نحو أرشفة المواقف الطريفة

أهداني د. حسن الجزولي نسخة من كتابه (أرشفة الضحك ? الجزء الأول) الصادر في طبعته الثانية من دار الخليل للنشر وهو يقع في 136 صفحة من القطع المتوسط ويضم 200 حكاية وملحة ذكية، وقد قدم له الراحل الشاعر محجوب شريف والدرامي الشاعر يحيى فضل الله. وفي البدء أقول إن هذا الجزء بكلياته مكرس للمواقف الواقعية الطريفة ذات الطابع والمرجعيات السياسية، وعليه من المتوقع أن يشتمل الجزء الثاني وربما الثالث على النوادر الاجتماعية العامة التي يتسع فضاؤها لمختلف الطرائف والروايات والمفارقات المنسوبة لظرفاء غادر بعضهم دنيانا الفانية وبقي منهم من ينتظر، في حين أن رحم الحياة يلد يومياً صناعاً ورواة للطرف والعبارات التي تقال من طرف اللسان فتبعث على الضحك حتى في أحلك الظروف المأساوية. وبالفعل إن الظروف العصية على المرء قد تكون مدعاة لتحريك مشاعره فتتولد عن ردة فعلها مئات الطرف والنكات بحسبان أن ذلك قد يخفف عن النفس عبء المعاناة ورهق العيش. وكان د. حسن الجزولي باعتباره متخصصاً في التوثيق قد نشر كتاباً توثيقياً عن المناضل العمالي الراحل علي السخي وكتاباً آخر بعنوان (عنف البادية) عن الأيام الثلاثة الأخيرة في حياة الأستاذ عبد الخالق محجوب ثم كثاباً ثالثاً بعنوان (نور الشقايق) عن دار فوز التي كانت صالوناً للفن والأدب والسياسة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. وفي هذا الإطار قرأت للإمام الصادق المهدي كتاباً بعنوان (الفكاهة ليست عبثا) فوجدته يتعرض لفلسفة الضحك وتعريفه ودواعيه ووظائفه مع تقديمه نماذج متنوعة لفئات عديدة من مجتمعات قديمة وحديثة، قد اتناوله في فرصة أخرى.

ومعروف عن الشعب المصري قدرته على صياغة الطرف قولاً أو كاريكاتورياً أو تجسيداً حركياً حتى صارت العبارة الطريفة تجري على لسان أي فرد مصري كلغة يومية. وحتى عهد قريب لم يكن معروفاً عن الإنسان السوداني اهتمامه بتوليف ورواية الطرف اليومية أسوة بالمصريين بل كان الانطباع السائد عنه، أننا شعب صارم لا يعرف المزاح. هذا بالطبع انطباع متعجل لأن كل شعوب العالم لها أدواتها الخاصة لتلوين حياتها بما ينتمي للطرافة كبهار حياتي لا تطاق الحياة بدونه، ونحن منهم، لكن ربما لأننا نتأنى عند تخير الزمان والمكان لإشهار ذلك، جاء الانطباع ببعدنا عن المسار الطريف. ومؤخراً لما بدأ الناس عندنا يتداولون الطرف والحكايات ويعبرون عن ذلك بالرسومات الكاريكاتيرية ويتبادلون الطرف العامة ويجسدون المواقف بالمسرح قال عنا المصريون: لابد أن الشعب السوداني جاع وضاقت به سبل الحياة الشيء الذي دفعه للتعبير الفكاهي.

بالرجوع لمحتويات الكتاب الذي يؤكد على حسّنا اللمّاح والطريف، نجد أن المؤلف قد صنّف الطرف والمواقف والحكايات وقسمها إلى عدة أبواب بعناوين تسهل على الراغب في جزئية محددة أن يقفز اليها مباشرة مثل (استقلاليون ? خدمة مدنية ? شيوعيون ? اتجاه إسلامي ? معتقلون سياسيون ? أفارقة ? صحفيون ? إنقلابيون ? برلمانيون ? حركة شعبية ? أنصار ? مثقفون ? اتحاديون ? مطربون ? رياضيون ? جمهوريون – الخ) مع إن كل مادة الكتاب جاذبة ولا تبعث على الملل الذي قد يجعل البعض يقفزون من جزء إلى آخر، فأنت إذا بدأته لا شك أنك ملتهم كل صفحاته في سويعات تقف بعدها متطلعاً لقراءة الأجزاء الأخرى – المأمول نشرها – حتى تكتمل عندك الدائرة علما بأن ما نشر بالكتاب من نماذج وما سوف ينشر يظل نقطة في بحر مقارنة بما يختزنه البعض الآخر.

وأخيرا هل يصح إنهاء المقال دون انتقاء طرفة واحدة على الأقل؟ لا اعتقد ذلك، ولكن لما كانت المفاضلة مهمة صعبة فقد تخطيت هذه العقبة الكأداء باختيار طرفة قصيرة لا تخل بمساحة العمود، وهي كما جاء بالكتاب تقول: (في إحدى ولايات السودان قرر واليها تقديم وجبة إفطار مجاني في شهر رمضان للذين تنقطع بهم السبل، ولأولئك الذين لم يتمكنوا من لحاق مدفع الإفطار بمنازلهم. وعند مراجعة ميزانية المنصرفات اكتشف الوالي أن ثمة تلاعباً قد حدث عندما قدمت له فاتورة شراء لحوم لعمل (الشرموط) بما يفوق ملايين الجنيهات. وعندما لم يجد الوالي طريقة لإثبات التلاعب، سأل القائمين على الأمر بجدية: بس وروني الحبل الشريتو فيهو الشرموط ده وينو؟)

صلاح يوسف
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. مشكور على عرض الكتاب يا أستاذ.
    استوقفتني هذه العبارة في الطرفة التي انتقيتها
    “لم يتمكنوا من لحاق مدفع الإفطار بمنازلهم”
    هل توجد ولاية سودانية تستخدم مدفع الافطار الآن؟ خاصة أن تفاصيل الحكاية تدل أنها في عهد الانقاذ (الفساد، مبلغ الملايين).
    هل الأمر كذلك أو هو تأثر مثقفينا البالغ بالثقافة المصرية حتى وهم يوثقون لخصوصية السودان؟

  2. مشكور على عرض الكتاب يا أستاذ.
    استوقفتني هذه العبارة في الطرفة التي انتقيتها
    “لم يتمكنوا من لحاق مدفع الإفطار بمنازلهم”
    هل توجد ولاية سودانية تستخدم مدفع الافطار الآن؟ خاصة أن تفاصيل الحكاية تدل أنها في عهد الانقاذ (الفساد، مبلغ الملايين).
    هل الأمر كذلك أو هو تأثر مثقفينا البالغ بالثقافة المصرية حتى وهم يوثقون لخصوصية السودان؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..