أَمِيرَةُ دَوَاخِلي

. – –[ أَمِيرَةُ دَوَاخِلي ] – —–
– عَشِقْتُها مُنْذ أنْ كُنَّا طِفْلَيْن.. . نَعْبَثُ بالجليلِ من الوجودِ وبالحقير ., بالقِطَّةِ البيضاءِ ، بالشَّاةِ الوَديعَةِ ،بالحَمِير.. بالرَّمْلِ ، بالصَخْرِ المُحَطَّمِ .. بالعُشْبِ ، بالفَنَنِ المُنَوِّرِ بالسَنابِلِ . . بالجداوِلِ ، بالغَدِير . …. ..
. أَوَّاهُ, قد ضاعت عَلَيَّ سعادةُ القلبِ الغَرِير
وبَقِيْتُ في وادِي الحياةِ الجَهْمِ , أدْأَبُ في المَسِير
وأدُوسُ أشْواكَ الحياةِ بِقلْبِيَ الدَّامِي الكَسِير
وأرى الأباطيلَ الكثيرةَ والمآتِمَ والشُرُور
وتصادُمَ الأهْواءِ بالأهْواءِ في كُلِّ الأُمُور
ومَذَلَّةَ الحَقِّ الضعيفِ وعِزَّةَ الظُلْمِ القَدِير
.
= لا أنام . جَمْرٌ في قلبي لا يترُك المجال للنوم.ولكني ظَفَرْتُ بغفْوَةٍ قصيرة مع قبس الفجر.فرأيْتُ فيما يَرَى النائم أنَّي محبوسٌ في الداخل., دون أنْ أعرف من أين دخلْتُ. . داخل غُرْفة مُدَوَّرة مطلوبٌ مني أنْ أجلس في رُكُنٍ فيها.إنَّها حَيْرَة تُوشِك أنْ تنقلب فَرْحةً لو أنَّي وجدْتُ رُكْناً في الغُرْفَة المُدَوَّرة.
الغُرْفَة مُظْلِمة كئيبة. مُشَيَّدة بالطين.مسقوف بجذوع النخيل.فوق الجذوع طُرِحَت طبقة من السعف.فوق السعف طُرِح الطين المخلوط بالتراب.هذه الغُرْفَة مهجورة وبلا نوافذ أو أبْواب.ظللتُ أدور فيها باحثاً عن رُكْن أجلس فيه كما هُوَ مطلوبٌ مني.الأرض تحت قدمي تميد وتتزلزل.فأُسْرِعُ في الدوران محبوس الأنفاس. أخشى السقوط. أحِسَّ بوجود كائنٍ مجهول .. ها هُوَ إنّهُ يظهر شيئاً فشيئاً.! .. إلهي.! . يا رَبَّ السماء.! . إنَّها أَمِيرَةُ دَوَاخِلي .. معها كائِنٌ آخَر. مجهول.بدأت ملامِحُه تتضح شيئاً فشيئاً. إنّهُ رَجُل. . تَذَكَّرْتُ أنَّهُ صَلَّى بنا ذاتَ ظُهْر , فأعِدْتُ الصلاة .فشرب من جَرَّةٍ حملها بكلتا يَدَيْه كأنَّهُ لم يشرب منذ مائةِ عام. , ثُمَّ تَبَخَّر مِنْ أمامي..
جاءت هذه المَرَّة في أسْوأ حال. لم أرَها بهذه الحالة قبل اليوم. لقد ضَمُرَت حتى برزت أضلاعُها.وغارت عيناها في مِحْجَرَيْها فبدتا في الظلام أشْبَه شئٍ بثُقْبَيْن مُظْلِميَن .وتحْمِلُ طفلاً يَمُصُّ ثَدْيَها الأشْبَه بالجلد الجاف.
هَزَزْتُ رأسي ، ونصَبْتُ قامَتي ، واستجْمَعْتُ قُوَّتِي ومَضَيْتُ رأساً نحوَها كالشبح في الظلامِ الساكن.. وما أنْ اقْتَرَبْتُ منها حتى خَفَقَ قلبي بوتيرةٍ أعلى إلى الحَد الذي عَجِزْتُ معه عن مغالبةِ البُكاء..!. لم أُصَدِّق أنني أبكي.أو يمكن أنْ أبكي في يومٍ من الأيَّام. . أنا الذي تراهَنْتُ, ونَحْنُ أطفال, مع محمد ميرغني.أيُّنا يصمد أطول مُدَّة وهو يمسك بجمرة موقدة.ففاحت رائحةُ الشَيَّة من يدي دون أنْ أتخلَّى عن قطعة النار حتى انهار محمد وألقى بقطعته وهُوَ يصيح.
– وعبَّرْتُ لها عن مَوَدَّةٍ خاصَّة , ورثاءٍ خاص لشيخوختها المُبَكِّرة.لقد شَاخَتْ وما في رأسي خَيْطٌ أبيضٌ واحد.ولذلك قَدَّمْتُ لها عزاءً لا يستطيعُ تقديمه إلا من تَعِسَ وشَقِيَ وأُرْهِق وتألَّمَ قلْبُه وتضَرَّجَت روحُه بالدمِ والدُمُوع في هذه الحياة.
ومع فَيْض الألم استيقظت في النفس ذكرياتٌ نائِمة من زمان الطفولة. فإذا هِيَ تتدفَّق بضياءٍ مُشْرِق.قبلَ أنْ نُولَد ،قبل أنْ نكون نُطْفَتَيْن في رَحِمِ أُمّي وأُمِّها., قبل أنْ نكون خاطرة في قلب أبي وأبيها.قبل أنْ نكون رغبة سيطرت على الجسد.
عندما كُنَّا وَعْداً للحياة , قَمْحاً وتَمَنِّي, صَوْتاً للريح , صدىً للأُغْنيات , نَواح طنبور في عِزَّ الليل بين أنامل ماهِرة.عندما كُنَّا زغرودة حُورِيَّةٍ في الفِرْدوس. , نَغَمات إله لقلْبٍ حزين في ظُلْمة غُرْفة مُدَوَّرة مَبْنِيَّةٍ بالطِّين.
“شُكْرِي”
* الأبيات الشعرية في صدر النَص ; من الجَنَّة الضائعة. لأبي القاسم الشابي.. بتصرُّف.