كشف الامتحانات أم كشف الحال؟

سعيدة بت محبوب امرأة بدوية، عاشت شبابها في ربوع شمال كردفان، الأمر الذي أكسبها قدراً لا يستهان به من المهارات والممارسات والحكم البدوية الصادقة. تركت بت محبوب حياة البداوة وجاءت بغنيمات لها لتستقر في كنف الوالد، رحمه الله، في قرية دميرة بريفي بارا، ولكنها لم تنس أمور البادية ومتطلبات العيش فيها؛ فكانت تصنع كسرة النبق وتبيعها لتكسب قوت يومها، ولا تسأل الناس، وقد كنا نشتري منها القطعة بتعريفة فقط، ولو عاشت حتى هذا الوقت لباعت الكسرة بألف جنيه كما قطعة الخبز تماماً. من جانب آخر، ظلت سعيدة تحافظ على اتخاذ الحيطة والحذر كبعض المتطلبات الضرورية مما تقتضي حياة البادية؛ فكانت تحيط بيتها بزريبة من شوك السدر والسيال، الذي يصعب اجتيازه للناس والبهائم، واتخذت لبيتها “سدادة” متينة تغلقها بإحكام كلما خرجت من دارها لتجلب الماء أو لتسقي غنيماتها، وربما تنظف مدخل دارها حتى لا يجرؤ أحد على مجرد الاقتراب منها! وقد كان والدنا يمازح سعيدة كثيراً، فتقول له قولتها التي لا يزال الناس يرددونها: “هويْ يا أبو عمر أكرب حزامك”، ولعلي أستعير هذه العبارة وأقول للقائمين على الأمر في السودان: يا أخوانا أكربوا حزامكم؛ إذ تعيش البلاد هذه الأيام حالة من التراخي لا تبشر بخير في كثير من المجالات، وما كشف الامتحانات إلا شاهداً واحداً على صدق ما نقول، للأسف الشديد. ومن المعلوم أن الشهادة السودانية ظلت تتمتع بسمعة طيبة واحترام كبير في أوساط المهتمين بشأن التعليم في السودان، ولكن تكرار كشف الامتحانات وما آلت إليه حالة التعليم في كثير من أنحاء البلاد؛ من حيث البيئة المدرسية وتدريب المعلمين وغير ذلك من ضروريات العملية التربوية والتعليمية، قد يفقد هذه الشهادة سمعتها أمام الشهادات العربية والعالمية مثلما فقد الجنيه السوداني قيمته أمام العملات الصعبة والسهلة، إذا جاز التعبير! ليس هذا فحسب، بل إن بعض المصادر الرسمية والإعلامية تتحدث عن نقص حاد في الوقود في مناطق متفرقة من البلاد تمتد حتى كدوقلي ونيالا؛ حيث أصيبت حركة النقل والموصلات، وربما الزراعة بشلل كامل، والله المستعان. وطبعاً لا أريد أن أتحدث عما آلت إليه الحالة الاجتماعية والأخلاقية؛ خاصة في العاصمة والمدن الكبرى، فقد كفانا الدكتور الجميعابي الخوض في هذا الملف؛ إذ ذكر في إفادة له مؤشرات تشيب لها المفارق، وتشمئز منها الفطرة السليمة. ومن المخجل جداً أن يختفي جبل كامل بما حوى من معادن نفيسة دون رقيب من السلطات الاتحادية المعنية بشأن الاستثمار الأجنبي والتعدين، في وقت نفى فيه والي كسلا علمه بالشركة التي كانت تعمل في ذلك الموقع أو ما كانت تقوم به من نشاط، ورمى اللوم على سلفه الذي لم يبلغه بملف الشركة عند التسليم والتسلم! سبحان الله، ماذا يجري في بلادنا، هل خربت “دار أبونا” أم ماذا يحدث؟ وظللنا في الأيام الأخيرة نسمع أن ولايات الشرق تخضع لمراقبة مكثفة من أجل مكافحة تهريب البشر والاتجار بهم، فهل يا ترى غفلت قواتنا المرابطة في تلك المنطقة؛ حتى تمكن موظفو وعمال الشركة الصينية من مغادرة البلاد عبر الحدود، أم هنالك تواطؤ من ضعاف النفوس؟ إن المرء ليعجب كيف تدعو الدولة كبريات الشركات الزراعية للاستثمار في مجال الزراعة وهي في ذات الوقت عاجزة عن توفير الديزل لصغار المزارعين مع علمها التام بأن هؤلاء هم من يوفر الغذاء لكافة أهل السودان! وتفتح الجهات المعنية بالتعدين الباب على مصراعيه للشركات العالمية، والذهب يهرب عبر مطار الخرطوم في رابعة النهار؛ بمعنى أن العائدات تذهب لجيوب المنتفعين وليست للخزينة العامة، وهذا بكل تأكيد إهدار لمصادر البلاد وعبث اقتصادي لا يقره عاقل. أما في سواحل البحر الأحمر فنسمع أن قوارب الصيد المصرية تجوب عباب مياهنا الإقليمية لتصطاد لحماً طرياً خالياً من التلوث بينما تصدر مصر الأسماك والفواكه الملوثة بمياه المجاري إلى أسواق السودان، فهل يعقل هذا؟ إن كشف الامتحانات ما هو إلا مشهد واحد من مسلسل طويل من الإخفاقات غير المبررة التي تنم عن ضعف أجهزة الرقابة في كثير من الأحوال التي تتطلب العمل المخلص والحرص الشديد على المصالح العليا، لكن يبدو أن ثمة جهات باتت لا تنظر أبعد من موقع أقدامها ولا يهمها إلا ما يدخل في جيبها غير آبهة أمن حرام هو أو حلال. وهل نسينا، نحن السودانيين تلك الأناشيد الجميلة التي نشأنا عليها وكنا نرددها في المناسبات من شاكلة:
أبداً ما هنت يا سوداننا يوماً علينا
لماذا هان السودان على أبنائه؛ فصاروا ينهبون ثرواته وينتهكون حرماته غير مبالين بما سيحدث إذا أنهار الوضع في هذا البلد العملاق، ألا يعلمون بمآلات الأوضاع التي تشهدها كثير من الدول حولنا؟ إنّ المسألة ليست مجرد كشف امتحانات بل كشف حال، سيما وقد عجزنا أن نكون مثل سعيدة بت محبوب التي اتخذت من الحيطة والحذر ما يحفظ نفسها وبيتها ومالها؟
الحال ما أصلو مكشوف من ٣٠ سنة بس إنتو ما كنت شايفين زي بقية الرعية