جرحي وآلامي سيرة فنان منسي

(1) في الحوش القديم بالعيلفون تلمح من بعيد عنقريب عتيق ، تكاد تسمع أنين صوته وهو يتوجع من ثُقل جلاسه ، أرجله الخشبية غاطسة يكاد يبتلعها وحل من الطين ، و كانون من الصفيح أحمرت جوانبه إشتعالاً ، ترتفع منه أفواج الدخان ، علي سطح ذلك الكانون القديم ترقد حلة شاي داكنة اللون ، لونها الأسود يخفي نكهة لا مثيل لها ، كان هو هناك في هذا المشهد السريالي يتكئ علي خده الأيمن ويضع رجله فوق الأخرى ، ويحمل بين يديه صحيفة يومية إصفر لونها من كثرة القراءة ، ينتظر شاي اللبن المقنن من زينب بت محمد علي ، عشقه للشاي يكاد يكون بلا حدود وكأنه حفيد من حفدة البرامكة ، يذكرك مظهره في ذلك الصباح الباكر برواية حارس عبدالخالق محجوب في سجنه بمصنع الذخيرة حين يقول ، كان يصحو من نومه مبكراً في كامل هندامه وكأنه ذاهب الي إجتماع حزبي ، الأمين علي سليمان كان علي ذات الأسلوب يصحو من نومه باكراً وهو في كامل هندامه ، حلته الإفرنجية وحذائه من شدة لمعانه تكاد تري فيه وجهك ، كان كأنه ذاهب الي حفلة في دار الإذاعة .

(2) في عشرينيات القرن الماضي ارتبط الفن والطرب بقلة الورع ونقص التدين ، وكان ذلك في سياق طبيعي لمجتمع خارج من قهر دولة فرضت نسخة من الثقافة الدينية المحافظة بقوة السيف ، فالدولة المهدية كانت تحاكم الناس علي طهرانية لا تعرف المرح والفرح الحلال ، و لعله لم تتسرب إليهم مقولة الإمام أبو حامد الغزالي من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره ، والعودُ وأوتاره ، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج . في الخمسينات من ذات القرن الماضي صعدت الي مسرح الفن وجوه جديدة غيرت الصورة النمطية التي ترسخت في الأذهان عن الفن ، أحمد المصطفي ورفاقه صنعوا مرحلة جديدة من مراحل الفن السوداني ، أخرجوه من النظرة السالبة في الوجدان الشعبي المتدين وألبسوه ثوب الإحترام ، ظهرت لونية جديدة من الشعر الغنائي في تلك الأيام ، كان واحد من رواد تلك المدرسة قرشي محمد حسن ، صاحب الفراش الحائر مشتاق الي زهراتك ، وهي واحدة من الأغاني التي صنعت نكهة مختلفة في الفن السوداني ، صعد على إثرها الفنان عثمان حسين إلي قمة النجومية ، وعاد الثنائي قرشي وعثمان ليلتقيا في اللقاء الأول بين همس السنبل وخرير الجدول ، وأمتد أثر قرشي محمد حسن الي أنيق الفن السوداني حسن عطية في أغنية عتاب ، لا تسمعي قول العوازل إنني بك مستهام .

(3) لقاء الأمين علي سليمان كما تروي حكايات ذلك العصر بالشاعر الصوفي المعذب قرشي محمد حسن كان في واحدة من أجمل أغاني الفن السوداني يومها ، لكن للأسف لم تجد حظها من الإنتشار والذيوع قُبرت في عصرها ، يكفي علي روعتها شهادة الشاعر محمد يوسف موسي ، صاحب على دربك زرعت الحب ، غزلت صبابه العشاق ، بأنها من أجمل أغاني الفن السوداني ، قبل سنوات كنت وصديقي في شارع المك نمر ، وجدنا رجل كبير في السن رث الثياب وتعجبنا أنه كان في غاية السُكر ، عطفنا عليه ومن ثم شاغلناه ، حكي لنا عن ذكرياته وأنه كان عازفاً ماهراً في الزمن الجميل ، لم نصدقه كانت حالته المبعثرة مدعاة لتكذيبه ، ولكن علي السجية سألته هل تعرف الأمين علي سليمان ، فبكي الرجل بشكل هيستيري حتي أشفقنا عليه ، فقال ومن ينسي أقبل الليل ورددها وهو يبكي ودموعه تبلل ثيابه الرثة .

أنا إن أقبل الليل

وأغفت فيه عيناك

وطاف الحُلم خفاقاً

وطنب في مُحياك

وهبت نسمة الفجر

تداعب خُصلة الشعر

وتُوقظ جفنك الخمري

سكبت إليك من شعري

أغاريد الهوي الباكي

وماج العطر الواناً

يزف أريجك الزاكي

عزفت الشعر الحاناً

وهمت إليك ظمآن

(4) تقول الطرفة الحزينة أن شاباً صغيراً ، سمع أبراهيم الكاشف يردد واحدة من أغانيه الخالدة ، فأستعجب الفتي كيف يُقلد هذا الرجل العجوز الفنان جمال فرفور ، الفتي الصغير لم يعلم ان فرفور هو الذي يُقلد الرجل العجوز ، وهذا مسلسل طويل في تاريخ الفن السوداني ، المُحزن فيه أنه تطور من التقليد الي السطو الكامل ، توجد الكثير من الأغاني التي تم السطو عليها ولم تُنسب الي أصحابها ولو علي سبيل الحق الأدبي ، ونصيب الأمين علي سليمان كان كبيراً ، أغنية في سبيل نظرة من عيونك كم تحملت جور عهودك وتجرعت من وعودك خمرة كاسها صدودك ايها الناسي وعدنا هل تجاهلت امرنا كيف لا تدري حبنا ، هذه الأغنية الرائعة من أوائل الأغاني التي تغني بها الأمين ، ولكن زهده وطيبته التي تميز بها كانت سبباً في تغول الكثير من الفنانين علي تراثه الفني الجميل ، وهذه الأغنية كانت واحدة من الضحايا .

(5) كان يكتب الشعر من سنين باكرة في حياته ولكن للأسف ضاع غالب هذا التراث الذي تركه ، و قد يستغرب البعض من شاعريته ، فالمشهور عنه أنه فنان لا غير ، ولكن اذا أطلعت علي واحدة من روائعه يزول عنك الإستغراب والدهشة ، و تعاودك الدهشة في ذات اللحظة حين تعلم أن دعوة صغيرة علي كباية شاي كانت ثمناً لتتحول هذه الأغنية الجميلة التي كتبها الأمين علي سليمان في فتاة من شمال السودان الي الفنان علي ابراهيم اللحو .

ما دام نسى العشرة واختار سوانا حبيب

خلينا لي الأيام لو لي ضميرو حسيب

قت ليهو يا مغرور ليه الجفا والتعذيب

قال لي في عذرو كلام غريب وعجيب

اتنكروا الأحباب ما أصل المحبة نصيب

وما أظن أصيل وصميم يبدل حبيب بي حبيب

خلفت فينا جرح محال يداوي طبيب

(6) أغنية جرحي وآلامي من الأغاني التي إلتصقت بالفنان الأمين علي سليمان ولم تفارقه ، لعلها نجت من سارقي الألحان والأغاني القديمة ، وهي الأكثر شهرة التي يذكرها الناس به ، وهي من الأغاني المميزة في كلماتها وفي لحنها في سنوات الخمسينات ، وما تزال تحافظ علي عذوبتها وتطريبها ، تغني بها العديد من الفنانين السودانيين وغيرهم ، غنتها فرقة مصرية قبل سنوات في حياته ، سألته لماذا لا يمنعهم من ترديدها بالطرق القانونية ، وبطريقته المتجاوزة قال لي سيبك منهم ، كان لا يأبه كثيراً بالحقوق الفنية والقانونية .

جرحي والآمي

كلو يا ظالم من عيونك ديل

في عيونك ديل لحظك القاتل

والجمال والذوق فيك محيرني

انت يا الفاتن حبك الساكن

في قلوبنا لهيب شوف صُبرنا عليه

كل الناس تهواك يا الرفيع معناك

كيف أفور برضاك تسعد أيامي

(7) يحتار الإنسان كيف لفنان أمتلك كل هذه الموهبة الكبيرة ، حين كان البحث عن المواهب في ذلك الزمان أشبه بنبش الرمال للحصول علي جوهرة ثمينة ، أن تكون مسيرته الفنية قصيرة المدي رغم ان الحياة امتدت به ، وفي ذلك عدد من الأسباب ، لعل البيئة المحافظة لأسرته كانت سبباً رئيسياً ، فوالده الحاج علي سليمان كان من قلة من أهل العيلفون إلتزم جانب التدين السلفي علي عكس النسق المشاع يومها الغالب فيه التصوف ، إضافة الي ذلك حرصت أسرته علي إبعاده من دائرة الفن بالعمل في المشاريع التجارية لشقيقه الحاج محمد علي سليمان في ود الحداد بالجزيرة والتي قضي فيها جزء من حياته ، انتقل من بعد ذلك الي المشاريع الزراعية بالنيل الأبيض وطاب له هناك المقام وتزوج وأنجب ذريته .

(8) لا توجد أسباب موضوعية تبرر الظلم والنسيان الذي أصاب سيرة الأمين علي سليمان وهو بلا شك واحد من الرواد في مسيرة الفن السوداني ، و قدم سيرة حافلة بالعطاء الجميل ، ألحانه وأشعاره وأغانيه ستظل خالدة في وجدان الشعب السوداني ، ورغم هذه المسيرة الرائعة لا توجد للأسف أي تسجيلات تلفزيونية في المكتبة السودانية توثق سيرته سوي حلقة واحدة قدمها الأستاذ عمر الجزلي في برنامج أسماء في حياتنا ، سُجلت قبل سنوات قليلة من رحيله ، من الطرائف أنه رفض تسجيل الحلقات التالية ، كانت قد ترسخت عنده قناعة أن برنامج الجزلي نعي مبكر، وكان هو محباً للحياة ، من حسن الأقدار أن إذاعة ركن السودان بالقاهرة سجلت له عدد من الأغاني في بداية مشواره الفني وهي التي حفظت جزء من تراثه العريض .

(9) يقول غسان كنفاني عن أحد أبطال رواياته له جسد عجوز ووجه طفل ، وهذه الصورة المدهشة كأنها تصف الأمين في أواخر أيامه ، كان المكان الذي يجلس فيه لا يمكن بأي حال أن يغشاه الملل والرتابة ، دوماً تكون البهجة حاضرة ، ضحكاته المجلجلة ترسم معالم الفرح حتي في الأماكن الحزينة تراه وهو يضع كفه علي فمه يكتم ضحكته المتوثبة دوماً ، كان علي ذات الوصف الذي قاله منصور خالد في أحد أصدقائه ، أحب الحياة على طريقته ، وأصطحب الناس على طريقته ، وجالد المرض على طريقته ، ثم عاش وكأنه لم يولد، ومات وكأنه لم يعش .

(10) نسمات الحجاز واحدة من الأناشيد الدينية التي أبدع في أدائها الأمين علي سليمان وهي للشاعر الصوفي و صاحب البرنامج الإذاعي أدب المدائح قرشي محمد حسن ، ما بين قصيدة نسمات الحجاز التي سُجلت في خمسينات القرن الماضي ومستشفى الأنصار في العام 2005م ، كانت رحلة البداية مع الحياة ، و رحلة النهاية مع الموت ، وهو في عمر الثمانين أكتحلت عيناه برؤية مدينة الرسول الأعظم ، وكأن الأقدار كانت تخبئ له هذا الموت السعيد ، كانت آخر أنفاسه تتصاعد وهو علي بعد خطوات من المسجد النبوي الشريف ، نسمات الحجاز كانت يومها تحمل روحه الطاهرة الي أعالي السموات .

[email][email protected][/email]

‫3 تعليقات

  1. مقال رائع يستحق الإشادة و التقدير.
    رحم الله الفنان المبدع الأمين علي سليمان و أسكنه فسيح جناته، و أرجو أن ينبري المهتمون بتاريخنا الغنائي بالتوثيق له و أن يقوم الموسيقيون المتخصصون بإعادة الروح في الأعمال التي تركها خلفه فهي تشكل ركنا ركنا من تراثنا الغنائي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..