موت الهيئات بفعل أوامر التأسيس !!

ظللتُ أقول إن هناك أخطاء كارثية عديدة ارتُكبت في عهد الإنقاذ جرّاء ضعف المؤسسية المطلوبة لاتخاذ القرار السياسي والاقتصادي الصحيح، وعدم إخضاع القضايا المُراد معالجتها للدراسة الوافية قبل اتخاذ القرار وإنفاذه ولكَم كتبت حول الحكُم الفيدرالي الذي خُضنا غماره فأورد بلادنا، أو كاد، موارد الهلاك.

أقول هذا بين يدي الحديث عن القرار الخاطئ الذي اتُّخذ لإنفاذ شعار ولاية المالية على المال العام، وذلك عندما أجيز قانون الهيئات الذي أُلغِيت بموجبه جميع قوانين الهيئات والمؤسسات الحكومية التي شُرعن وجودها بعد ذلك بأوامر تأسيس أخضعتها جميعاً لوزارة المالية من خلال قانون الهيئات مع منحها صلاحيات محدودة بموجب أوامر التأسيس التي تؤكد عدد من موادها على سلطة وزير المالية باعتباره الحفيظ على المال العام، ولكن كيف كانت التجربة، وهل حققت المطلوب، أم إنها تمخّضت عن تداعيات كارثية على الخدمة المدنية وأحدثت فشلاً ذريعاً يستدعي المراجعة العاجلة؟

ما أقوله الآن كشاهد على العصر، ليس مجرّد كلام نظري، إنما نتاج تجارب عملية من رجل عرك الخدمة المدنية وعركته من خلال مواقع تنفيذية رفيعة في أجهزة حكومية كبيرة ومشاركة في الجهاز التنفيذي (مجلس الوزراء والقطاع الاقتصادي الوزاري).

للأسف الشديد، فقد تمخّض جبل قانون الهيئات فولد فأراً مريضاً، ولم يُفلح في كبح جِماح مراكز القوى المتمثّلة في الهيئات والمؤسسات والوزارات والأجهزة المتمرّدة على سلطة وزارة المالية وفي إرغامها على الإذعان لشعار ولاية وزارة المالية على المال العام واستمر تجنيب تلك المؤسسات للمال العام بعيداً عن أعيُن أو سلطة وزارة المالية كما فشلت اللجنة المختصة بخصخصة مرافق القطاع العام في إنجاز مُهمّتها بل تزايدت الشركات الحكومية المتمرّدة على قانون الهيئات، وعلى سلطة وزارة المالية رغم أنف ذلك القانون الكسيح، وبالتالي لم يُفلح ذلك التدبير الذي حُلَّت بموجبه جميع القوانين وأُبدِلت بأوامر تأسيس لم تُلزم إلا الهيئات التي لا حول لها ولا قوة والتي ما كانت أصلاً، حتى قبل إصدارها بأوامر تأسيس، خارجة على سلطة وزارة المالية.

أذُكر أني كنتُ وقتها مديراً للهيئة القومية للاتصالات (الجهاز المنوط به تنظيم قطاع الاتصالات)، وكان مطلوباً من الهيئة أن تنصاع لقانون الهيئات من خلال إصدارها بأمر تأسيس بعد أن أُلغِي قانون الهيئة أسوة بما حدث لجميع الهيئات الأخرى، فما كان مني إلا أن قاتلتُ قتالاً شرساً من داخل القطاع الاقتصادي الوزاري، مبيناً أنه لا يُمكن للهيئة أن تمارس سلطتها التنظيمية على شركات الاتصالات ذات السطوة والنفوذ إلا بقانون. وبالرغم من أن الزبير أحمد الحسن كان وقتها وزيراً للمالية ورئيساً للقطاع الاقتصادي، فقد اقتنع القطاع الاقتصادي بعد جِدال وعِراك ونقاش ساخن بحُجّتي التي قدّمتها في شكل عرض بالكمبيوتر (power point) استدعيتُ فيه ما يحدث في العالم الذي ما كُنا نحفل بما يفعل بل كُنا نزدريه وكأننا أوتينا ملك سليمان.

على العكس من الطريقة التي انتهجتها في سبيل الخروج من مأزق أمر التأسيس الذي يضعف الهيئات التي تعمل بموجبه، مضت هيئات أخرى نحو بدائل أخرى كارثية للخروج من ذلك المأزق ومنها هيئة الكهرباء التي اختارت إنشاء شركات حكومية بسلطات استثنائية حتى تخرج من قيد وزارة المالية.

ذلك ما أدلى به وزير الكهرباء معتز موسى حين سألته من داخل البرلمان، وفي حضور الرئيس بروف إبراهيم أحمد عمر وكانت حجته لإنشاء شركات الكهرباء الحالية بديلاً للهيئة القومية للكهرباء أن وزارة المالية رفضت استمرار الهيئة بقانون، فذكرتُ له نجاحنا في الهيئة القومية للاتصالات في استبقاء القانون ليحكم قطاع الاتصالات، وذلك بالقطع أخف وأيسر وأفضل من اللجوء إلى خيار الشركات الذي غيّر الوجهة تماماً وأحدث ما لا يُمكن أن يخطر على بال.

تلك أمثلة قليلة (للخرمجة) التي أحدثها قرار إخضاع جميع الهيئات لقانون واحد هو قانون الهيئات عوضاً عن قوانينها المستقلة التي أجزم أنها ما كانت ترفض البتة ولاية وزارة المالية على المال العام.

أقول والحسرة تغمرني، بعد أن تقلّدتُ من خلال البرلمان رئاسة لجنة الإعلام والاتصالات، إنني حزين أن تصدر هيئات عريقة مثل التلفزيون والإذاعة ووكالة السودان للأنباء (سونا) بأوامر تأسيس وهي الهيئات التي نشأ بعضها منذ أيام الاستعمار (الإذاعة السودانية مثلاً) بقوانين وتعمل الآن بأوامر تأسيس كبّلتها وأضعفتها وحدَّت من انطلاقها ومن قدراتها التنافسية للقنوات الخاصة المحلية والعالمية التي مُنِحت من حرية التصرّف ومن الإمكانات ما مكّنها من التحليق في سماوات الإبداع والتألق بعيداً بعيداً عن إعلامنا الرسمي الكسيح والمكبّل بالقيود وضعف الإمكانات.

أما سونا فقد تودع منها بعد أن خُنقت حتى الموت بفعل النيران الصديقة بل بفعل الصديق الجاهل الذي يفضله بكثير العدو العاقل.

ضيق المساحة يحد من الاستطراد رغم أن الأمر يحتاج إلى كتاب وربما كتب.

الصيحة

تعليق واحد

  1. عرض بالكمبيوتر (power point)
    الكلام دا سنة كم؟ ما شاء الله تفتيحة من زمااااااااااااااااااااااااااان.

    قلت لي أدهشت الجماعة بصوت تكسير ( التلج ) أقصد الزجاج وخلفيات نيلية وألوان متداخلة.الذي يبدو لي أن المسؤولين بصفة عاااااامة حرامية. وكل واحد قايل روحو براهو الحرامي والآخرين كويسين ويقول سرقتي براي ما بتأثر.وهو شايف التكبير وزبايب الصلاة _ دي أخذتها من الأستاذ جبرا وقلت أراجعها بس ما لقيت وكت _ ياخ نسوان الرئيس الاتنين كل واحدة عندها منظمة خيرية وقس على ذلك.كنا ما فاهمين حاجة قايلنو عمل خير ويجمعوا تبرعات من خلال معارهم ووضهم الاجتماعي ويساعدو المحتاجين.لكن عييييييييييييييييييييييييييك لقينا الكلام ما كدا.الكلام تراخيص.إعفاء من الجمارك إعفاء من الضريب.لمن مرة كدا في جلسة عصف ذهني جاتني فكرة أعمل منظمة خيرة وأدخل عربيتي الواحدة بدون جمارك وأسجلها باسم المنظمة وأركب عربيتي ما أنا سيد المنظمة والعربية وين المشكلة. ما شعار ما بضر لو جا خير نقسمو لو ماجا مافارقة.كم واحد دخل عربات استثمار بدون جمارك؟ كم واحد شال ألوف الأفدنة في النفرة الزراعية ؟ وشال تمويل برهن الأرض؟اعتبرو المال العام كنز متاح.

    ها لقد جاءكم صاحب المزرعة بعكازته الطويلة.

  2. بمناسبة مقال الطيب مصطفى وبيانه لكارثة تركيز سلطة التصرف والولاية على المال العام بأوامر تأسيس الهيئات والمؤسسات العامة في يد وزير المالية وما نتج عنها من كوارث بحسب قوله، أقول لماذا لا يمنع دستورنا القادم بعد إسقاط نظام ودستور اللصوص الذين يتحدث عنهم كاتب هذا المقال وهو منهم وفي مقدمتهم – ممارسة السياسة والحكم عن طريق التحزب بل حظر السياسة من أصلها كحرفة واحتراف، والاقتصار على السياسة القانونية فقط وأعني بالسياسة القانونية تلك السياسات المضمنة في نصوص الدستور والقوانين واللوائح المتعلقة بالشئون المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية إلخ وكافة المهام والموارد العامة والخدمة العامة المدنية والعسكرية والتي يوكل القانون مهمة تنفيذها وتطبيقها إلى الموظف العام تحت رقابة الجهات الرقابية (إدارية وقضائية) المحددة في القانون بالإضافة إلى رقابة كل مواطن يحق له بشرط النزاهة وحسن النية التبليغ والشكوى بشأن أي مخالفة من أي موظف أو هيئة عامة في تنفيذها لسياسة القانون فيما أوكل إليه أو إليها من مهام؟!
    إن مثل هذا التنظيم القانوني يلغي تماماً فكرة شخصنة الحكم حيث لا يمثل الأشخاص من رئيس الدولة إلى رئيس الهيئة أو المؤسسة إلا مجرد رموز لا يستقلون بالأمر لا بشخوصهم ولا بدرجاتهم ومراتبهم الوظيفية مثل رئيس الدائرة القضائية فإنه لا يصدر الحكم برأيه وحده وإنما بأغلبية أعضاء الدائرة وقد يكون رأيه مخالفاً لرأي الأغلبية.
    وعليه فإن رئيس الدولة أو الوزراء هم مجرد موظفين عموميين يعينون وفق المؤهلات والشروط القانونية من قِبل الجهات المفوضة بالقانون على اختيارهم مع خضوعها هي ذاتها للرقابة من جهات الرقابة عليها وهي المواطن والجهات الرقابية الإدارية والقضائية.
    وعليه فإن هذا النظام القانوني للحكم يخلصنا تماماً من تركة الأحزاب الطائفية والعقائدية الدينية والمذهبية السياسية، التي ما أفلحت يوماً في إقامة وتطبيق الديمقراطية حتى داخل كيانها كما أن هذا نظام لا يقر الأغلبية في أي تصرف من أي جهة مخولة لمجرد كونه صدر بأغلبية ولكن لابد من موافقة رأيها أو عملها مع القانون تحت رقابة الجهات الرقابية المذكورة.
    وبهذا، فإن هذا النظام ليس فيه أي مجال للسياسة والسياسيين، حيث ينقسم الشعب كله إلى قسمين فقط، إما موظفيين عموميين، مدنيين وعسكريين، أو مواطنين عاديين يعملون في قطاعاتهم الخاصة والفردية أو يتعلمون في المدارس والجامعات. فلا حاجة للسياسة، حيث كل السياسات مقننة وموجهة نحو التنمية ورفاهية الشعب ورفع سمعة السودان بين الأمم، وليس فيها مقاصد للأطماع الخارجية ولا مجال فيها لتكوين الامبراطوريات الخاصة بسرقة مال الدولة والشعب لا من خلال الوظيفة العمومية ولا من خلال السياسة الحزبية.

  3. تلك أمثلة قليلة (للخرمجة) التي أحدثها قرار إخضاع جميع الهيئات لقانون واحد هو قانون الهيئات عوضاً عن قوانينها المستقلة التي أجزم أنها ما كانت ترفض البتة ولاية وزارة المالية على المال العام.
    …………….
    لماذا لم تقدم استقالتك ؟؟ اصبحت الان ضمن مجموعة والتى شاركت فى الخرمجة كما تقول

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..