من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (7)

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرنا في المقالات الست السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقة السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ، خاصة الجزء الشمالي منه الذي يمر بمصر، ونحاول أن نربط ذلك بتواجد الانسان بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). تحدثنا في الحلقات السابقة عن العطبراوي والنيل الأزرق والسوباط، وهي أنهار الهضبة الأثيوبية. والآن نتحدث عن النيل النوبي والنيل في مصر بما في ذلك الأنيال الأولى في مصر، ثم نهر ما قبل النيل (البرينيل)، والنيل الحديث (النيونيل)، ثم في الحلقة التي تليها نهرا العصر الحجري القديم (المبكر) ، ثم نيل العصر الحجري القديم (المتوسط المتقلب)، ثم (نهرا) العصر الحجري القديم المتوسط وأول العصر الحجري القديم (المتأخر) الموسميان والنيل الحديث. ثم نبدأ في دراسة تكوين ما يعرف جيولوجيا وجغرافيا بمصر. كل تلك الفترات كان سكان وادي النيل يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف حتى ذلك الوقت ارض تسمى مصر (هبة النيل)، أو شعب يسمى بالمصريين!!!!
النيل النوبي – المعبر من قلب أفريقيا إلى البحر المتوسط
تمتد الهضبة التي تفصل حوضي السودان ومصر من السبلوكة (85 كم إلى الشمال من الخرطوم) إلى أسوان، وهي تشكل القنطرة التي تمر منها المياه التي تتجمع في احواض قلب أفريقيا إلى مصر، فالبحر الأبيض المتوسط. وتتكون هذه الهضبة من صخور عارية دون كساء نباتي تعوق مجراه. في الكثير من المواقع توجد شلالات وجنادل. وقد أصبح النهر في هذا ومنذ بدء هذا الجزء ومنذ بدء هذا القرن مخزناً للماء، ولم يعد على حاله الطبيعي عندما كان نهراً سريعاً يمر في طور تعديل إنحدار مجراه وحت العوائق فيه. وكانت الهضبة النوبية تشكل حاجزاً بين أحواض أفريقيا والبحر المتوسط لمدة طويلة قبل أن يخترقها النيل النوبي. وحتى بعد هذا الإختراق وإتصال أفريقيا بالبحر المتوسط عبر هذا النيل فإن الهضبة كثيراً ما عادت لكي تكون حاجزاً بين أحواض أفريقيا والبحر ذلك لأن النيل النوبي كان ينقطع بين الوقت والآخر فيمتنع الإتصال. وقد أصبح النيل الآن وبعد تحويله إلى مخزن كبير للماء بعد بناء سد أسوان (1902)، ثم السد العالي (1970) على شكل بحيرة كبيرة صالحة للملاحة. وقبل ذلك لم تكن الملاحة ممكنة في المجرى الطبيعي إلا في وقت الفيضان. فقد كانت العوائق التي تعترضه تشكل عقبات ملاحية كبيرة. وتحتوي الكثير من الكتب التي تصف الحملات العسكرية للسودان في القرن التاسع عشر على وصف المخاطر المهلكة التي تعرضت لها هذه الحملات وهي تبحر في النيل في هذه المنطقة.
ويعتبر جزء النهر من وادي حلفا حتى عمارا والذي يمتد حوالي 120 كم واحداً من أكثر أجزاء النهر وحشة، إذ يحد النهر من ناحية الشرق جرف من (صخور نارية داكنة). ويعترض هذا الجزء عدد من الجنادل التي تشكل في مجموعها الشلال الثاني. من أهم الثاني هذه الجنادل جندلاً (سمنة ودال). وعلى إمتداد هذا الجزء قلاع ومعابد بناها المصريون القدماء والرومان لتحصين مدخل الجنوبي. ويهمنا من هذه القلاع قلعتا (سمنة وكوما) اللتان ترتفعان فوق النيل بحوالي 123 متراً فقد نقشت على جانبي النهر مناسيب النيل في عصره القديم.
وفيما بين الخرطوم التي يبلغ إرتفاعها 378 م فوق سطح البحر، إلى أسوان التي يبلغ إرتفاعها 91 م فوق سطح البحر مسافة 1847 كم ينحدر فيها النيل بمتوسط متر واحد لكل 6.5 كم من المجرى. على أن هذا الإنحدار ليس منتظماً على طول المجرى، ولكنه يصبح كبيراً عند الشلالات الست التي تعترض النيل النوبي. وأكبر إنحدار هو عند (الشلال الرابع) الذي يمتد لمسافة 110 كم من نقطة تبدأ عند حوالي 97 كم من الغرب من أبي حمد وحتى بلدة كريمة. في هذا الإمتداد يسقط النيل من إرتفاع 297 م إلى إرتفاع 248 م فوق سطح البحر، أي بمعدل متر واحد لكل 2.25 كم من المجرى – ويلي هذا الشلال في درجة الإنحدار (الشلال الخامس) الذي يمتد من بربر حتى أبو حمد لمسافة 160 كم، وفيه يسقط النهر من منسوب 361 م إلى منسوب 306م فوق سطح البحر بمعدل متر واحد لكل 3 كم من المجرى. أما (الشلال الثاني) الذي يمتد لمسافة 200 كم إلى الجنوب من وادي حلفا فله معدل إنحدار يقارب معدل الشلال الخامس. فهو يسقط في هذه المسافة من إرتفاع 194 م في أقصى جنوبه إلى إرتفاع 128 م عند وادي حلفا. وفيما بين الشلالين الرابع والخامس يقع (السهل الفيضي) الذي يمتد فيما بين (دنقلة وكريمة) حيث توجد الزراعة وحيث ينبسط النهر فيسقط بمعدل متر واحد لكل 12.5 كم من المجرى. ويلاحظ أن المنطقة التي تفصل (شلال أسوان) من وادي حلفا والتي تمتد لمسافة 345 كم لها نفس معدل هذا الإنبساط ، وإن كانت هذه المنطقة صخرية تحدها من الجانبين صخور (رملية) لم تكن تعرف فيها الزراعة إلا في جيوب صغيرة (هذه هي منطقة أهلنا الكنوز).
هضبة النوبة قاحلة في الوقت الحاضر وبها شبكة تصريف تتكون من عدد كبير من الوديان الجافة. حاليا هذه الوديان لا تحمل للنيل إلا كمية ضئيلة من المياه، ولكن هناك من الأدلة ما يقطع بأن هذه الوديان حملت للنيل في الماضي البعيد كميات كبيرة من الماء. وقد أثبتت الأبحاث الحديثة التي قامت بها البعثات العلمية أن أحد هذه الوديان الجافة في الوقت الحاضر وهو (وادي هور) كان نشطاً وحاملاً لكميات كبيرة من الماء فيما بين سنة 9400 وسنة 4800 قبل الآن. وأنه كثيراً ما تكونت به وفي أماكن كثيرة منه بعد موسم أمطار الصيف برك كانت تعيش فيها الأسماك والتماسيح وأفراس النهر والسلاحف. كميات المياه التي كانت تأتي من هذه الوديان في تلك الأزمان السحيقة قد رفعت منسوب النيل وتسببت في فيضانات ضخمة في مصر نتيجة إتساع الحوض الذي كانت منه مياه النهر بالإضافة إلى أن مياه هذه الوديان لم تكن عرضة لأن تفقد في مستنقعات، أو أن تفيض فوق ضفاف الأنهار كما كان الحال بالنسبة للمياه التي كانت تأتي من الهضبة الاستوائية أو المرتفعات الأثيوبية.
تشكل هضبة النوبة المعبر الذي يوصل إلى مياه النيل إلى البحر. وقد تعرض هذا المعبر لحركات أرضية كثيرة أثرت في شكل النيل وكمية المياه التي حملها عبر تاريخه. ويقع شلال السبلوكة الذي تبدأ منه رحلة النيل عبر النوبة على فالق عظيم يمتد من الشرق إلى الغرب. كما تقطع النيل النوبي على إمتداد فوالق أخرى كثيراً ما سببت كسوراً وميولاً أعاقت المجرى أو غيرته أو تسببت في إيقاف إيصال المياه إلى مصر. ومن أهم هذه الفوالق فالق (كلابشة) بنيل النوبة بمصر والذي يعرف بنشاطه زلازالي مستمر عبر التاريخ، وقد أثبتت الأبحاث أنه كان نشطاً وقت الرومان وفي العصر الحديث.
في الحلقة القادمة ان شاء الله سنتحدث عن النيل في مصر.

بروفيسور نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
25/3/2018م

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..