تلبد السحب أم تبلد الاحساس

فى عهد الصغركثيرا ما كنت انظر للسماء المكشوف من على عنقريبى ليلا فى قريتى المسماة بالصوفى الازرق بالقضارف، واشاهد النجوم واراجع ابراجها التى كان الوالد يرحمه الله يصر فى كل مساء على ان يرينى اياها، نجما نجما وبرجا برجا . ولم أك أهتم كثيراً للعديد من هذه النجوم، سوى تلك التى ترتبط بمنازل الخريف، لما للخريف عندنا من دور ودوائر ودائرات وأثر، حيث كنا ننتظر مقدمه ليس بغرض الزراعة كما ينتظره الكبار، ولكن حتى تهل علينا اسراب العصافير المسماة بالباقير وفكى ميلس وبت ام حبرة وأب عجينة وحمد أب سيف . اين كل هذه الطيور اليوم، بعد ان أجتاح القطع الجائر الغابات ، بل أين هو “مكّر” او مجر الكبش الذى يقال أن الرب فدى به اسماعيل عليه السلام – والذى كان يقسم السماء الصافية بخط طويل من اللون الابيض .اختفى هذا “المكر” تماما بعد ان دخلت الكهرباء بانوارها وإختفت معه سيرة التضحية الكبرى. و يجى عيد الضحية دون ان يتذكر الناس هذا “المكر” المختفى . فى ذلك الزمن كان اهل القضارف يعرفون السحب و الرعود والبروق ويتصادقون معها و لا يقولون بانها “تتلبد ” فقد كانوا ينظرون اليها و يعرفون كمية المطر التى تحملها والمدة الزمنية التى يستغرقها هطولها وفى الغالب الجهة او الجهات التى تصيبهاهذه الامطار. المهم إن ما اردت الوصول اليه اننى كنت اتوقف عندما اسمع مذيع النشرة الجوية يقول إن السحاب تلبد او تلبدت السماء بالسحب. ومنذ صغرى وحتى اليوم استعجب لماذا يقول لناس “السحب تلبدت” وحتى الان لا اكاد اعرف لكلمة “تلبد” الا معنى واحد هو الإختفاء. وكنا صغاراً نتلبد من بعضنا اى نختفى من بعض فى ممارستنا لبعض الالعاب. وهذا يعنى ان التلبد هو العمل السرى غير المكشوف. فكيف يقول الناس السحاب تلبد وهم يرونه فى السماء واضحا، بل ومزمجرا ببروق ورعود. وعلى الجانب الاخر فــ” اللابد” هو الخائف. وبعض الناس هم من يخافون السحاب برعوده وبروقه، وليس السحاب هو الخائف حتى يتلبد. ومازلت اعجب لماذا لا يغيرالناس كلمة اللبدان هذه، ويقولون السحاب تجمع ؟ فهذه اكاذيب فى حق السحاب لا ينبغى ان تتكرر خاص لناس القضارف. ومن القضارف ذاتها جاء الشاعر عبد الواحد عبد الله يوسف الذى كتب شعرا عذبا تغنى به المغنون، ليطبز فى بعض اشعاره الحماسية ويتجاوز الحقيقة التاريخية والوقائع الموثقة فى معركة كررى، ليحدث الناس عن رجال “شتتوا كتل الغزاة الباغية” والحقيقة غير ذلك لتعيش اجيال وهى لا تدرك حقائق التاريخ حتى تتبصر كيف ولماذا اخفقت او نجحت, وتضع لنفسها وللبلاد منهجا قائما على الحقائق مهما كانت سلبا او ايجابا. هذا المنهج الاستسهالى فى تناول وقائع التاريخ والمناخ وشئون الناس والبلاد والحياة، هو ما يغبش الوعى ويجعل للحقائق وللكلمات معان كثيرة ملتبسة، نعم هنالك الكثير من الكلمات والمعانى التى اصبحت من الاخطاء شائعة الاستعمال اعتادها الناس واصبحت واقعا من غير ان تلفت انتباه احد. وأجبر الناس على بلعها كما هى بوعى او بغير وعى بها. ومن هذا الواقع فإننا نقبل كل عام وعلى مدى طويل من الزمن ان السحب تتلبد. و لكن يبدو ان السحب و”الضباب “والامطار فى عموم البلاد تجيد حكاية التلبد هذه والاختفاء من السلطات. ففى كل مرة تتفاجأ السلطات بها على حين غرة. ولذلك تعذر السلطات نفسها بانها خدعت من السحب الغادرة والسيول السايلة. وبالتالى فان كوارث الامطار والسيول التى تشهدها البلاد فى كل الاعوام هى نتيجة غدرهذه السحب ولبدانها. “بالله ده كلام”.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..