من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (6)

ذكرنا في المقالات الاربع السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقة السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ، خاصة الجزء الشمالي منه الذي يمر بمصر، ونحاول أن نربط ذلك بتواجد الانسان بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). بهذه المناسبة في كتب الجيولوجيا والجغرافيا يتحدثون عن عدة (أنيال)، وهي جمع نيل، وهي الي كونت النيل الحالي. سنتحدث في هذه الحلقة عن العطبراوي والنيل الأزرق والسوباط، وهي أنهار الهضبة الأثيوبية. وفي الحلقة التالية عن النيل النوبي والنيل في مصر بما في ذلك الأنيال الأولى في مصر، ثم نهر ما فبل النيل (البرينيل)، والنيل الحديث (النيونيل)، ثم في الحلقة التي تليها نهرا العصر الحجري القديم (المبكر) ، ثم نيل العصر الحجري القديم (المتوسط المتقلب)، ثم (نهرا) العصر الحجري القديم المتوسط وأول العصر الحجري القديم (المتأخر) الموسميان والنيل الحديث. ثم نبدأ في دراسة تكوين ما يعرف جيولوجيا وجغرافيا بمصر. كل تلك الفترات كان سكان وادي النيل يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف حتى ذلك الوقت ارض تسمى مصر (هبة النيل)، أو شعب يسمى بالمصريين!!!!
? العطبراوي: العطبره نهر موسمي تقع منابعه إلى الشرق والغرب من بحيرة تانا بالقرب من منابع الأزرق فيما بين خطي عرض 12, 15 درجة شمالاً، وخطي طول 36, 40 درجة شرقاً. ويختلف العطبره عن النيل الأزرق في أنه لا ينبع من بحيرة تساعد في تنظيم خروج المياه إليه بل أنه يعتمد على عشرات الروافد التي تمتلئ بالمياه خلال موسم الأمطار بين يوليه وأكتوبر ثم تندفع في خيران عميقة إلى فرعي النهر الأساسيين: الجانج الذي يمثل امتداد النهر والستيت- تكازي- وفي خلال موسم الجفاف تقل المياه في الكثير من الروافد فيما بين شهري نوفمبر ويناير، وتجف تماماً فيما بين شهري مارس ومايو من كل عام. وفي الحقيقة فإنه لولا وجود عدد كبير من الروافد التي تزود نهر العطبره بالماء لما إستطاع النهر أن يندفع حتى يصل إلى النيل ولأصبح مثل نهر القاش الذي يختفي في الصحراء قبل أن يصل إلى نهر العطبره، ويلاحظ أن نهر القاش يصل في سنوات المطر الغزير إلى العطبراوي حيث يتصل به. ولا يعرف إلا القليل عن التاريخ الجيولوجي لنهر للعطبراوي وهناك ما يشير إلى أن النهر حمل وقت عصر البليستوسين الأوسط (منذ 500000 سنة) كميات كبيرة من المياه وأنه كان يجري على إرتفاع يزيد 25 متراً على إرتفاعه الحالي.
? النيل الأزرق: يغطي حوض النيل الأزرق معظم أثيوبيا إلى الغرب من خط طول 40 درجة شرقاً بين خطي عرض 12.9 درجة شمالاً. وبالإضافة إلى النبع الذي يقع إلى الجنوب من بحيرة تانا والتي يخرج منه (الآباي الصغير) الذي يتجه إلى بحيرة تانا فإن للنيل الأزرق منابع أخرى كثيرة. وفيما يلي بعض أهم (الروافد) التي تجلب المياه للنهر ومساحة أحواضها بالكم² . يتجه نهر آلاباي ناحية الشمال حتى يصل إلى بحيرة تانا التي تقع على إرتفاع 1829 م فوق سطح البحر. وبحيرة تانا بحيرة ضحلة الغور يبلغ متوسط عمقها أقل من 9م ومخرج البحيرة (حديث). فقد ظلت البحيرة لمدة طويلة بعد نشأتها مغلقة عند مخرجها بطفوح بركانية لا تفيض منها المياه، ولم تقطع هذه الطفوح إلا في عصر البليستوسين الأوسط (منذ 500000 سنة تقريباً) فكونت مخرجاً ضيقاً (جزيرتي دبري مريام وشيمابو) البركانيتين الواقعتين عند مخرج البحيرة حيث (يبدأ النيل الأزرق أو الآباي) الكبير رحلته الكبيرة. ويبدأ النهر مسيرته ل 30 كم في الإتجاه الجنوبي الشرقي حتى (شلالات تسيسات) حيث يسقط حوالي 50 م يدخل بعدها في (خانق) يزداد عمقه تدريجياً حتى يصل إلى أكثر من 1500 م عند (قنطرة دبري مرقص). ولا يزيد إتساع النهر في هذا الإمتداد على 30 كم. وخلال مسيرته بعد ذلك يلتف النهر في إتجاه جنوبي شرقي ،ثم جنوبي غربي، ثم غربي مع شمال، ليتفادى جبال شوكاي البركانية العالية والتي يبلغ إرتفاع أعلى قممها 4413م. وتصب في النهر في هذا الإمتداد (روافد بشيلي وجاما والموجر والجودر والفنشا) وكلها تنبع من حافة الأخدود الأثيوبي. ويبدو أن هذه الروافد كلها أنهار عكست إتجاهها ناحية النيل بعد أن تغيرت التضاريس بظهور الأخدود. وبين بحيرة تانا والحدود الأثيوبية – السودانية مسافة 850 كم ينحدر النهر فيها إنحداراً شديداً يسقط فيها حوالي 1300 م ، أي بمعدل إنحدار 1.5م /كم من المجرى. وفيما بين الحدود السودانية الأثيوبية وبلدة (الرصيرص) بالسودان يقل إنحدار النهر الذي لا يزال يجري في هذا الإمتداد بين الصخور في (خانق) أقل عمقاً من الخانق الذي كان يجري فيه، إذ لا يزيد عمقه على 40 م . أما بعد الرصيرص فإن النهر (ينبسط ) ويقطع مجراه وسط رواسبه. وفيما بين الرصيرص وسنار (التي تقع على بعد 280 كم إلى الشمال) يسقط النهر 60 م من منسوب 1م إلى 420 متراً فوق سطح البحر. ومن سنار وحتى الخرطوم (التي تقع على بعد 350كم) يسقط النهر 65 متراً أخرى ويبلغ طول النيل الأزرق في السودان حوالي 900 كم يسقط فيها بمعدل 1م / 7 كم. تسبب إنبساط مجرى النيل الأزرق في اسفله إلى تقليل قدرة النهر على حمل (الرواسب) العالقة بمياهه فترسبت منه لتكون السهل الذي يقع بين النيل الأزرق والنيل الأبيض والمسمى (لجزيرة) وهي من أخصب مناطق السودان. وقد تكون هذا السهل من (الرواسب) التي سقطت من النيل الأزرق وترسبت طبقة فوق طبقة على مر السنين. سمك هذه الرواسب يختلف من مكان إلى مكان، ولكنه يبلغ في متوسطه حوالي 60 متراً. وإذا حسبنا الكمية الهائلة من الرواسب التي يحملها النهر كل عام فإن هذا السمك يعتبر صغيراً جداً ودليلاً على (حداثة) النهر ذاته الذي لابد أنه إتخذ مجراه بعد أن طفحت البراكين التي صاحبت تكوين (الأخدود الأثيوبي) فأمالت حوافه ووجهت بذلك مياه المرتفعات الأثيوبية إلى الغرب بعد أن كانت تتجه إلى الشرق ناحية (البحر الأحمر). وتظهر دراسة الآبار التي دقت في سهل الجزيرة وجود عدد كبير من فروع النيل الأزرق (المدفونة) تحت السطح والتي يبدو أنها لم تكن تصل إلى النيل الأبيض، وهي مروحية الشكل، كانت الرواسب تنتهي عندها أي إن رواسب النيل الأزرق (لم تصل إلى مصر) إلا في وقت متأخر (حوالي 800000 سنة قبل الآن). أما قبل ذلك فيبدو أن النهر كان يلقي برواسبه في سهل الجزيرة، أو أنه كان يصل إلى (بحيرة داخلية كبيرة بالسودان).
? السوباط: تبلغ مساحة السوباط حوالي 224000كم2 ويحصل الرافدان الأساسيان لهذا النهر (البارو والبيبور) على معظم مياهها من المرتفعات الأثيوبية ،وبعد أن يتركا هذه المرتفعات ويلتقيان ينبسط مجرى النهر مكوناً (مستنقعات ماشار) التي تبلغ مساحتها 6500كم2 . إلى الشرق من منابع السوباط يوجد حوض نهر (أومو) الأخدود الأثيوبي الأعلى الذي يحتوي على عدد من البحيرات التي تمتد من (بحيرة شامو) في الجنوب جزءاً من حوض نهر أومو، وذلك قبل ظهور الأخدود وقبل أن يتشكل خط تقسيم المياه الحديث الذي يمتد في إتجاه شمالي – جنوبي على طول خط طول 36 درجة شرقاً. وخط تقسيم المياه هذا كثيراً ما تغير مكانه وخاصة في الفترات المطيرة التي كان يرتفع فيها منسوب (بحيرة توركانا) وينحدر فيها نهر أومو ناحية النيل, ويبدو أن ذلك قد (تكرر لعدة مرات) وكانت آخرها فيما بين سنة 7500 وسنة 2000 قبل الآن عندما إرتفع منسوب بحيرة توركانا إلى أكثر من 80 كتراً فوق منسوبها الحالي وإتجهت مياهها ونهر أومو ناحية النيل. ومن الأدلة على إرتفاع منسوب البحيرة في هذه الفترة (وجود شواطئ بحيرية قديمة) على هذا الارتفاع كما أن أنواع الأصداف التي تعيش اليوم في كل من البحيرة وحوض النيل متشابهة، مما يدل على أن الحوضين كانا متصلين في ماضي الزمان. ومرة أخرى وكما وجدنا في أنهار المرتفعات الأثيوبية الأخرى فإننا نجد أن هناك من الأدلة ما يدل على (حداثة) نهر السوباط.
? نواصل في الحلقة القادمة ان شاءالله.

بروفيسور نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..