السودانيون ** متى وكيف تم تعريبهم ؟

(1)
سؤال أراه ضروي لكونه استيضاحي ويردم هوة المعية والضدية التي أثارها سؤال الهوية صحيح من حيث المنهج هو سؤال يعيدنا لاستقراء أحداث جرت بها وقائع التاريخ ، وما داخلها من حراك وهجرات بشرية ، سواء كانت من عرقيات ذات جذور أفريقية أو عربية وشرق أوسطية ، جميعوها استقرت وتساكنت واختلطت ، واندمج الكثير منها عبر الزمن في من يعرفون اليوم بشعوب السودان ، بسحناتهم المتعددة وثقافاتهم المتنوعة ومواريثهم المختلفة ولإن توقف تدفق العرب إلى السودان بكثافة منذ قرون ، فإن هجرتهم إليه لازلت أبوابها مفتوحة وإن بقدر ضئيل ومسارات القادمين إليه من الجوار الأفريقي الأدنى والأبعد لازالت مفتوحة ، تماما مثلما تضاريس وادي النيل بمنخفضه الكنتوري جذب إلأنهار ومجاري السيول فانحدرت إليه من مرتفعات وسط القارة وشرقها وغربها .
في هذه الورقة سوف يكون التركيز على دعوى العروبة ، بحسبانها الدعوى التي يواجهها تيار بالنقد والنقض ، على الرغم من أن هذا التيار نفسه يمارس نقده ونقضه من خلال ثقافة عربية لا يملك سواها لابداء اعتراضاته ، من هنا أرى أن الاجابة عن سؤال الـ من والمتى والكيف إن لم يفقد صراعات الهوية مرتكزها الأهم ، فهو يضعف حجيتها ، وربما أسهم في إزاحتها من كشوفات العناصر الجوهرية للأزمة الوطنية ، بوجه أخص بعد استقلال جنوب السودان.
الهوية بمجمل تعريفاتها سواء كانت شخصية أو عرقية أو ثقافية معرفية كانت أم عقدية ، أرها متمثلة على نحو ما في الفرد والكيان الاجتماعي والدولة السودانية بمعنى آخر لا يوجد فرد أو كيان اجتماعي سوداني اليوم يتفاعل بمعزل عن الثقافة العربية، أصيلة كانت فيه أو مكتسبة بما في ذلك كيانات جنوب السودان وجبال النوبة ، هذا التفاعل يجب ألا يكون بذاته مناط الرفض والاحتجاج ، لكونها ثقافة مثلها مثل سائر الثقافات لا تملك بذاتها خاصية الاجبار، بل تكتسبها من خلال الإنسان الذي يملك قوة الاجبار، استنادا إلى غلبة ديموغرافية أو سلطة عقدية أو سلطة الدولة ، إذن قيما يتعلق بالشأن السوداني ، فإن بوصلة النقد أوالنقض يتعين توجيهها لسلطة الدولة ، وليس للفرد وكيانه الاجتماعي أو معتقده كما يراد لها فالحقيقة التي لا جدال حولها أن الدولة المركزية منذ نشأتها بٌعيد العام 1821م فرضت توجها آحاديا للثقافة العامة دون أعتراف بالثقافات الأخرى المستوطنة في البقعة ، كما سترون في هذه الورقة.
(2)
مرجعيات تاريخية :
تعريب مصر وشمال أفريقيا:
يقول الدكتور عطية القوصي أستاذ التاريخ الإسلامي ، ( أن معرفة العرب لمصر قديمة حيث كانوا يأتون إليها بغرض التجارة عن طريق البحر الأحمر ومعبر سيناء ، غير أن تأثيرهم لم يكن جذريا في تعريب أهل مصر وأسلمتهم مثلما حدث بعد الفتح عام 20 هـ) .
هذا فيما يتعلق بمصر وسائر بلدان الشمال الأفريقي وساحلها الغربي ، التي تعرضت لأهداف ومقومات الفتح وشروطه ، واستأثرت بايجابياته من عدة جوانب اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وعمرانية ، حيث كان الانتقال لسلطة الدولة منظما ، تولته إدارت ذات كفاءة و خبرة في العمل الديواني ، فضلا عن الدعم المادي والثقافي المباشر من قبل الخلافة ، فاستفادت تلك البلاد المفتوحة من علماء المسلمين الذين قدموا إليها ، فضلا عن فنون العمارة الاسلامية التي شخصت ببلادهم ، وموارد الخلافة الضخمة التي يسرت انفتاحهم على حضارات العالم المجاورة ، واسهمت في صهر وصعود مجتمعاتهم مبكرا لسلّم المدنية.
كيف كان الحال في البقاع الجغرافية التي عرفت فيما بعد بالسودان الحالي ؟
تكاد أن تخلو مصادر التاريخ من أي معلومة تفيد بأن هذه البقعة الجغرافية التي عرفت لاحقا بالسودان ، كانت مدرجة ابتداءا ضمن أهداف الفتوحات الاسلامية أو أن المعارك الطاحنة التي دارت بين المسلمين وشعوب هذه البلاد وأنتهت جلها بهدنة أو عهد ، جاءت بهدف نشر الاسلام أو الثقافة العربية ، ولعل الأحداث الأكثر جلاءا وموضوعيه تفيد بأن شعوب هذه البلاد كانت هي المبادئة دوما في مناوأة المسلمين إلى جوارهم ، وكانت لهم دوافع ومببررات ، منها انفصال علائق التواصل والالتحام بين كنائيسهم والكنائس المصرية ، وكان لذلك الفصل بجانب معاملة حكام مصر السيئة لإخوتهم في العقيدة مردود ثالب ، حدا بكل من النوبيين والبجا إلى مناوشة المسلمين من حين لآخر ، وعندما كثرت المناوشات جأر المسلمون بالشكوى لولاتهم فجاءت أولى محاولات الغزو في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ، وواليه على مصر عمر بن العاص ، حيث سُيّرت حملة بقيادة عقبة بن نافع 21 ـ 25 هـ غايتها وضع حد للهجمات التي تتعرض لها أمصار المسلمين ، غير أنهم انهزموا لشدة المقاومة التي أبداها النوبيون .
مع تتابع وتكرار غارات النوبة على مصر، أعدت حملة أخرى بقيادة واليها الجديد عبد الله بن أبي السرح عام 31هـ / 651 م ، انتهت بوثيقة العهد المعروفة بعهد النوبة أو اتفاقية البقط ، يقول الدكتور يوسف فضل حسن في تكيفه لهذا العهد : ( أن العالم في عرف الفقهاء المسلمين ينقسم إلى قسمين ( دار إسلام و دارحرب ) ومعنى هذا التقسيم أن دار الاسلام يسعى لنشر دينه ونفوذه على دار الحرب تطبيقا لمبدأ عمومية الدعوة الاسلامية ورد الاعتداء عنها، وكان أمام أعداء المسلمين ثلاثة خيارات ، إما أن يجيبوا داعي الاسلام ، أو أن يدفعوا الجزية ، أو أن يقتلوا ، ولكن ما حدث في صلح النوبة جعل من بلاد النوبة دار معاهدة ، وهي حالة وسطى بين دار الاسلام ودار الحرب).
إذن بموجب ذلك العهد لم تصبح بلاد النوبة ضمن أمصار المسلمين ، ولم تفقد نظامها واستقلالها ،غير أنها تنازلت عن قيودها الصارمة التي كانت تمنع دخول العرب إلىها ، وسمحت لهم بدخولها عابرين غير مقيمين بغرض التجارة ، ولكن خلافا لهذا الشرط وعلى الرغم من احتجاجات ملك النوبة ، أخذت بعض العشائر العربية في شراء الأرض من النوبيين والاستيطان فيها في بلاد المريس ، فتداخلوا وتصاهروا وامتزجوا ، فكانت النتيجة الحتمية لهذا الاختلاط السلمي اعتناق الأجيال المولودة للاسلام ، وتمثلهم الكثير من مظاهر الثقافة العربية.
الاوضاع في بلاد البجا
مثلما سير المسلمون الحملات العسكرية نحو بلاد النوبة بغية الحد من غاراتهم على مصر ، فعلوا الأمر نفسه مع البجا ، وتعددت حملاتهم خلال العهدين الأموي والعباسي ، ففي عهد هشام بن عبد الملك سير واليه على مصر حملة بقيادة عبيد الله الحبحاب ، انتهت بعقد هدنة لم يلتزم بها البجا طويلا ، حيث عاودا غاراتهم على أسوان في عهد الخليفة العباسي المأمون ، فسير إليهم حملة بقيادة عبد الله بن الجهم 216 هـ، انتهت بدورها بعهد التزم بموجبه زعيم البجا عبد الله بن كنون وقف غاراته على أمصار المسلمين ، والسماح للعرب بالعمل في المناجم ، على أن يقاسموهم ريعها ، أيضا لم يلتزم البجا بهذا العهد ، وعاودوا غاراتهم على عهد والي مصر عنبسة بن اسحق ، فسُيّرت إليهم حملة بقيادة عبد الله القمي الذي استطاع باستخدام الحيلة، قتل زعيم البجا اولباب (علي بابا ) وتحقيق النصر، فطلب البجا الصلح ، وعقد معهم عهدا لم يعاودوا من بعده غاراتهم ، فاستمر تدفق القبائل العربية على أرض المعدن بحثا عن الذهب ، وتكررت نفس تجربة العرب في بلاد النوبة ، حيث صاهروا البجا وخالطوهم ، وكانت النتيجة اعتناق الأجيال المولودة للاسلام وتمثلهم مظاهر الثقافة العربية.
الاوضاع في مملكة علوة
على غير الحال في بلاد المقرة كانت علوة ، فبحكم موقعها الجغرافي كانت في مأمن من غزوات المسلمين ، غير أن ذلك البعد الجغرافي ، لم يمنع تسرب القبائل العربية إليها سلميا ، إن لم يكن في بادئ الأمر عند مركز الحكم ، ففي الأطراف وعلى سهولها الوسطي الغنية بالمراعي ، ولم تكن دوافع القادمين دينية أو ثقافية بقدر ما كانت بحثا عن الرزق والأمن الذي فقدوه في مصر ، نتيجة لتقلب أوضاعها السياسية ، ولكن مع مرور الزمن وتدفق المزيد من الهجرات العربية نحو السهول الوسطى ، وظهور تجمعات عند مركزها في سوبا ، وإلى جوارها في أربجي ، أصبحت السلطة الحاكمة محاطة بكم هائل من المجموعات المستعربة تمكنت في نهاية المطاف من اسقاطها حربا ، بقيادة الشيخ عبد الله القاسمي في القرن السادس عشرالميلادي ، غير أن تفرده بالسلطة لم يدم طويلا ، حيث نازعه الفونج بقيادة عمارة دونقس وهو ينتمي كما يقول الدكتور يوسف فضل ( لشعب أسود اشتهر بتربية الابقار ، قدموا من منطقة أعالي النيل الأزرق وربما كانوا من سلالة أب عربي وأم سودانية ، تمثلوا مظاهر الثقافة العربية ، وتمكنوا من بسط نفوذهم حتى الشلال الثالث شمالا ، كما شملت سلطنتهم أجزاء كبيرة من كردفان وبلاد البجا ).
الأوضاع في سلطنات السودان الغربي :
خضعت بلدان وشعوب مغرب الشمال الأفريقي لفتوحات المسلمين وهجراتهم بعيد سقوط الخلافة الأموية ، وتمكنت من تشكيل إمارات اسلامية تعدت حاجز الأوسط البحري شمالا إلى الأندلس ، ومنذ ذلك الحين بدأت سلطنات الغرب الأفريقي تستقبل هجرات المسلمين ، غير أن التأثير الأكبر جاء بُعيد تحول مملكة كانم وبرنو إلى الاسلام ، حيث يفيدنا الدكتور عبد المجيد عابدين في ترجمته لورقة بحثية قدمت في موتمر زاريا عام 63 قائلا :
( أخذ أهل بلاد الكانم في طريق التعرب في ظل الاسلام ، واتخذ التعرب مظاهر متعددة منها اللغة والنسب والتاريخ ، ولكي تحقق الأسرة الحاكمة هذه الظاهرة شجعوا كثيرا من العلماء والفقهاء الذين أخذوا نصيبا من العلم في مصر وغيرها ومنحوهم مكانة مرموقة، واحاطوا انفسهم بعدد من كتاب العربية وعلمائها، وجعلوا العربية أداة الكتابة الرسمية ، وفي سبيل هذا التعرب الاسلامي حوروا النسب الحميري القديم إلى نسب ممتزج بالقرشية والاسلام ، فعندما دون علماء البرنو تاريخ ملوكهم بدأوا بخلفاء بني أمية ، ثم وصلوه مباشرة بملوك الكانم . وليس من شك في أن التآلف الروحي الذي ولدته وحدة الشعائر الاسلامية بين جميع الشعوب التي اعتنقت الاسلام ، كان له أثر بعيد في حياة الشعب الكانمي ، فكانت بمثابة دفعة قوية أثارت فيهم شعورا بأنهم قوة متماسكة من ناحية ، وبأنهم جزء من كيان عالمي اوسع من حدود بلادهم الضيقة ، فتجاوز نشاطهم تحت تأثير الاسلام حدود بلادهم إلى بلدان مجاورة ، منها دارفور، أما كردفان وجبال النوبة والأراضي الواقعة إلى الغرب والجنوب من النيل الأبيض ظلت فيما يبدو تحمل طابع السودان ، وظل تاريخها موصولا بتاريخ دارفور وما يليها).
يفهم من ذلك ـ أن سلطنات دارفور وكردفان تأثرت بالهجرات القادمة إليهما من النيل وشمال وغرب أفريقيا ، واضحت الثقافة العربية تتلاقح مع الثقافات المحلية سلما.، وعلى إثر ذلك وبذات الكيفية التي استغلها المهاجرون في توارث الزعامة في كل من بلاد المقرة والبجا أنتقلت السلطة للجيل المستعرب في كل من سلطنات الفور والمسبعات وتقلي .
أن تعدد حملات المسلمين على بلاد النوبة والبجا ، ومع ما أتاحته من فرص لهجرة القبائل العربية وانتشارها و استقرارها ، غير أنها لم تكن ذات تاثير جذري في استعراب واسلمة النوبيين والبجا ، بل لم يكن ذلك اصلا هدفا من أهدافهم ، ولم يبدأ أثر الاستعراب والأسلمة في الظهور ، إلا بعد أن تصاهر العرب مع الأهالي وورثوا حقوق الزعامة وفقا لتقاليدها عند الوطنيين من سكان البقعة شمالا وشرقا وغربا ، والتي كانت تقضي بالحق لابن البنت أو الأخت ، وبتوالدهم وتلاقح ثقافاتهم سلميا ، نشأ جيل مستتعرب جمع بين ثقافته الأفريقية والكثير من مظاهر الثقافة العربية ، مولدا توليفة لغوية يتخاطب بها عرفت بالعامية السودانية ، كان خير من عبر عنها ووثقها ، أسلوب وتعابير لغة كتاب طبقات ود الضيف الله ومخطوطات كتاب السير.
على ضوء ما سلف فأن الناظر إلى خريطة التعريب والأسلمة في السودان، تتكشف أمامه ثلاث بيئآت صنفها الدكتور أبو سليم كما يلي :
بيئة أولى : خضعت كليا ووقعت تحت تأثير العنصر العربي في وسط السودان وجنوب دارفور وشمال كردفان ، حيث نجد تطابقا بين العنصر والدين واللغة .
بيئة ثانية : احتفظ فيها العنصر الوطني بسماته الأصلية ، على الرغم من خضوعه لتأثير النفوذ الدينني ، وهنا نجد أن الاسلام تقدم بفضل الدعاة والاحتكاك الحضاري بينما جاءت اللغة بخطوات بطيئة نظرا لنفوذ اللغات المحلية ، لذا نجد بعض اصقاع السودان تحولت إلى الاسلام بينما احتفظت بلغتها الأصلية وتقاليدها وأسلوبها في الحياة ، وأن كانت تتعامل باللغة المستولدة ( العامية السودانية ) بدرجات متفاوتة حسب مقدار تعاملها مع محيطها الخارج عن بيئتها ،هكذا نجد البجا في الشرق والنوبة في الشمال ، والمساليت والتنجر والداجو والزغاوة والفور والبرنو والفولاني وغيرهم من الكيانات الاجتماعية في غرب السودان.
بيئة ثالثة : ظلت لفترة طويلة بعيدة عن النفوذ الاسلامي العربي ، لأسباب بيئة طبيعية ، حدت من تقدم الإنسان الحامل للثقافة الاسلامية العربية ، فاحتفظت بلغتها ومعتقداتها وأسلوب حياتها وهرمها الاجتماعي ، مثل كيانات جبال النوبة و جنوب السودان وجنوب شرق السودان ، بيد أن طرفا من من هذه البيئة مثل جبال النوبة وجنوب شرق السودان اقبلا على الاسلام تحت تأثير السلطنات الاسلامية التي نشات في محيطها ، مثل سلطنات الفور وتقلي والفونج .
على ضوء هذه البيئات الثلاثة يمكن تصور المهام الدينية المنتظرة ، ففي البيئة الأولى تكون المهمة حصرية على الإرشاد الديني لتقوية الوعي الفقهي وعلوم اللغة وقد تولى تلك المهمة معلمو القرآن والعلماء والمتصوفة ، وفي البيئة الثانية حيث غلب الاسلام بينما العنصرغير عربي، تكون المهمة إرشادية في مجال الدين وتعليمية في مجال اللغة بحسبانها لغة الدين، قام بهذه المهمة معلمو القرأن (الخلاوى) والمتصوفة أيضا ، أما في البيئة الثالثة كانت المهمة تبشيرية بحتة دون كبير عناية في تعليم اللغة.
مرة أخرى يتكشف لنا من خلال مناهج الدعوة ، وسلوك القائمين بأمرها في هذه البيئات الثلاثة أن موضوع الأسلمة والتعريب كان يسري بين الكيانات الاجتماعية سلميا وسلسلا دون جبرية ، مما يعني أن هنالك آليات بعينها كان لها القدح المعلى في موضوعة الأسلمة والتعريب ، فما هي ؟؟
(3)
آليات التعريب والأسلمة
يبدو جليا مما جاء في مقدمة هذه الورقة ، أن هنالك أليات غير آلية الحرب ، أو أهداف الفتوح الاسلامية ، أو مجرد وصول مهاجرين من قومية عربية ، كان لها القدح في تعريب وأسلمة أهل البلاد ، وهي آليات مرت بمرحلتين ، مرحلة سلمية ناعمة ، ومرحلة ذات منهج قهري .
(أ) آليات المرحلة السلمية الناعمة :
في هذه المرحلة تركزت عملية التعريب والأسلمة على ثلاث آليات ، الاولى التلاقح والامتزاج والثانية تعليم الخلاوى ، والثالثة تقنين الاستعراب وتعديل البنية الثقافية.
آلية التلاقح والامتزاج :
منذ أن وطأت أقدام العرب بلاد السودان، تكشفت أمامهم التقاليد التي يعتمدها أهل البلاد في اختيار وتنصيب زعمائهم ، فعملوا على استغلالها بذكاء ، صاهروا بيوتات الزعامة فكان لابنائهم الحق في تولى الزعامة ، فعلتها قبيلة ربيعة العربية بأرض المعدن ، عندما صاهر زعيمها زعيم البجا ، فآلت إليهم زعامة البجا ، ثم كرروها في بلاد المريس فآل إليهم حكم إقليم المريس ، الذي اشتهر حاكمها المستعرب بصاحب الجبل في المصادر العربية ، وبذلك صارت أرض المريس وبلاد البجا يخضعان معا لأحد المستعربين من نسلهم ، اشتهر في زمان الدولة الفاطمية بلقب كنز الدولة ، وهو نفسه الذي آل إليه عرش النوبة في مملكة المقرة فيما بعد ، لكونه إبن أخت ملكها كبير النوبة ، وتجدر الإشارة هنا بأنه وعلى الرغم من تمدد نفوذ المماليك نحو بلاد المريس ، وتدخلاتهم المتعددة في شؤون الحكم في بلاد المقرة ، غير أنهم عجزوا في اختراق وابطال تقليد وراثة الحكم ، فجاء كنز الدولة ملكا على المقرة وهم غير راضين عنه. وعلى منوال ألية التصاهر ، انتقلت السلطة في مملكة الفور للفرع المستعرب المنتسب لأحمد المعقور، وكذا الحال في كل من تقلي والفونج وبقية السلطنات المحلية .
يفهم مما تقدم أن آلية المصاهرات بين المهاجرين والأهالي ، كانت إحدى الآليات الفاعلة في عملية التعريب والأسلمة السلمية الناعمة ، فهي التي فتحت الباب أمام المبشرين ، واستقدمت الدعاة وأجزلت لهم العطاء حتى يؤدوا دورهم المطلوب.
آلية الخلوة أو المسيد :
الخلوة أو المسيد عبارة عن مدارس أهلية لتحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة وبعض قواعد اللغة ، ولا زال وجودها حي نشط في السودان ، وتعتمد الخلوة في نشاطها التعليمي على معلم القرآن ( الفكي / الفقير ) ، وهو شخص على حصيلة من القرآن ، وعلى دراية بعموميات الفقه ، وقد اعتمدت الطرق الصوفية على ما يخرجه معلم القرآن من حفظة ، واضحي بذلك معلمو القرآن وكلاء لهذه الطرق يقومون بانشطتها ويحيون مناسباتها ، وقد اكتسبوا هم أنفسهم مكانة اجتماعية وأهمية من خلال هذه العلاقة كما يقول د. أبوسليم .
لقد انتشرت الخلاوي انتشارا واسعا في بقاع السودان ، لأنها كانت تلاقي رغبة الجمهور في تعليم أبنائهم ، وتجد الدعم والتشجيع والمساندة الروحية من زعماء الطرق الصوفية ، والدعم المادي والقبول من السلطة ، فضلا عن أن السودانيين لم تكن تستهويهم الدراسات الفقهية والعلوم الدينية على منهاج أهل السنة ، فكانوا يفضلون الانخراط في سلك المريدين من اتباع الطرق الصوفية ، حيث كان لشيوخ التصوف منهجهم في التلقين والتربية السلوكية ، دون التقيد بمنهج التعليم الفقهي وما يداخله من تعقيدات علوم اللغة ، لذلك كان انتشار الاسلام في البلاد قبل ظهور السلطنات الاسلامية اسميا في كثير من مظاهره كما يقول الدكتور يوسف فضل .
وعلى الرغم من قيام وظهور السلطنات الاسلامية ، ودعمها لمناشط الخلاوى والطرق الصوفية ، وفتحها الباب أمام قدوم المزيد من الدعاة وشيوخ الطرق الصوفية ، غير أن هذه الخلاوى والطرق الصوفية لم تفقد سمتها الأهلى وطوعية نشاطها ، محتفظة بمسافة مقدرة تبين استقلالها عن نفوذ السلطة الحاكمة ، تلك هي الصفة التي جعلتها تحافظ على شعبيتها ، وتضفي على نشاطها الدعوي الصفة السلمية الناعمة ، ولكن مع ذلك ـ لعبت الطرق الصوفية دورا مساعدا في ظهور تلك السلطنات ، وكان لبعض شيوخهم مكانة عليا في نفوس الحكام ، تعاونوا معهم وأسهموا إسهاما مباشرا في تقنين الاستعراب وتعديل البنية الثقافية.
كان لوراثة المستعربين لنفوذ وسلطات النظم غير الاسلامية السابقة ، الأثر المباشر في ظهور السلطنات الاسلامية ، وبظهورها مصحوبة بنشاط الدعاة اكتملت شروط تقنين الاستعراب وتعديل البنية الثقافية ، غير أنه لم يكن تقنينا يضمر الجبرية أو يستصحب نفوذ السلطة وقوتها المادية ، بل ظل يحتفظ بمساراته الناعمة الطوعية .
تعديل البنية الثقافية وتقنين الاستعراب :
قبل قيام السلطنات الاسلامية ( السلطنة الزرقاء، سلطنة الفور المساليت المسبعات وتقلي ) لم يثبت أن كانت للجماعات العربية المهاجرة التي امتزجت بالجسم الوطني سواء كانت قليلة العدد أو كثيرة ، لم يثبت لها دور فاعل في تعديل البنية الثقافية في الكيانات السودانية التي خالطتها أو جاورتها ، ولعل الثابت امتزاج ثقافتها بالثقافات المحلية ، ولهذا السبب ظلت الثقافة الاسلامية ضعيفة بين الناس ، إلى الحد الذي يمكن للمطلقة أن تتزوج بآخر في يوم طلاقها كما جاء في مرويات ود ضيف الله ولم تشتهر في البلاد مدرسة علم ولا قرآن ، على الرغم من اعتناق الحكام للاسلام وتبنيهم النسب العربي ، إلى أن بدأ قدوم العلماء من الححاز ، واليمن ، ومصر والمغرب ، وبلاد الكانم .
بعد أولئك الرواد تعددت الخلاوى وانتشرت، وحملت مع قرينتها مدارس التصوف عبء العمل الدعوي وتعريب الثقافات وأسلمتها على المستوى الشعبي ، وقد ساعد على تفشي ظاهرة التصوف في السودان ، تمددها في العالم الاسلامي بعد النجاح الذي حققته في صراعها التاريخي مع أهل السنة في القرن الثاني عشر الميلادي بُعيد قيام الخلافة الفاطمية وسيادتها السياسية والفكرية على مصر وبلاد المغرب ( د. يوسف فضل ).
لم يكن نشاط الدعاة والمتصوفة مقرون بسلطة الحكم ، وكانت الصفة الشعبية الطوعية هي الغالبة مما حبب فيهم الناس ، فضلا عن ذلك ـ عاملنان آخران في تقديري ساعدا على نجاح المؤسسات الصوفية قلما التفت إليهما.
أولاهما : طبيعة التكوين الروحي والسايكولوجي المتراكم بين شعوب السودان على امتداد التاريخ ، حيث مؤثرات موروثهم العقدي السالف في تقديس البشر واتخاذهم وسطاء كان باد للعيان ، الأمر الذي جعلهم أفضل استعدادا لقبول منهج التصوف والانخراط في طريق القوم ، ويلاحظ أن هذا العامل كان وراء إيلاء المريد كامل ثقته لشيخه ، والايمان في كراماته وقدرته في حمايته من الغوائل، وتأمين ممتلكاته ورد حقوقه ممن يتغول عليها سواء كان هذا الشيخ حيا أو ميتا.
اعتماد علماء الظاهر على منهج دعوى يقوم على العلم الشرعي وفقهه وعلم اللغة وفنون الخطابة، فامالت تعقيدات قواعد اللغة وصعوبات اتقان نطقها اتجاهات العامة نحو التصوف ، الذي كان يعتمد المشافهة والتلقين في تدريس علوم الدين وتربية الاتباع وتقويم سلوكهم عمليا عن طريق مجاهدة النفس والتقشف ، بهذه المناهج تحملت الخلاوى والمؤسسات الصوفية عبء أسلمة المجتمع وتعديل بنيته الثقافية ، دون أن تفصل طلابها عن واقعهم ومحيطهم الاجتماعي ، وكان من نتائج نشاطها التعريبي الظاهر للعيان ، لغة وأسلوب الكتابة بالخط العربي ، وهي لم تكن بعيدة عن لغة التخاطب أو اللسان التعبيري بين القارئيين وغير القارئيين كما ذهب الدكتور أبو سليم .
كان لأسلوب التواد والتراحم وربط المريدين بالطريقة ومناشطها ، أثر كبير في توثيق عرى الترابط بين المريدين من أتباع الطريقة ، فاصبح بينهم إخاء ومحبة ذوبت الفوارق الإثنية والجهوية والاقتصادية بينهم ، وصارت الطريقة تمثل وحدة اجتماعية نموذجية ، توفر لأعضائها فرص التساكن والعمل والتلاقح في حمى شيخهم ، وتسهم بذلك في إعادة صياغة البنية الاجتماعية وبنائها على أسس ثقافية واجتماعية جديدة .
دور الخلاوى والطرق الصوفية لم يكن مقتصرا على ما أوردته بعالية فقط ، فقد بدا جليا في مضمار العمران والتوزيع الديموغرافي ، بسببهم ظهرت العديد من القرى والمدن في أواسط البلاد وشرقها وغربها ، ذلك بفضل السياسات التعميرية التي كانوا يتبعونها باختيار الأماكن الخالية من السكان ، فعلى ضوء نيران (تقاباتهم) يجتمع المريدون وطلاب العلم ، فتنشأ القرى ويبدأ العمران ، وفي الذاكرة مدن مثل دامر المجذوب وود مدني السني وقري وخرسي وكسلا وحلة حمد وحلة خوجلي وغيرهم في اصقاع البلاد.
دور آخر لا يقل أهمية عن تعديل البنية الثقافية واسلمة المجتمع قام به الدعاة وشيوخ التصوف ، هو تقنين الاستعراب ، وتقنين الاستعراب ظاهرة لم يتفرد بها السودانيون وحدهم ، بل شملت مجتمعات كثيرة سواء أن خضعت للفتوحات الاسلامية المباشرة ، أو تسرب إليها الاسلام عن طريق الدعاة ، ولعل ظاهرة الاستعراب استمدت دافعها ، من أحداث سقيفة بني ساعدة في مطالع الدعوة ، حين تآلف الجمع أن تكون الخلافة في المهاجرين وفي قريش.
كانت مجتمعات السودان والغرب الأفريقي الأوفر تأثرا بظاهرة تقنين الاستعراب وما أعنية بمصطلح تقنين الاستعراب ، تلك المحاولات الاجتهادية التي درجت على اصباغ النسب العربي على الزعماء وعلية القوم و الكيانات اجتماعية ، ولعلكم طالعتهم بعالية الاجتهادات التي جرت لتقنين استعراب زعماء الكانم وبرنو بنسبتهم لبني أمية ، نفس الظاهرة جرت في السودان حيث اطلع بها دينيون واختصاصيون عرفوا (بالنسابة ) وكتاب السير ، وجهوا نشاطهم نحو تقنين أصول الفئات البارزة ذات الثقل الاجتماعي والثقافي في مختلف مناحي النشاط الإنساني حضرا كانوا أم أهل بادية ، ولعل الظاهرة بلغت أوج نشاطها حين اجتذبت انتباه العامة وكياناتهم فتبنوها متفاخرين حتى ولو لم يكن لسانهم وتقاطيعهم تساعد ، غير أن ظاهرة تقنين الاستعراب ليست بكليتها مقطوعة وموضوعة ، إذ لدينا من وقائع التاريخ مولدون من آباء عرب وأمهات سودانية ، تبنوا ثقافة الأب وأسقطوا نسبتهم لأمهاتهم ، غير أنهم في تقديري ليسوا بالكثرة التي تبرر هذا الكم الهائل من النسب العربي .
يظهر لنا مما سلف ـ أنه وعلى الرغم من قيام سلطنات اسلامية في السودان ، ظلت كافة المناشط سواء كانت دعوية أو تعريبية متسمة بروح التسامح ، وكانت خالية تماما من مفاهيم جهاد السيف أو مفروضة بإرادة الحاكم ، كان منشطا شعبيا طوعيا لذا تقبله الأهالي، فصارت إحدى الآليات السلمية في أسلمة وتعريب الكيانات الاجتماعية.
(ب) آليات مرحلة الأسلمة والتعريب القهرية :
الفترات الاستعمارية
يلاحظ أن هذه الآليات بدأت عملها منذ أن خضعت البلاد للاستعمار المصري التركي 1821م، وكانت أهم الآليات القهرية هي جسم الدولة المركزية نفسها ، تلك التي أسس هياكلها الاستعمار وجلب كوادرها الإدارية من المصريين والشوام ووضعها على ررؤس الكيانات الاجتماعية القاعدية ، ولأول مرة أصبحت لغة الديوان الرسمي هي اللغة العربية الفصحى ، وعمل على توطين نظام تعليمي جديد منافس لنظم تعليم الخلاوى الشائع ، فاقام الكتاتيب والمدارس النظامية ، وشرع في الترويج لثقافة دعوية عربية إسلامية على المنهاج السني الظاهري ، أقام لها المساجد الجامعة على نمط هندسة المعمار العثماني، وجلب لها العلماء والخطباء من الأزهريين، واعتنى بشؤون اعاشتهم، فبدت استراتيجية الدولة الدعوية في مظهرها الرسمي العام مغايرة لما اعتاد عليه الأهالي ، وبحكم ما أسبغته عليها من أفضلية أصبح منافسا للنشاط الدعوى التقليدي ، بمظهرة الشعبي القائم على منهج التلقين والتربية السلوكية ، الذي ظل يحتفظ بمسافة مقدرة بينة وبين سلطة الدولة .
أيضا من آليات تلك المركزية الاستعمارية، السياسات الاقتصادية الجائرة ، القائمة على الضرائب والمكوس المثقلة لكاهل الأهالي ، وتجارة الرقيق واحتكار الأسواق سياسات جعلت ثروات البلاد وريع قنوات الانتاج كلها بيد تجار جلهم أجانب، لكي تصب في الخزانة المركزية للدولة ، وتجعل الناس مجبرين على التعامل مع مؤسسات الحكم ومناديبها.
نقلات جبرية سياسية وثقافية واسعة أحدثها الاستعمار الأول ، شبيهة بالنقلة القسرية التي تبناها مشروع الاسلام السياسي الماثل بيننا الآن ، في الوقت الذي لم يكن تطور واستنارة الكيانات الاجتماعية، بلغ مفهوم الدولة كجسم افتراضي حاضن لمعنى السيادة ، حيث كانت الكيانات في هذه البقعة ، لازالت في طور إعادة الهيكلة والتشكل بعد امتصاص حركة الهجرة الواسعة إليها ومحكومة بنظم وراثية وسلطنات شعوبية ، تلتصق فيها مفاهيم السيادة والسلطة بالمميزات الذاتية لشخص الحاكم وعلاقات الدم ، فلو أجلنا النظر في الوضع الديموغرافي لهذه البقعة الجغرافية منذ القرون الوسطى ، بغية استكشاف ما استجد فيها من حراك وتساكن بشري ، وتحولات في نظمه الاجتماعية والسياسية ، نجد في الشرق قومية البجا بجذورها الضاربة في تاريخ الشرق القديم ، وعلى الشريط النيلي بفرعية الأبيض والأزرق نجد بنيات سياسية وحضارية قديمة أسستها الشعوب النيلية ، وبالانتقال غربا نجده أيضا معمور بقوميات أنشأت لنفسها سلطنات تجاوزت بها مرحلة التكوينات القبلية الأولية منذ أمد بعيد ، وفي القرون التاريخية الوسطى ظهرت تحولات جوهرية ، حيث تعرضت قوميات الشرق والوسط النيلي والغرب لهجرات عربية وغيرعربية ، تتابعت من اتجاهات ثلاثة الجزيرة العربية ومصر والمغرب الأفريقي ، كان الطابع العام لهذه الهجرات في غالبها سلميا كما تقدم ، وبمرور الزمن تلاقحت واندمجت وذابت في المكونات المحلية مؤثرة فيها ومتأثرة بها فكانت النتيجة ظهور أجيال هجينة عرقيا وثقافيا تمكنت من الصعود لسدة الزعامة والحكم ، مؤسسين ممالك وسلطنات مستعربة خلفت الممالك القديمة.
تلك كانت الأرضية والبيئة الحاضنة لتراكمات الحراك الاجتماعي بين شعوب السودان ، بعد أن استوعبت تبايناتها وتجاوزتها وشرعت في تشكيل وهيكلة بنية ثقافية وسياسية سودانية خاصة، لا هي عربية مطلقة ولا هي أفريقية بالكامل، ولكن قبل أن يكتمل بنيان هذا الشكل الجديد ويصل إلى مبتغاه في توليف قومية سودانية متفردة ، تعرضوا لغزو خارجي قطع مسار التطور الذاتي الطبيعي .
أيضا لم تكن فترة الاستعمار الثنائي التي اعقبت الثورة المهدية بأفضل من سابقتها حيث أقامت بدورها مؤسساتها الحاكمة على ذات الهيكل المركزي للدولة ، وتبنت نظاما تعليميا كانت الغلبة في مناهجه تسكين ثقافات الفرنجية بلغتها ونظمهما المتطورة ، تاركا مجالات الدعوة والارشاد الديني تمضي على النسق الذي جاء به الاستعمار المصري الأول ، بل زادت عليه بسياسة المناطق المقفولة التي عطلت آلية التلاقح والاندماج السلمي بين الكيانات السودانية ، وحالت دون تمدد نشاط المتصوفة إلى بعض المناطق، فكان ذلك إحدى المنغصات المبكرة في مسيرة التمازج السلمي ، وعلى الرغم من التوسع الملحوظ للمستعمرين على مستوى حيازة الأرض وانتاج المحاصيل النقدية ، واتباع أنماط متقدمة من نظم الري ، غير أن ريعها ظل حكرا لخزانة الدولة ، تفرج منه القليل على الخدمات ومرافق التعليم المحدودة ، ووسائل المواصلات والاتصالات ، بينما يمضي جله لخدمة رأس المال البريطاني ، دون أدنى اعتبار لتنمية مداخيل أفراد المجتمع ، وإن جاز اسباغ لمحة ايجابية على نظم استعمارية ، فلكونها حافظت على الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية ، السمة التى حافظت علية الحكومات الوطنية الأولى حتى أخريات حكومة المشير جعفر نميري.
يفهم من ذلك ـ أن سياسات الدولة المركزية الاستعمارية انتجت أجيالا تعربت بمناهج التعليم تعريبا جبريا ، وتحولت إلى الثقافة الدعوية على منهجها السلفي الأزهري ، وفتحت أمامه مداخيل الخدمة في الدواوين والمؤسسات الرسمية فتقاطعت ثقافتهم وتربيتهم مع الثقافات الشعبية التي تبلورت من خلال التلاقح فاستعلت عليها حينا وسعت لنفيها أحيانا ، وقادت حملة ثقافية هدفهت إلى تأسيس مشاريع فكرية متباينة، من يسارعلماني إلى قومية عروبية إلى سلفية إسلامية تقاطعت جميعها مع مشروع التلاقح والتثاقف الشعبي الهجين ، ولكن يجب لا يفهم من ذلك أن مشروع التثاقف الشعبي الهجين الذي عملت الآليات الناعمة على توطينة ، كان الأفضل بقدر ما هو المتاح وفق ظروف ذلك العصر ، وكان الأجدى لو استصحبنا جوانبه الايجابية مستبعدين سلبياته في حراكنا الاجتماعي والسياسي نحو الأفضل.
الفترة الوطنية
تبدأ بالثورة المهدية التي انهت الحكم الاستعماري الأول ، فعلى الرغم من الاجماع الذي نالته من قطاعات اجتماعية واسعة ، غيرأنها فشلت في إجراء أي تعديلات في بنية الدولة المركزية التي ورثتها عن المستعمرين، بل زادت من تعقيداتها بوجه خاص في مجال سياستها الخارجية ، بتبنيها صيغ المشروع الاسلامي الجهادي المتجاوز للمفاهيم القطرية ، فضلا عن معالجتها للقضايا الخلافية مع من ناصبوها العداء بإرادة جبرية خالية من روح التسامح ، الأمر الذي دمغ فترة حكمها بالكثير من مظاهر القمع والقهر.
بقية الفترات الوطنية تبدأ بالاستقلال عن الحكم الثنائي عام 1956م ، ويلاحظ أن كل الحكومات التي أعقبت الاستقلال حتى انقلاب مايو 1969م بقيادة جعفر نميري لم تفعل شيئا فيما يتعلق بمركزية الدولة، على الرغم من أن تمرد الجنوب كان بمثابة انذار وتنبيه مبكر بخلل المركزية ، كما ظلت النظم التعليمية بذات مناهجها في الفترة الاستعمارية ، وازداد الأمرتعقيدا عندما تمسك الحكام بسياسات الحسم العسكري للمتمرين الجنوبيين ، والسعي للحد من نفوذ مدارس التبشير ومحاولات الأسلمة القسرية ، غير أن قهرية التعريب الأعنف جاءت بها حركة الضباط الأحرار، تلك الحركة التي أسهمت المخابرات المصرية في تأسيسها وتغذيتها بالفكر القومي العربي ، وما أن تسلموا السلطة في مايو 1969م ، حتى شرعوا في تأسيس تنظيمهم السياسي ، وتوطين فكرة النزوع للقومية العربية ، فدارت المناشط الثقافية في فلكها وفضائها المعرفي ، عرّبت مناهج التعليم النظامي وصارالمؤهل الاكاديمي مشروط بالنجاح في اللغة العربية ، فكان من الطبعي أن يصطدم هذا التوجه مع الأرضيات الثقافية للكيانات السودانية الموسومة بالتنوع ، وفي أخرياتها تحالف قائدها مع تنظيم راديكالي إسلامي ، وعمل على أسلمة المصارف واخضاع حركة المال والتجارة وكافة المناشط التعاقدية لقواعد الاسلام ، وأعلن تطبيق قوانيين الشريعة الاسلامية ، غير أن الأنكأ جاء به انقلاب الانقاذ الحاكم الآن الذي تبنى مفاهيم السلفية الجهادية ، من خلال مشروع قصد به تغييرالمفاهيم الاسلامية المتسامحة ، التى عملت مدارس التصوف على بذرها ورعايتها دهرا.
خاتمة
إلى تلك الآليات القهرية نحو التعريب والأسلمة تعود جل مشكلات الوطن المستعصية الآن ، وكما تبين فيما جمعته هذه الورقة من معلومات، ليس للهجرات العربية أو آليات التعريب والاسلمة الطوعية المتسامحة ، دور فيما نحن عليه من صراع ثقافي سياسي هويوي، وإلا لداهمنا هذا الصراع منذ قرون سلفت، ولكن حال دونها أن تلك الهجرات لم تكن ذات بعد معرفي أو أيديولوجي إسلامي، كالذي يندرج تحت شروط الفتح ، ولم يثبت أنها عملت على عزل نفسها عن المكونات المحلية، أو أبادتها وحلت محلها مثلما فعل أولئك الذين هاجروا للدنيا الجديدة، بل ساكنتها وتلاقحت وتمازجت عرقا وثقافة، فأعطت وأخذت وتولد عن ذلك الأخذ والعطاء جيل هجين عرقيا وثقافيا هم من نعتوا بالمستعربين لسان .
دعونا نحتكم بكل صدق للنتائج العلمية التي بلغتنا من دراسات جينية قام بها نفر من علماء السودان ، ونتائج بثها عدد من السودانيين أخضعوا أنفسهم لاختبارات جينية لقد كانت نسبة الجينات الأعلى للأكثرية من نصيب شرق هذه القارة التي ضمن اقطارها السودان ، كما اشارت نسب أدنى إلى الشرق الأوسط ، هذه النسب الدنيا المنسوبة للاوسط تؤكد حقيقة حدوث هجرات قدمت إلى البلاد ، وهذا ما قالت به مصادر التاريخ ، دعونا نفترض جدلا أن نسبة الجينة العربية عند من قدموا في القرن الثاني عشر الميلادي كانت 100% ، قطعا إن نسبة جينتهم العربية سوف تتقلص كلما مرت السنون وتعاقبت الأجيال ، ففي القرن الثالث عشر لن تكون النسبة مطابقة لما كانت عليه قبل قرن بسسب الاختلاط ، فربما انخفضت إلى 90% على الأكثر، ثم إلى 80% أو أقل في القرن الرابع عشر ، وإلى 70% في الخامس عشر ، و 60% في السادس عشر ، هكذا تمضي النسبة في انخفاض إلى أن تصل العشرة أو الخمسة % و ربما أقل في قرننا الحالي.
على ذلك ـ فإن وجود نسبة شرق أوسطية ولو قليلة تشير قطعا لوجود جد قادم من هناك ، غير أن ذلك لا يعني بأنني عربي أو كردي أو تركي أو من بني اسرائيل كما لن يقدح في مصداقيتي ادعاء انتمائي لجد من الشرق الأوسط مع كوني سوداني .
لقد تطاول العهد على نظام الدول المركزية ، واستمر معه تركيز الثروة والنشاط الاقتصادي في مراكز الحكم ، ومضت خطط التنمية وموارد الاقتصاد موجهة لخدمة خزانة الدولة وليس المواطن ، مثلما كان عليه الحال ابان العهود الاستعمارية ، فعانت المناطق الطرفية من فقدان نصيبها في الثروة والسلطة وبدأت الهجرة نحو المركز ومناطق الانتاج ، وفي الجانب الثقافي منحت الأفضلية والسيادة للثقافة العربية الإسلامية ، وتأسست المناهج التعليمية والتربوية ومناهج الدعوة والإرشاد الديني على النحو الذي يحقق تلك الغاية ، فكانت النتيجة صعود إحدى تنظيمات مدرسة الظاهر السياسية إلى سدة الحكم بقوة السلاح ، جامعة بين يديها السلطتين الزمنية والدينية ، وشرعت في تطبيق برنامجها الموسوم بالمشروع الحضاري الإسلامي ، وشوّنت حربا جهادية في وجه شق من مواطني البلاد ، لم تفلح كل اتفاقات الصلح والتسوية اللاحقة جبر أضرارها ، وعملت باستراتيجيات أمنية انانية رمت نحو احكام السيطرة على كل مقدرات الدولة وتسخيرها لمصالح تنظيمها ، إزاء هذا الخلل البنيوي التاريخي للدولة وايديولوجيتها ، وما طرأ عليها من تحولات ذات توجه آحادي لا يرعى التنوع ، وتخلف في مفاهيم التنمية البشرية وتقاسم السلطة وتوزيع الثروة ، عادت الكيانات الاجتماعية للتقوقع من جديد داخل صدفة الجهوية والاثنيات ، وبرز إلى السطح سؤال من نكون ، منتاشا النسيج الاجتماعي في أهم مقومات تعايشه السلمي ، وروح التسامح والقبول بالآخر.
……………
مراجع
(1) د . عطية القوصي / تاريخ دولة الكنوز الإسلامية / دار المعارف.
(2) د. يوسف فضل حسن / الهجرات البشرة وأثرها في نشر الأسلام في سودان وادي النيل / كتيب معالم تاريخ الاسلام .
(3) ابن عبد الحكم / فتوح مصر.
(4) طبقات ود ضيف الله / تحقيق الدكتور يوسف فضل حسن / ط الثالثة.
(5) د . محمد إبراهيم أبوسليم / دور العلماء في نشر الاسلام في السودان / كتيب معالم تاريخ الاسلام في السودان.
(6) د. عبد المجيد عابدين / قبائل من السودان الأوسط والسودان الغربي /الدار السودانية للكتب.
(7) تيم لوك / صراع السلطة والثروة في السودان / تعريب الفاتح التيجاني وآخر 1994م.
…..
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..