حكاية من فريقنا.. كدي ناوليني المصحف ده يا ولية!!

نهضت حاجة آمنة فى تثاقل واتجهت نحو الفضية العتيقة التى تقبع فى احد اركان الغرفة البائسة.. وحين بلغتها وقفت على امشاط قدميها ورفعت بيدها عاليا وهى تغمغم بكلام غير مفهوم ثم تناولت المصحف وقفلت راجعة الى حيث يرقد زوجها..
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
وقعت عينا حاج الطاهر على تلك الآية الكريمة من سورة التوبة، فتسمر بصره عندها إذ لم يستطع المُضى اكثر من ذلك، فتوقف عن القراءة، وقد شرد بذهنه وهو يقلب فى رأسه الحديث الذى افضى به (محمود ود فضل المرجى )..
انشأ محمود ود فضل المرجى يقول، وقد كان يشاركه مشوار الرقشة قبل قليل، وكانا فى طريقهما الى داريهما بعد ان امضيا سحابة نهارهما بالمستشفى؛ البلد دى بقت بلد العجائب.. اسة الحاصل ده اقولوا غضب من السما، ولاحاجة مقصودة من بعض المستهترين، ولا سوء ادارة، ولا هى ازمة ضمير، ولا الحاصل شنو بالضبط؟ بقينا ما فاهمين حاجة ذاتو؛ الاسعار طارت السماء، والبلد على شفير هاوية، وما فى اى بودار لانفراج الازمة القاعدة تتأزم يوم بعد يوم.. لا دوا، ولابنزين، ولا جاز، ولا غاز، واحتمال بعد كدى الهواء ذاتو ما نلم فيه.. كان ود فضل المرجى يتحدث بمرارة، وحاج الطاهر ينصت اليه باهتمام دون ان يقاطعه، فواصل حديثه مستطردا فى سخرية والرقشة تتأرجح يمنة ويسرة؛ الغريبة فى (كديس ) سمين قبل كم يوم كدى كان بيتحدث عن الفساد، وقال فيما قال؛ علينا معالجة الفساد بالقرآن الكريم، خرجت عبارة محمود الاخيرة بنبرة اشد سخرية، ثم اردف بحنق؛ المجرمين ديل كل ما تضيق بيهم الوسيعة واغْلِبُن حلحلة مشاكل البلد الصنعوها بأيديهُن، تتفتّق لينا عبقريتُن عن (صرعة ) جديدة، مرة ادعو الناس للهجرة الى الله، ومرة اقولوا تعالوا نجرب الاسلام على الطريقة السودانية، واهو الايام دى طلعوا لينا بصرعة جديد لنج.. قال نعالج الفساد بالقرآن قال.. ردد ود فضل المرجى جملته الاخيرة ببغض، وحسرة، واسى، قبل ان يطلب من السائق التوقف ومغادرة الرقشة بعد ان نقد صاحبها قيمة المشوار التى زادات عن الثلاثة اضعاف على ما كانت عليه قبل اسبوع واحد فقط.
لم ينبس حينها حاج الطاهر ببنت شفة، فقد اكتفى بالصمت، وهو يشعر بالغثيان، وحمّى التيفوئد اللعينة تدب فى جسده النحيل دبيب نمل (الدِّنْدِر ) بين اطنان جوالات السكر..
وضع المصحف جانبا وتناول شريط الحبوب الذى تحصل عليه بشق الانفس، وطفق يقلب فيه بين اصابعه بحركة آلية عبرت بعمق عما يعانيه من قلق..
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.. العام الفائت ابنه هشام مات فى حادث حركة بشع راح ضحيته كل من كان على متن البص.. يقال ان الحادث وقع بسبب تلك الحفرة التى هى اوسع من الجبِّ الذى أسقط فيه نبى الله يوسف.. والتى كانت السبب فى كثير من الحوادث.
مقارنا واقع البلاد؛ تذكر حديث الفاروق عن البغلة التى بارض العراق وخشيته من السؤال ان هى تعثرت؛ لِمَ لمْ يسوِّ لها الطريق؟.. البغلة فى عهد الفاروق حظيت بالاهتمام اكثر من الانسان فى هذه البلاد فى عصرنا هذا!!!.
نادى على زوجته.. جاءته تمشى على ابتئاس، نظر الى عينيها التين أطفأ بريقهما كثرة انهمار الدمع، إذ كانتا لا تزالان تتجسد فيهما مأساة رحيل ابنهما.. اشار بيده الى كوب الماء دون ان يفتح فمه، تناولت الكوب ومدت به اليه وهى ترمقه باشفاق، فتح الشريط واخرج منه كبسولة، ومن ثم تناول الكوب واودع الحبة فمه وأتبعها بجرعة كبيرة من الماء..
كان لا يزال يحس بالغثيان، والحمّى تسرى فى جسده سريان النار فى الهشيم.. اخرج لسانه وبلل شفتاه الجافتان، وعاد يفكر من جديد فى حديث محمود ود فضل المرجى:
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ؛ أهو ظلم السماء؟ إن السماء لا تظلم احدا (ولا يظلم ربك احدا ).. إنه ظلم الذين اسندت لهم مسؤلية ادارة شئون العباد.. أفى مثل هذه الايام تنعدم المحروقات؟.
قبل اربعة اشهر كان قد دفن فى جوف الارض آخر حبة من (تيراب ) القمح.. وخلال تلك الشهور ياما تحمل قرِّ الشتاء وهو يصارع النُّعاس ليلا على ظهر (تقنت ) ليراقب الماء المنساب الى حواشته، كان يحسب الايام والساعات لبلوغ هذه اللحظات التى سوف يرى فيها ثمرة ما غرسته يداه.. ماذا سيفعل؟ انعدم الجازولين وتوقفت آلات الحصد، وليس هنالك بارقة امل فى انصلاح الحال قريبا، الا بمعجزة من السماء..
احس بمرارة فى حلقه.. ارتفعت حرارة جسده الى اعلى معدل لها.. اغمض عيناه وطفق يهذى.. تراءت له سنابل القمح بلونها الذهبى وقد عبثت بها الريح، وداست على رؤسها حوافر الدواب..
عوض ابراهيم احمد ارباب
[email][email protected][/email]