غرة، عن متابعة بحثه ذاك، عن شيء ما قد يؤكل، إلا انه سرعان ما تساءل:
“وأنا ما الذي يبعث الحياة في داخلي”؟
هكذا، اتكأ أخيرا، من تفاقم جوعه، على كاونتر مطبخ اللورد الفقير. وبدأ في مغالبة ذلك الحضور غير المحتمل لطيف أم خميس في ذاكرته. ثم ما لبث أن أخذ يغالب ذلك النوع الذي لا يقهر من رثاء الذات للذات. وقد أدرك بمثل ذلك الوضوح الجارح الحزين أن ما ينشب مخلبا في سويداء قلبه الآن، ليس سوى ذلك النوع من الخليط المزمن من الجوع.. الجوع إلى كل شيء. “أنا جائع.. جائع لكل شيء.. جائع.. جائع”. ومضى يفكر بمثل ذلك القدر من الإعياء المتفاقم والتشوش: “الله الرحيم نفسه كان من الممكن أن يفتح لهذا اللورد اللعين باب الجنّة لو تفهم الرغبة الملحة لرفيق منفى من الممكن جدا أن يحمي ظهره أثناء تلك المعركة المحتملة مستقبلا ضد النظام وسمح له حتى من باب (التعرصة للإخوان رجالة) باستعارة هذه القحبة لبعض الوقت على السرير”. وبتلك الحسرة نفسها، التي لو مرت على جبال العاديات لأحرقتها، واصل حامد عثمان رثاء ذاته لذاته ذاك: “ولكن كيف يمكنني ممارسة الغرام مع أم خميس اللعينة داخل شقتي تلك الخاضعة للرقابة ليل نهار”؟!!
كانت أم خميس تعد أول ما تعد فور حضورها المائدة.
كانت تضع عليها ما أحضرت معها من طعام، وهي تواصل الدندنة ودائما بأغنية “في هواك يا جميل العذاب أضناني”، لا تأكل هي بأكثر مما تقوم بإطعامه هو. كما لو أن اللعين طفلها المدلل. خميس الذي مات في الثالثة منذ نحو الخمسة أعوام. كذلك أو بصورة ما كانت أم خميس تعتقد أن اللورد ظلّ يعاني منذ ولادته من نقص حاد في الحنان. وقد امتلأت معدته عندها وارتوى مما أحضرت معها من عرقي، تدعه أم خميس يأخذ قيلولة، وفي حساباتها أن زوجها لن يحضر من عمله البعيد في أحد مصانع مدينة العاشر من رمضان ودوما قبيل السابعة مساء. أثناء نوم اللورد، تقوم هي بنظافة الشقة وترتيبها، وتفكر أحيانا أن “الشرموطة” هي من تبيع لحمها، أو من تخضع لحمها مكرهة بالسلطة القميئة المسماة “قسيمة الزواج”، أما الشرف ففي قدرة اللحم على الخضوع بنوع ما من الحكمة لسلطان الحبّ الذي لا يُقهر. تضرب أم خميس على جبهتها مبتسمة. لأنها أحسّت دوما بعمق مثل تلك الأفكار. ولم تفلح يوما في صياغتها عبر الكلمات. تبتسم ثانية لأن عجزها عن وصف ما يعتمل داخلها من أفكار لا يضاهي لذة ما تعيشه بالفعل من زخم الحبّ. لما تضع أم خميس راحتها أخيرا على جبهة اللورد، الذي عادة ما يحلم أثناء النوم بالمشي في شارع ما من شوارع الوطن، تكون اغتسلت قبلها وتعطرت وتزينت وغدت جاهزة في قميص نومها لبدء تلك “الخيانة”.
كانت أم خميس تجيد التمويه كحرباء إلى جانب إجادتها لصناعة العرقي. ذلك ما أخذ يفهمه اللورد، تدريجيا، كشرط لازم لاستمرار اللعب بينه وبينها. وذلك بالضبط ما أعتم أكثر على صورتها “الخاصّة”، في عالم لا يعترف عادة بخصوصية أفراده، لحظة أن ذهب حامد إلى شقتها مساء صيف، ليس بعيد، بُعيد أن أباح له اللورد في لحظة سكر بما ظلّ يدور بينه وبينها في الخفاء، طوال أكثر من العام. لقد كان حامد يسعى لرؤية أم خميس، هذه المرة، بعين أخرى مختلفة، أي بوصفها “عاهرة” حسب وصفه هو نفسه “مستترة”. إلا أن حامد لم يذهب طويلا. كأن يوحي لها بمعرفته الدقيقة عن صورتها المحتجبة. أو يشرع في الدندنة بغتة أمامها وعينه على عينها كما عزم بأغنية “في هواك يا جميل العذاب أضناني”. فقط، أخذ العرقي. أعطاها ثمنه في صمت مشوب بأدب وتهذيب مشلّ. آخر الليل، داهمته الجرأة، فقام في خياله بتعرية أم خميس. وقد نصب لها سريرا في العراء عند مدخل “الحارة”. كان حامد عثمان بارعا في وضع سيناريو مثير كي يمارس عبره عادته السريّة ببراعةِ شيطان عزب.
ما أن تستنفد قوى اللورد مجتمعة على السرير، حتى تقوم أم خميس ثانية بالاستحمام، مزيلة تماما آثار العطر والكريمات والزيوت المعطرة والكحل، فتخرج مغادرة شقة اللورد شاحبة البشرة من طول تدفق المياه أسفل الدش، وقد ارتدت ثوبا أبيض سادة، ولفّت رأسها بغطاء أسود، وقد انتعلت حذاء بني قديم بمقدمة يعلوها دوما غبار وشيء جاف مما ظلّ يعلق أحيانا عن عمد من وحل. لا أحد طوال الطريق إلى بيت الزوجية الآمن قد يساوره شك إذا رآها على تلك الحال من الشحوب والمسكنة المخادعة أنّ ما تخبئه أم خميس بين ساقيها لا يصلح لغير البول. وذلك بالضبط ما ظلّ يدهش لورد الله الفقير في بداية علاقتهما معا:
أن تمحو امرأة أنوثة طاغية، إلى حين.
لم تكن هناك أزمنة محددة لحضورها.. كما لم يفلح حامد أبدا في رؤيتها متلبسة هنا، داخل شقة اللورد، حيث أخذ قلبه منذ لحظات يعصف، وهو لا يزال يبحث عن شيء يقيم الأود داخل المطبخ، لمجرد أنّها ستقوم، بطرق باب الشقة اللعين هذا الآن. إذا استبد الحنين باللورد، وذهب بدواع شراء شيء من العرقي إلى شقتها، كانت لا تعطي له أبدا الانطباع أنّها على علاقة ما به، خارج حدود العلاقة المعلنة، ما بين مشتر وبائعة!!
كانت في عملية المبادلة تلك تعطيه العرقي صامتة. وتأخذ منه المبلغ المطلوب متجاهلة بالمطلق ذلك التنبيه المختلس لأصابع يديه بالشوق وتوهج الحنين:
“إنني أموت، في غيابك، يا ظالمة”.
لما يحتج لورد الله الفقير في خلواته تلك معها، كانت تضع أصابعها على فمه، وتبدأ من كل ذلك القرب تخاطبه بمثل ذلك الدلال الذي بوسعه إيقاظ الفحولة النائمة بين ساقي ألف لوطي، قائلة: “هنا في القاهرة، المرء لا يمكنه ضمان أي شيء، لأن كل شيء عرضة للسرقة أو البيع أو الخيانة (تضحك)، ومن الحكمة دوما أن تتأكد أنّك تنام بعين واحدة، وتفتح الأخرى للتعامل مع المفاجآت”. كان لورد الله الفقير يصون بدوره تماما تكتم أم خميس الذي لا يحتمل. لم يلن موقفه هذا إلا بعد أن غدت أشباح تلك الشائعة تهدد جوهر وجوده هو نفسه بالزوال. لقد كان في حاجة ماسّة كرجلٍ حسّاس إلى إثبات ما يدعم صورة نفسه الواقعية في عالم ما تنفك تصنعه الشائعة.
عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email]
الشكر لك يا برنسيس ان قدمت لنا طرفا مما تحتويه هده الكوشه حتي لا نصرف خمس تعاريف لشراءها
الشكر لك يا برنسيس ان قدمت لنا طرفا مما تحتويه هده الكوشه حتي لا نصرف خمس تعاريف لشراءها