في معتقلاتنا رجال …. ولكن (2)

ذكرنا في الجزء الأول من المقال أن بمعتقلاتنا رجال كانوا وأبدا أسودا ضواري صبروا على رهق العيش ورداءة الخدمة داخل المعتقل ولإقرّب الصورة أكثر إلى ذهنك أخي القارئ الكريم فإن مساحة هذه الغرف لاتتعدى الأربعة والعشرين مترا مربعا بها أربعة عشرة مفرشة إسفنجية منها سبعة على اليمين وسبعة على اليسار ما يبقي ممرا ضيقا ينتهي بك الي دورة المياه ولحوجتنا الماسة للمساحة قمنا بفرش ثلاث مفارش أخري عليه ليصبح لدينا سبعة عشرة مفرشة ولك ان تتخيل حجم الضيق عندما تعلم أن على هذا الأسرة المفروشة 29 شخصا وهذا ما لا يكون في أسوأ سجون العالم وأبشعها, الغرف متسخة ومبانيها متهالكة وصوت الطائرات العابرة من فوقها يزعج حد الثمالة ويبعث في النفوس الهلع . وحيث دورة المياه واحدة لا ثاني لها فيها تقضى الحوائج من ( غسل للملابس والإستحمام بل ومشربا لمياه ساحنة لا بديل عنها نزيح بها وصب العطش ) وفوق كل هذا يجود بها السجان أحيانا ويبخل بها أحايين أكثر! .
وأوقن جازما أن إدارة المعتقلا ت غيرعاجزة عن تحسين بيئة الإعتقال ولكن هذا فعل مقصود يراد به الضغط النفسي لكسر إرادة المعتقلين ومن ثمّ إنهيارهم , وقد أدركنا ذلك وغيره الكثير الذي جادوا به علينا من أساليب التعذيب النفسي فوطنا أنفسنا على إحتمالها وعملنا على تكثيف الطلبات لإرهاقهم والضغط عليهم والظهور بمظهر المتصالح مع هذا الوضع المزري حتي لا يجدوا فينا ضعفا أو قلة حيلة فكنا نطالب بحقنا في مقالبة الطبيب وجلب أدوات النظافة ومقابلة المسؤولين (ضابط القضية) بالرغم من عدم وجود قضايا حقيقية تستلزم وجودنا في ذلك المكان البائس لأن الفصل في الخصومات والجرائم مكانها القضاء وساحات العدالة لا المعتقلات وبيوت الأشباح.
ومن رجال في معتقلاتنا الأستاذ القدير والمسرحي الموهوب تاج السر عبدون مخرج مسرحية الإنجليزي الاسود والتي تناولت قصة شخصية مصطفي سعيد في رواية الطيب صالح المشهورة موسم الهجرة للشمال وكذلك مسرحية المرجيحة والتي تفصح عن أن النظام هو المتسبب الرئيس في كل أزماتنا الحياتية اليومية والكوارث والمحن التي ألمت بمجتمعاتنا المتعددة الثقافات والأعراق وهو من أسرة علم وأدب ووظيفة وقصة إعتقاله نفسها كما يروها لنا تصلح لعمل درامي مؤثر يكشف جوانب من الخلل في إدارة الدولة و الإستخفاف بإنسانية الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير من من خلق تفضيلا, يقول الأستاذ تاج السر( ان السلطات قامت بإعتقاله لانها ضبطت بحوزته ثلامائة ريال سعودي فأعتبرته تاجر عملة لم يشفع له كبر سنه ولا علمه ولا فنه وقد أخبرهم ان أخ كريم عائد من بلاد الغربة منحه هذه الريالات كمساعدة لمقابلة علاج شقيقه طريح فراش المرض بمستشفي سوبا الجامعي وقد وصف لهم مكان رقاده وحالته الصحية التي تتطلب عملية جراحية ستجري له في مقبل الأيام فتهكموا عليه) وقالوا له ( هل يعقل ان يمنح شخص ثلاثمائة ريال كده لله ياخ دي مسرحية بايخة بالله كدي أفيدنا أنت تاجر عملة ولا لا) ؟ قال( قلت لهم نحن السودانيين بنعفي الرقبة خليها ثلاثمائة ريال وقد أسرّ لي قصته مع بيت ناحية الصحافة بالخرطوم إصطحبه إليه أحد معارفه وقال لي في هذا البيت تقدم مساعدات لذوي الحاجات من أهل الشهرة والفن وقد تقدمت فيه بطلب للمساعدة لأن أبنائي يدرسون بالهند تعليما جامعيا ويحتاجون لأربعمائة دولار شهريا لمقابلة مصاريف الدراسة والسكن والإعاشة مرّت علينا أيام لم نستطع توفيرها لا أنا ولا زوجي التي تعمل بالتدريس, فذهبت إلي هذا البيت وفيه إالتقيت بالمهندس محمد عطا مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني( كان هذا الحديث قبل إعفائه من منصبه) وقدم لي مساعدة مالية قدرها ألف دولار ما يعادل حينها سبعة عشرة ألف جنيه سوداني قلت له لماذا لم تخبرهم بهذا؟ قال لي خشيت أن أتسبب في إحراج الرجل ان تفوهت بذلك, الأستاذ تاج السر ناقد بصير حاذق ويقرض الشعر أحيانا مثل زوجه المصون شقيقة أبوزر الغفاري والذي قصة إختفاءه مازالت تشكل لغز عصيا محيرا لأهله ومعارفه , كان قد تعرف عليها في رحلة سفر الي مدينة بورتسودان وجذبه اليها خلقها القويم وثقافتها المترعة و شراكتهم الإثنين في الإعجاب بالفنان العملاق مصطفي سيد أحمد حيث لحظها وهي تستمع لأغنية المسافة لمصطفي سيد أحمد من كلمات الشاعر الموهوب الأستاذ صلاح حاج سعيد فكات لحظات السماع سببا للمعرفة ومن ثمّ تعلقه بها وتتوج هذا الحب المفعم بالمشاعر الجياشة بزواج مبارك .
كان يتحدث لنا الأستاذ عبدون بحسرة عن واقع حركة الفن والإبداع والإهمال المتعمد الذي لقيه أهل الثقاقة والفكر من قبل السلطات العليا والأجهزة الرسمية بالبلاد وإستنكر كيف تجد برامج غنائية العناية والرعاية بينما البرامج الثقافية والدراما التلفزيونية لاتجد من يرعاها ؟ بل يطلب من المبدع ان يبحث عن الرعاية بنفسه وهذا الأمر مكان تعجب ودهشة حيث يرى المبدع أنه فنان وليس متسولا ليبحث عن من يرعي إنتاجه الإبداعي كما أرجع أمر هبوط الذوق العام وتدني مستويات الإنتاج الثقاقي الي أن أهل الفن و الابداع أغلقوا أبوابهم وإنزوا بعيدا , حيث سيطر عليهم الإحباط واليأس بسبب العوز ومصارعة المرض والإهمال المتعمد لهم,فغابوا عن ساحات المسارح ودور السنما وشاشات التلفزة وتعاقبت إجيال بعد أجيال لا تعرف عنهم شيئا حيث طوتهم ذاكرة النسيان بعد أن كان لهم رصيد زاهر في موروثنا الأدبي والفني لا يضاهي نافس حركة الثقافة والفكر العربي بتفوق وحدارة.
ومن رجال في معتقلاتنا الأستاذ المحب للحرية والجمال سيد احمد صاحب العبارات الساخرة والأراء النادرة والذي تنقل بين اليمين واليسار لكن حبه للوطن يزيد ضراوة وهو يري أن الحرية يجب أن تسود في مجتمعاتنا وأن نمنحها للصغير قبل الكبير وللنساء قبل الرجال و ألا نكبح جماح الشباب ونترك لهم الحبل على القارب لنري ونسمع ولن نجد منهم الا ما يثلج الصدور.
ومن رجال في معتقلاتنا المهندس صاحب الرأى والفكر الحر محمد على والذي خرج في مواكب الثوار لعله يدرك بتقدمه الصفوف بعضا من حقوق شعبه وهو من الذين يرجعون أمرالأزمة التي نعيشها الي القبضة الأمنية والقهر والإستبداد بإسم الدين فيدعو لحرية الفكر والعمل والحركة ولا يؤمن بمسلمات سيطرت على تفكيرنا فعاقت حركة التغيير المنشود.
ومن رجال في معتقلاتنا الأستاذ عصام خضر والذي جاء إعتقاله نتيجة إستجابته لدعوة لوقفة إحتجاجية تطالب بإطلااق سراح المعتقلين السياسيين, كان صاحب تجربة وخبرة بالحركة السياسية والفكرية في البلاد التففنا حوله نستجوبه عن مأساة مقتل الزعيم الفكري والروحي للجمهوريين الأستاذ محمود محمد طه وقصة إعدامه كيف كانت؟ وعن بيانه (هذا أو الطوفان) وعن مناهضته لقوانين سبتمبر1983م فتجود بإفادات واضحة عن المحكمة التي لم يعترف بها الأستاذ وأن البيان فعلا أصدره الإستاذ وسقطت دكتاتورية مايو المشؤمة بعد بضع وسبعون يوما ما يماثل عمر الأستاذ , كما تحدث لنا عن الرسالة الثانية وعن صلاة الأصالة وهي صلاة مقام لا حال فالحال يتغييروالمقام درجة بقاء يثبت عليها صاحبها.
ومن رجال في معتقلاتنا شباب تحت الثلاثين أذكر منهم ( مجدي أبو الفتوح الأمدرماني ود قلبا وعمر محجوب ? شيوعي وبدر الدين خميس ?مؤتمر سوداني والصحفي أحمد جادين) قبض عليهم في الإحتجاجات الشعبية الأخيرة ولم يكن خروجهم عفويا لكنهم يدركون حجم المأساة التي وصل اليها الحال بالبلاد ويعملون مع غيرهم على ضرورة التغيير والتحول الديمقراطي وإنهاء حالة إختطاف الدولة السودانية من قبل عصابة تحكم بإسم الله والله من فعلهم براء.
ومن رجال في معتقلاتنا رجال مال وأعمال وتجار صادر و وارد وصاغة وأصحاب محلات تحاويل مالية وغيرهم تحملهم السلطات عبّ الأزمة الإقتصادية وتتهمهم بالتهريب والتصرف في حصيلة الصادر بطريقة تخالف السياسات المالية للدولة غير أنهم يدفعون عن أنفسهم بأن الدولة هي من أكبر المضاربين في سوق العملة المشترين لها كما يرى أصحاب حصيلة الصادر أن إلغاء العمل بنظام التخصيص يعرضهم لخسارة فادحة ويوقف حركة الصادر أما تجار الذهب فيعترضون على الأسعار المعلنة من قبل البنك المركزي للعملات و شراء جرام الذهب حيث الفارق يبدو كبيرا عن سعر السوق العالمية , فهم يفترض أن تكون عملية تصدير الذهب مناصفة بينهم وبين البنك المركزي.
ولئن كانت معتقلاتنا تعج بالمعتقلين السياسيين والإقتصاديين فإن إنفراجا سياسيا سحدثه السطان (وقد بدأ حوارا مع معتقلي الحزب الشيوعي فعلا ) ليتدارك به حالة الفوران والغليان الرافضة لإستمرارهم في الحكم حتى لا تنفجر الأوضاع فجأة فتطيح الجماهير الغاضبة بعروش الظالمين فيخسرون الطارف والتليد , وقطعا أن هذه الضائقة الإقتصادية لا يمكن إصلاحها إلا بتنازلات سياسية كبرى تصب في قدح الحريات العامة.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..