فاليوم أخ مسلم مجاهد أما بالأمس فشيوعي ثائر مناضل

كان في الوقت متسع للذهاب، إلى مكان عقد الاجتماع العام المشترك، لخلايا الحزب الطليعيّ الثوريّ السودانيّ المعارض في القاهرة؛ إلا أنّ الشاب حامد عثمان حامد آثر الذهاب متأخّرا، الأغلب بإيحاء مباشر من الشيطان، عن الزمن المحدد لحضوره الشخصيّ ذاك، بدقة.
“لا عليك فالأشياء قد تحدث أحيانا يا حامد”.
“لا يا صديقنا أنت هنا كعادتك مجرد متفائل”.
قلت كمن يفتقر للذكاء: “كيف ذلك، يا حامد”.
ضحك. قال: “بدا أمر تأخري، وبالذات بالنسبة لذلك الحزبيّ العجوز المدعو في السرّ حركيّا باسم “البحر”، كما لو أن قطارا مسرعا انحرف على غير توقع عن سكته”.
ومضى حامد، وهو يخبرني تاليا: “لماذا تأخر”؟!
كان يحكي، عن ملابسات ذلك الاجتماع، كعادة تلك الأيام، بأريحية، لنقل “تامّة”. ولم يكتشف بعد أن في داخل فمي تقبع متربصة هناك، لدغة أفعى غادرة لا جدال، كيف لا، وقد ظلّ هو (حامد نفسه) ينظر إليَّ على طريقة “إنني أحببتك لوجه الله”، كمتنفس خارجي أمين، لا ضرر منه، لما ظلّ يعانيه داخل حزبه أحيانا، وقد أسماني لغفلته: “صديق الحزب”. مخطئ كل مَن يعتبر أمّه صديقة، في هذا الزمن. إلى درجة إنني أضحك بالفعل الآن من بساطة هذا الثوريّ “القاتلة”. وقد كنت أعجب، من باب المشاركة الوجدانية المحضة نفسها، من بقائه طوعيا، أو فلنقل بمحض إرادته، في مكان قد لا يوفر له الأرجح سوى “المرارة، أو انتقاد غلبة سلوكه البرجوازيّ، هو المعدم مثل حجر أملس”، في حين درج آخرون، والبقاء على قيد الحياة في المنفى غدا أشبه بالمعجزة، على القول إنهم لن يغامروا بالانضمام، “في مثل هذه الظروف”، إلى أي حزب “صغير”، قد لا يساهم، بقدر أو آخر، في توفير احتياجاتهم “الأصلية”. أو كما لو أنّه يتهكم وقتها على ذاته، أجابني: “لكنّ الأكثر غرابة (يا صديقنا) أنني انضممت إلى هذا الحزب المنبوذ في اللحظة التي أخذ النّاس فيها يفرون من داخله أو ينصرفون عنه تباعا”. قلت:
“وهذا بالفعل مما قد يدعو يا حامد للحيرة، أكثر”.
وكعادتي، أو فلنقل بصراحة “كثعلب ابن زانية صغير”، لم ألح على معرفة شيء آخر مما ظلّ يحدث وراء كواليس الحزبيين الفاتنة، خشية أن يرتاب حامد هذا، مثله هنا مثل أي ثوريّ آخر غرير، في أمري. فأنا، ولنقل إن اسمي “شكر الأقرع”، لست سوى رجل، على النقيض من حامد هذا، لا يثق، لو تتذكر، حتى في لحظات الأمان العالية، بأمّه نفسها. وحامد هذا، وثق فيًّ، على أي حال، بكامل إرادته. ولم أقدم له، طوال أوقات البوح تلك، والتي ارتاح هو بعدها ولا بد، أية ضمانة كافية بالكتمان، وقد فكرت بعد تراكم مثل ذلك القدر الكبير من المعلومات لدي أن من الممكن جدا بيع أسرار شخص آخر لطرف ثالث مقابل مبلغ عظم أو صغر من المال، ولربما حتى عنّ لي الذهاب يوما إلى مها الخاتم ومصارحتها، على سبيل التسلية “ليس إلا” على قول أم كلثوم، بما أخبرني به حامد عثمان اللعين عنها، في إحدى لحظات سكره، ولتصمني تلك الزانية بعدها بالابتزاز.
أمر الشروع في خيانة كتلك، لا تغتفر، حدث بالفعل.
للأسف!!
وأسفي هنا، لا لأنني أزمعت على ارتكاب خيانة البوح بأسرار “الحزبيّ الطيب”، بل لأن الأمور لم تصل، عندها، إلى ما كنت أريد لها، في أثناء ساعات ذلك الصباح، أن تلامسه وتصير إليه، من “خيانة محققة”. إذ ذاك، وهذا ما أذكره بوضوح، تسللتُ وحدي، ولنقل “لا كمشروع جاسوس”، بل كبائع أسرار محتمل، إلى مبنى سفارتنا بشارع رستم في جاردن سيتي. وأخبرت موظف الاستقبال بصوت هامس تأثيره قوي أن بحوزتي معلومة سرية، عن المعارضة، غاية الأهمية. ولم أضف شيئا آخر، لبعض الوقت. “الصمت القصير، يلعب دورا مهما”. قرأت مثل ذلك الكلام في مكان ما. ومن باب ذكر الشيء بالشيء هذا، سمعت كذلك، ما نصّه:
“الصمت سروال يستر عورة الجاهل أمام ريح العارف”!
كنت أرتدي بدلة سوداء مستعارة، للدقة “مستأجرة”، من محل تجاري، في شارع الشريفين، بوسط المدينة، يُقال إنه يتخصص، والناس في العادة لا تقول أشياء من غير أساس، في شراء ثياب الموتى من الأغنياء، وقد وضعت جواز سفري منتهي الصلاحية، منذ بعض الوقت، كرهنٍ لتلك البدلة اللعينة. لا أبدا. لم يكن يهمني وقتها إن كان ما بين السيد المرحوم والخيانة في حياته ما بين المشرق والمغرب من جفاء. أما القول هنا إن ارتداء ملابس الموتى، حتى لو كانت مؤجرة، بهدف ارتكاب خيانة ما؛ قد يسيء حقا لسمعتهم، فهذا بدوره أبدا لن يضيرهم في شيء، لأنهم سبق أن نجوا من الحياة، كما يقول الشاعر، “بأعجوبة”. فما كان من الأهمية بمكان بالنسبة لي أن أبدو لا كخائن، بل “كخائن مهم”، أثناء لحظة البيع المتوقعة، في مبنى سفارة النظام. هكذا، أخذت أتصور المسألة، وأنا أحمل شنطة صغيرة، في يدي، على سبيل التمويه كذلك، وقد وضعت داخلها قصاصات متفرقة، من الصحف والمجلات، كان أغلبها يتعلق بأخبار ممثلة إغراء مصريّة تدعى “سحر والي”. لها صوت يذيب قسوة الحجر. لا أدري ما الذي ظلّ يجذبني إليها، في تلك الأيام؟ مع أنّها كانت تصغرني لا بد بسنوات عديدة! إلا أنني رسمت أشكالا صغيرة، على حواف تلك القصاصات لا حصر لها تقريبا، حتى تبدو أقرب إلى معلومات تمّ تشفيرها، لأهميتها الأرجح، في مكان أشبه في سحر وغموض سلطته ورهبته بوكالة الاستخبارات الأمريكية. لم يكن الإلهام أبدا ينقصني. فأنت إذا بدأت كذبة ما، فعليك أن تتقنها، عبر عنصري “التفصيل واليقظة”، أما الحذر فعنصر “دال”، مع “مسحة إقناع فاتنة”، ثم لا عليك، فأنا أتحدث أحيانا هكذا، أي مثل أي متحذلق آخر لعين يسعى على قدمين، ويدعى في بعض الأوساط “مثقف”.
ارتبك موظف الاستقبال ذي العجيزة النسائية. وقد غمرت الحيرة كيانه كله. أو كما لو أن أشياء عديدة جرت في ذهنه في اللحظة عينها: أن يستبقيني مقيدا بسلسلة من حديد إلى كرسيّه ذي العجلات البلاستيك المصمتة الدوار، أن يصعد بي إلى حيث أحد مكاتب السفارة العليا بحثا عن الرجل المناسب هناك، أن يقتلع تلك الشنطة من يدي، كضمانة لا بد منها، للحيلولة دون ارتدادي، على أعقابي، في لحظة يقظة مباغتة ولا بد لضميري “المنعدم من الأساس”، أو أن يستبقيني صحبة موظف قريب آخر خلف لافتة مكتوب عليها عبارة “المعاملات المالية”. وأن.. ثم.. أو.. يا إلهي، انني أضحك “الآن”. وقد عنّ لي، لاحقا، أن ارتباك موظف الاستقبال ذاك نجم الأرجح عن جملة ذلك الانطباع القوي، الذي ارتسم ولا بد على وجهي، عبر الحاجز الزجاج القائم، بيني وبينه. ومفاده:
“انني، الآن، بصدد تسليمكم مفاتيح المعارضة، في القاهرة، أيها السادة”.
لو أنني حضرت، قبل نحو الأربعين عاما من “الآن”، أيام ما كان سائدا ويسمّى “المد الثوريّ الاشتراكي”، إلى مبنى السفارة هذا، لكان ذلك اليساري كثير التشكي المدعو باسم حامد عثمان جالسا الآن، في مكان موظف الاستقبال هذا، أما موظف الاستقبال هذا، وقد ارتسمت علامة السجود بجلاء على جبهته، فلا بد ساعتها أن يكون مرميا، مثل كلب أعجزه تماما القهر وشقيقه الضيم، في سجن “شالا”، في غربي البلاد، وهو المكان نفسه، الذي يُعرف في “المرويات المصرية” المتحدرة منذ أيام حكم عبد الناصر حسين، باسم له فتنة الشعر:
“وراء الشمس”.
أخيرا، أفلح موظف الاستقبال في أن يقول: “سأخبرهم هناك. فرجاء، ألا تتحرك، رجاء”. وأنا أراه ينصرف، عنّ لي أن أخاطب سرا خيالي، ذلك المنعكس على حاجز الزجاج القاتم، قائلا بالضبط كمكتشفِ قارة مجهولة هذه المرة: “ذلك ما يدعونه إذن يا شكر الأقرع بتبادل الأدوار التاريخي لوجهي العملة الواحدة. فاليوم أخ مسلّم مجاهد. أما بالأمس فشيوعي ثائر مناضل، وهما في الأخير، كما ترى، لا يعدوان أن يكونا الشخص نفسه”. أما الشيطان الرجيم، فوحده الذي يعلم، كيف حدث وقتها، وأن انبثقت فجأة، مثل تلك الفلسفة اللئيمة، داخل عقلي؟! ثم من بعد مضي ذلك العدد من الدقائق، أقبل الموظف عائدا، من أعلى المبنى، وفي معيته رجل مربوع القامة، يضع على عينيه نظارة سوداء، ظلّ يرتديها طوال فترة مكوثي بينهم هناك، داخل أحد تلك المكاتب العليا. كما لو أنّ النظارة قد وُلِدَت معه. هناك، وكانوا ثلاثة رجال، عرضت عليهم، على نحو مباشر، أي من دون أي لف أو دوران، أو حتى تعطيل، أن أبيع لهم، ما قد ظلّ يمدني به حامد، في لحظات سخطه المتكرر، من معلومات.
كانت آثار النعمة بادية عليهم جميعا. وقد خالجني شعور أن أحدهم (وقد أطلقت عليه في سري لسبب لا يعلمه سوى الشيطان اسم عطا المنّان) أنهى للتو تناول دجاجة مشويّة في وجبة الإفطار، وربما ما كان شيئا آخر دسما مثل “الكوارع”، أو حتى “شيّة الجمر”، وقد لاح قربها خليط الشطة والفول المسحون وعصير الليمون، وأن الآخر تمم على حسابه البنكي منذ نحو الساعة، وأن الثالث (ابن المجرمة لا ريب) يعاني من تخمة غامضة، فلم يتبقَ على عينيه سوى تلك النظرة المنشغلة بحساباتها الداخلية، وغير المبالية تماما، بما أحاول إقناعهم بقبوله، منذ نحو الساعة، في مقابل الحصول، على راتب شهريّ، حتى من دون ممانعة الكشف، عن هويتي، بعد مرور نحو مائة عام، على بدء سريان الاتفاق المزمع بيني وبينهم طبعا. كنت (باختصار شديد) جائعا معدما، وكانت كافة الطرق المفتوحة أمامي، كبيع أحد أعضاء جسدي الحيويّة، لا تقود في الأخير سوى إلى ضياع محتوم، في مدينة كبيرة مثل “القاهرة”.
أذكر بوضوح حزين أنّهم طلبوا مني أخيرا أن أعاود الحضور، “بإذن الرحمن، إلى مبنى السفارة، “في الغد، يا أخانا”، أي من بعد أن يتم التدقيق في “تفاصيل” عرضي ذاك بالخيانة، وقد أغرقوني لوهلة لا أكتمكم في إيهام، كما لو أن الأمر لا يتعدى مسألة قياس “حسن السمعة” لطالب زواج، فلم أعد، أنا الجبان بالفطرة، خشية الوقوع في كمين محكم تماما، قد يوقعني بالفعل في شرّ أعمالي، إذ أجد نفسي بعده مقيدا حرفيا إلى مقعد داخل طائرة، في رحلة قسريّة، إلى ما يطلق عليه بشيء من العاطفية الشعرية عبارة:
“في ربوع الوطن العزيز ترعاه العناية”!!
ما تعلمته إذ ذاك (وهذا أحد دواعي عدم فهمي للقوانين التي ظلّ يسير بمقتضاها العالم) أن الحظّ قد يعاند بعض النّاس ممن كُتِبَ عليهم سوء الطالع حتى إذا ما قرروا أن يغدوا عن طواعية تامّة:
“خونة”.
في جلستي المطرقة تلك، إلى مائدة مستديرة، وهم قبالتي على الجانب الآخر يتبادلون قيادة ما بدا تحقيقا غير مباشر معي، ويميلون أحيانا باتجاه بعضهم متهامسين، عنّ لي على نحو بدا مبهما وغامضا أن أولئك الرجال الثلاثة، وإن بدت أعمارهم متفاوتة ولا شك، إلا أن شيئا ما كان يوحّد بينهم، وهو ما لم أستطع تحديده بدقة إلا بعد مضي أسابيع عديدة، ألا وهو: الريبة. وهي السمة الوحيدة التي لن تميزهم الأرجح عن أي ابن زانية آخر حقير. ولا بد أن في داخلي بذرة من الخير. لم أكن أعلم بوجودها هناك. لأنني بدأت أحسّ، بعد حادثة السفارة المكللة بالفشل الذريع تلك، لا بثقل جبل الخيانة، كما ألمحتُ سابقا، بل بفداحة وطأة ذلك النوع الذي لا يُحتمل من الخيانة، لا لشيء “يعيبه”، سوى أنّه غير مدفوع الثمن. ربما لذلك، ظلّ أحد رفاق حامد عثمان اللعين يبدأ مشاجراته، خاصّة بعد أن يقوم بجرع نحو سبع كؤوس متتالية من العرقي، مخاطبا على الدوام رفيقا واحدا بعينه، قائلا في كل مرة:
“لقد بعتَ بالرخيص، يا هذا”.
ألعن أمّي سبعين ألف مرة (ولك أنت أن تزيد كذلك في اللعنة شتيمة أخرى ولكن لا أكثر طالما هي لم تكن في الأخير أمّك) إذا كنت أنا قد فهمت وقتها ما معنى ذلك “الرخيص”.
أحد الرجال الثلاثة في السفارة كان وغدا حقيقيا، لحظة أن قال لي: “لم تعد أخبار حزب في حكم الميت مثيرة حقا للاهتمام، هذه الأيام”. قتلني هذا.. لا بل أشعرني، كما لو أنني مجرد محتال آخر صغير، أو محض حلواني متجول، يحاول جاهدا أن يبيع كنافة لمريض، في مرحلة متأخرة، من داء السكر. وكنت أحيانا أسمع حامد هذا نفسه بأذني هاتين، اللتين سيأكلهما الدود في يوم القيامة، وهو يقول لي خاصّة بعد أن يسكر: “هذا الحزب، يبدو (لي)، يا صديقنا شكر الأقرع، كالبط، وهو يحاول الركض، حتى من بعد قطع رأسه”. على أنني أشك تسعين ألف مرة أن يكون مثل ذلك التشبيه البليغ أبدا من بنات أفكار حامد عثمان “الشخصيّة”.
عبدالحميد البرنس
[email][email protected][/email]