الشيخ الترابي بين الخلود والنسيان والخيانة

(1) مضت سنتان علي رحيل الشيخ حسن الترابي أحد الأئمة الكبار الذين حُظي بهم عالمنا في العصر الحاضر ، كان إمام وفقيه عصره بلا منازع كما يقول الشيخ أبو زهرة عن الإمام ابن حزم ، وكانت حياته مثار جدل لم ينقضي حتي بموته ، ما زالت سيرته تملأ الافاق وتحلق في فضاءات الفكر والسياسة ، منهجه وفكره ما يزال حتي اليوم يفرض سطوته علي الحياة العامة ، حضوره الباذخ في العقل الإسلامي والعربي جعل العديد من البلدان الإسلامية والعربية تتخذ من أفكاره وتصوراته طريقاً الي الإصلاح والنهضة .

(2) ميراث الأئمة العظام كما سنة الأفكار والأشياء يُمتحن بقدرته علي قراءة و استشراف المستقبل واذا نجح في ذلك يكون له التأثير في الأجيال الخالفة ويكتب له الخلود ، العديد من أصحاب الدعوات والأفكار لم تظهر ثمار نبتهم إلا بعد عشرات او مئات السنوات من رحيلهم ، والنماذج علي ذلك كثيرة ولا حصر لها ، و الشيخ الترابي لا شك أنه واحد من هذه النماذج المضيئة في عوالم الفكر ، قد يقول البعض ان مشروع الشيخ الترابي قد استبان في حياته العريضة ، وان نموذج دولة الحركة الاسلامية في السودان هو خير مثال علي مشروعه الفكري و السياسي ، لكن الصحيح علي ما أعتقد ان مشروع الشيخ حسن الترابي لم يُمتحن بعد ، يحتاج الي عشرات السنوات حتي تستبين ملامحه وتترجم أفكاره الي واقع مشهود ، كان الترابي كما يتساءل جورج أورويل أتراه لمن يكتب هل يكتب للمستقبل ام للحاضر ام للماضي ، والإجابة أنه كان ينظر ويكتب للمستقبل ، لغته ما زالت عصية علي الحاضر تحتاج الي معجم حتي تفهم معانيها ، أفكاره وتصوراته تبحث عن عالم ليس حاضراً في زماننا ، القضايا والتصورات التي طرحها تثير الدهشة ولا تجد لها نهايات في جدل حياتنا اليومية الحاضرة ، علي هذا النحو أعتقد ان الشيخ الترابي سيظل يملأ ساحات الجدل والكلام والفكر لعشرات السنوات القادمات شانه في ذلك شان الأئمة الكبار من أعلام الهدي والمعرفة .

(3) علي سياق اخر هناك الكثير من الأئمة الذين كانوا علامات مضيئة في عصورهم القديمة ، أثروا حياة من عاصروهم بنور العلم المعرفة ، تثيرك الدهشة حين لا تجد إجتهاداتهم وأفكارهم في بورصة الأفكار الكبرى في العصور الحالية ، ضاعت أفكارهم بين الركام و لم ينتبه إليها أحد، تتساءل بصوت عالي والحسرة تملأ جوانبك كلها، أين ذهب مذهب فقيه خراسان عبدالله بن المبارك ولن تجد إجابة تبعد عنك الحسرة والدهشة سوي أبيات من الشعر وبعض المواقف والروايات الدرامية وقصص من الزهد ، سيجيبك رجع الصدى حين تسأل أين مذهب إمام الشام الأوزاعي ، وذات الصدى سيرتد عليك حين تسأل وأين مذهب إمام الكوفة الثوري ، أين اجتهادات فقيه مصر الليث بن سعد ، و لا تجد تعليلاً شافياً لهذه الظاهرة مهما اجتهدت في البحث عن الأسباب ، فالأصل ان الأفكار لا تموت بموت أصحابها ، و ان الأفكار لا تخون أصحابها ، ولكن يمكن الركون الي علة ضعيفة وهي ان هؤلاء الأئمة العظام افتقدوا التلاميذ النجباء فانقطع الأصل ، اذا صوبنا هذه العلة علي سيرة الشيخ الترابي فقد يبدو الأمر قريب من ذلك ، مضت علي رحيل الشيخ الترابي سنتان ، ولم تستبين حتي اليوم ملامح مدرسة في الفكر علي السياقات التي كان يعمل عليها ، الصدي السياسي لمشروعه هو الغالب علي سيرته علي الأقل في الأوساط السودانية ، فما بالك اذا مرت علي ذكري الشيخ الترابي عشرات السنوات ، أخشي ان يصير الي ما صار إليه أئمة كبار لم تتبقي من سيرتهم إلا الشواهد علي قبورهم ، مات في الخامس من مارس رجل كان اسمه حسن الترابي .

(4) علي سياق مختلف تعرض الكثير من أئمة الهدي والمعرفة الي خيانة من أقرب الناس اليهم ، و الأمثلة علي ذلك كثيرة ولا حصر لها خاصة في العصور الوسطي حيث متلازمة السلطان والفقيه ، وتجددت ذات العلة في عصرنا الحاضر وتمظهرت في ثوب عصري صراع المثقف والسلطة ، وان كنت لا أقصد هذه الخيانة بمعناها الضيق ولكن لا بأس من التعرض إليها عبوراً ، بعضهم خان الشيخ الترابي بدوافع تقلبات النفس البشرية بين الكمال والنقصان و شح الأنفس ، وهؤلاء أقل شاناً من الذكر وان كانت خيانتهم أعظم في لحظتها ولكن في المستقبل ليس لهم أثر وليس لها أثر ، ولكن الخيانة المعنية هي خيانة الأفكار ، قبل ان تجف تربة الشيخ الترابي كما يقول المثل السوداني كفر أقرب الناس إليه بأصول المشروع الذي وهبه حياته ، و كما يقول ميلان كونديرا عن أحد أبطال روايته كان معياره ان لا يفعل شيئا يمكنه ان يؤذي تيريزا ولكن بعد ان ماتت تريزا انبري الكثير من تلاميذ الشيخ الترابي تبشيعاً وهدماً في مشروع كانوا جزء من تفاصيله لسنوات طويلة ، علي نسق نقد ليس مصوباً بقصد التقويم والمراجعة ، ولا بمبضع جراح ماهر ، ولكن نقد بمدفعية لا تميز بين الامنيين والخصوم ، وبسكين جزار لا يهمه كثرة الدماء او قلتها فالقصد الذبح وليس المعالجة ، لم نجد حتي اليوم من بين تلاميذ الشيخ الترابي وفاء ابو يوسف والشيباني تلاميذ ابو حنيفة ليس علي شيخهم بكاء وعويل ولكن عملاً وإيماناً علي أفكاره ورؤيته التي عاش حياته لها ، غالبهم يختبئون خلف انانية ضاجه ، وذلك يجعلنا نستدعي مقولة غادة السمان في ذكري غسان كنفاني هل صحيح أنهم كلهم تافهون أم أن غيابكِ فقط هو الذي يجعلهم يبدون هكذا ، وانصافاً في حفلة الخيانة هذه فالعديد من تلاميذه اخلصوا له في حياته وبعد مماته ، كتبوا عنه بلغة المناقب أسرفوا مغالاة في مدحه بالمعقول وغير المعقول ، واخيراً ما يزال الوقت باكراً علي فحص سيرة الشيخ الترابي أثره وتأثيره وحضوره في المستقبل ، وكل ما نفعله اجتهادات في رسم معالم المستقبل لشخصية ليس من السهل ان تتكرر في حياتنا مرتين .

علي عثمان علي سليمان
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..