على مقهى فى شارع أغنية

على مقهى في شاعر أغنية

” لو تصّدق ” للكبير ” عبدالكريم الكابلي ”

……………………………………….

كنت في منتصف الإيفاع الوجداني ، طالبا في المرحلة الثانوية ، مفرود القامة و الحلم ، عندما استمعت إلى رائعة ” لو تصدق ” للمرة الأولى . كان الوقت نهارا وقتها ، و كانت المدينة تلفظ عمالها إلى الشوارع الرحيمة عندما تدفقت مقدمة الأغنية عبر الأثير ، قادمة راديو أسود صغير لتحولني إلى ساحة ذكر ” ترفضّ نوباتها هديرا و تجنّ ” . ذاك كان زمان الغناء الذى تحتسيه الأرواح ثملا ، لا زمان الأغنية الجسد التي تبتلعها عيون الدهماء في اشتهاء جسدي غامر . كان “وردى ” حينها يطارد الحلم بصوته ، و يتغنّى لبلاد هي ” راية منسوجة من شموخ النساء و كبرياء الرجال ” . كان ” محمد الأمين ” يحول من كلمات شعرائه تراتيل . كان ” مصطفى سيد أحمد ” يتمرّد على نصوص تكلست صورها زمنا ، أما البلابل فقد كنّ أكواب الشاي التي تضعها كل أسرة سودانية أمامها ساعة ” المغربية ” . أذكر أنى كنت واقفا أقلب في صفحات كتاب ما ، حينما بدأت زخات اللحن تهطل في وسامة شاعرية ، مالئة مسام الغرفة الضيقة . جلست على كرسي خفيض حينما بدأ صوت ” الكابلي ” يتساقط كما حبات المطر على نافذة بيت ريفي . ثم بدأت الأغنية تتهادى في شراييني كما يتهادى حصان فتىّ على دروب لينة حتى بلغت المقطع :

حتى الكلام لو جيتنا ما بنحكيهو بي نفس الحروف
كلماتنا تتفجّر غزل بين كل فاصلة تعيش ظروف
والشوق دوام يغري الخيال يسرح وبي حسنك يطوف
أحلامنا تتناثر أمل في كل روضة تضوع قطوف

باغتتني هذه الصورة كما يباغت الربيع ضفائر الربى البعيدة . كيف يزعم فنّان ما أن الحروف التي يحادث بها حبيبته هي ليست نفس الحروف التي يتخاطب بها بقية الناس ؟؟ كيف يهرب عاشق من ذاكرة جمعية مهترئة الكلمات كما حذاء قديم ، ليعثر على لغة تخلق تفرده و خصوصيته مع حبيبته ، بل كيف تتناسل من عباءة صمته لغة هي نبض خاص و حرارة خاصة ؟ ثم كيف تعيش بين كل فاصلة حديث و أخرى ظروف مغايرة الظروف متجددة الملامح و الجرس ؟ غرقت في دوامة الجمال في المقطع أعلاه فهربت من رذاذ عبقريته الى أول النص :

أنا لو تصدق
يا شباب عمري المفتّق
شلت كل الريد مشاعر حلوة نديانة و خصيبة
و اشتهيت يهلّ وعدك لي هنا و أفراح وطيبة

ما أجمل أن نصف حبيبا بأنه شباب العمر الذى يتفتق زهره في بواكيره . ما أجمل أن نعثر على إحساس ينسينا انكسارات العمر المصادر لدى قراصنة الشجن ، و ما أجمل أن نحمل كل العشق الذى في حنايانا و نهرول به صوب محبوبنا لأنه مدينة الاشتهاءات : اشتهاءات الطيبة و الأفراح و الهناء . غمرني صهد المقطع السابق فتأرجحت على مرمر كلماته صوب آخر كما يتأرجح الطفل على أرجوحة في حديقة عامة .

آه لو بتعرف
كيف تهشّ أشواقنا تهتف لي عيونك
كيف يلح الشوق و يسأل

و مع الآهة التي يطلقها ” الكابلي ” في تطريب عال تتفتح مسارب الضياء أمامنا للتأمل ، يخضوضر عشب عند أقدام جبل جليل الصمت ، يتثاءب النيل مساءا و هو يودع ” الخرطوم ” بعد هدير يوم كامل ، تنعس نجمة ، تشهق وردة و تتراقص أضواء الكواكب في النهر القديم . هنا تتململ حبورا قارات الروح التي لم تصلها المراكب يوما ، تتمطى أسراب العصافير في فضاءاتها و تمتد السماوات دفاتر نكتب عليها ما يشاء لنا البوح من حنين :

و نحنا من خلف المدى الفرّقنا طوّل
لو بتعرف
نرسم الليل في البعاد جنة لقا
نبني تعريشة حنان طول بدا
و نعانقو في أعماقنا باقات من مرح
تجعل صبانا الغالي زغرودة فرح

حينها نشد على يد الشاعر و هو يهتف أن المسافات و الغياب لا ينفيان صور الحبيب المرسومة في حواسنا ، نحس أننا – و نحن نستلقى على سرير الصمت في الليل – يمكن أن نتناول ريشة العشم و نرسم جنة لقاء حقيقية ، تعلوها تعريشة تضم عاشقين ، يتحول عمراهما إلى زغرودة فرح تنطلق في ساحة عرس !!

لم تخلب نبضي عبقرية الكلمات فقط ، فلعبقرية ” الكابلي ” الموسيقية يد عظيمة في تطريز هذه المفردات بجمال فريد . لقد وسّد هذا الكبير كل حرف في الأغنية نمارق من نغم نضيد وثير آسر . ثم أتى صوته صهيلا هادرا من ضواحي الأغنية القصية ، قبل أن يتسربل بقطيفة وجد ناعمة ، و يهملج على شوارع الأغنية المطلة على ألف نيل شفيف . وهو بين كل مقطع و آخر يتمايل كما الحرير في هذا العمل الفني العظيم الذى يشبه لوحة مكتملة الجمال .
ظللت أبحث من وقتها عن شاعرها – عبدالعزيز جمال الدين- فلم أجد ما يشفى الغليل سوى انه عاش ردحا من الزمن في أبو ظبى ? ثلاث عقود ? و أنه من مواليد امدرمان .
كما علمت أنه لم يكتب لفنانين آخرين سوى ” الكابلي ” . لكن من المؤكد أن هذا الشاعر الجميل خلّد نفسه تماما في وجداننا بهذا النص . بلى ، ألم يتحول ” التجانى سعيد ” إلى أسطورة برائعتى ” قلت أرحل ” و ” من غير ميعاد ” .

عزيزي ” الكابلي ” ، و لئن امتد بيننا محيط و جواز آخر ، يبقى هذا الشعب دوما ” يصفيك أقصى الود غير مقلل ” . و هو ود ? حتما ? ينفع عند بابك !!
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..