فجيعة..علبة البرنجي ونسخة صحيفة الأيام

ضحك عمي الراحل محمد صالح كثيراً عندما تخوف أحدهم من منصرفات الزواج التي تفاجئ العريس أيام المراسم. فهو حسب روايته، بعد أن دفع المهر لزواج بنت خاله فريال وقصد قريته لإتمام المراسم، لم يكن يملك حتى ثمن تذكرة عودته. فقد كان موظفاً في بداية السلم. لكن كل المراسم ، تمت بأفضل حال.رغم أن وجود دفتر يحتوي كشف المساهمين قرب سرادق الوليمة ،لم يكن معروفاً .ببساطة ، لأن السرادق نفسها، لم تكن لها حاجة، فعقد القران، يتم بعد وجبة العشاء الكثيفة الحضور على ضوء (الرتائن ). بعد صلاة العشاء مباشرة !ربما يأتيك توهم بأن والد العروس كان ثرياً ذا مال .رجاءً ، أطرد عن ذهنك هذا الخاطر. ولا بد أن سؤالاً عن كيفية تغطية نفقات الطباخ والجزار قد طاف بخاطرك. لا تتعب ذهنك . فالتهجير من وادي حلفا بعد بناء السد العالي ، قد صعب عودة معظم من عملوا سفرجية وطباخين في مصر سنين طويلة . والعرس وحفلاته، مناسبة ينتظرها الجميع في ظل انعدام وسائل الترفيه. حتى أن متذيل الترتيب في امتحانات صفنا، لم يكن يجيد سوى كتابة كلمتين نوبيتين بالحروف العربية ، وهما ( بَلي ، وكري) وتعنيان العرس والعيد على التوالي!في ليلة الحنة يتم (الجرتق) حيث تغني النسوة بخصال العريس ونسبه ، ويسعد الجميع بدفع ما تيسر من نقود قليلة، سعداء بذلك أيما سعادة وسط تعالي زغاريد النسوة . خاصة إن كان المساهم من أقرباء العريس وخلص أصدقائه. أما الحفلات، فلا تحتاج إلى مكبر صوت. فكانت الدفوف الثلاثة وصوت المغني ،وساحة مفتوحة ، كافية لإشاعة الطرب والرقص لكل الحضور الذي يتراص صفوفاً متقابلة من الجنسين . وقد لا يطلب المغني أجراً ، إلا إذا كان محترفاً.لكنه لا يتعاقد بمبلغ. فتقدير ذلك متروك للظروف. وهنالك متطوعون لتجهيز المشروب للفنان !وقد يطلبون من وكيل العريس المساهمة. فهم من سيتسيدون الساحة، وبعضهم يصبح مثاراً للسخرية ، لإفراطهم في الشراب.
صباح يوم العرس، مسرح طقوسي متكامل ومتزامن. البعض ، عليه مهمة ذبح العجل، النسوة تتعالى زغاريدهن وهن ينشدن مدائح بالنوبية، تتعالى الزغاريد أكثر ، إن رش العريس عليهن بعض الكولونيا! كبار السن من الرجال، يجلسون على الحصر الطويلة.يقومون بتقشير البصل. يجترون ذكرياتهم في مصر، والمقامات القديمة تبقى محفوظة. فمن كان طباخاً ، هو من سيترأس الموقف،ومن كان دون ذلك، عليه بتقشير جوال من البصل، ولم يكن يسمح لنا بالاقتراب ، فالبصل ، ينبغي أن يقطع (ترنشات) وقد نفسد ذلك بجهلنا!! كانت أطباق الفشار المصنوع من الذرة الرفيعة التي لا تصنعه إلا النسوة النوبيات ،والحلوى ،توضع أمام كل مجموعة. وتستجلب حلل القيزان النحاسية الضخمة ، ذات المقابض الكبيرة، من أناس يمتلكونها. طبق الفاصوليا كان الأساس.مع الملوخية وسلطة ( الباباغنوج)! معظم البصل ، سيحمر في الزيت حتى ينقلب اللون إلى البني الداكن. لذلك ، كانت الرائحة النفاذة لهذه (القلية ) تبقى في أيادينا وتجشؤنا حتى اليوم التالي!
كل هذه التفاصيل، لم تختف في زواج محمد صالح . وفريال، كانت محظوظة في الزواج من الأفندي الوسيم الذي سيأخذها إلى الخرطوم حيث يعمل. وهو كان محظوظاً بابنة خاله البادية الجمال التي تربت مستورة الحال ، فلم يكن غريباً أن تشاركه طوال الزوجية، مهارة العيش بالراتب القليل، واستقبال الضيوف بالبشر والترحاب والجود بالموجود.متنقلين بين بيوت الإيجار ، كلما طمع صاحب منزل باجرة أكبر.لم ينه بيت الإسكان الشعبي المعاناة والمكابدة . وإن أراحه من ملاك البيوت. لكنه ظل يعمل على تحسينه طوال حياته .رزقا بالبنين والبنات كغيرهما.لكن ابنهم البكر، الذي كانوا يحيطونه بكل الحب ،كان أول مأساتهم. فقد قضى نحبه في الجنوب الذي لم يذهب إليه مجاهداً . بل محمولاً على الحملات الجائرة للتجنيد الإجباري. ظل عمي مغبوناً من شخص كان في اللجان الحكومية بانه السبب في انتزاعه من البيت دون بقية شباب الحي ، نكاية بيسارية ابيه .ولم تخبرهم الحكومة بموته ، لكن أحد معارفه من الشباب تولى إبلاغهم بذلك . ليتهافت بعض المؤيدين لتحويل حرب الجنوب إلى حرب دينية بتحويل الماتم إلى (عرس شهيد)!!
مع كل هذه الظروف، لم يكن محمد صالح خاملاً ، فهو نشط في إدارة نادي بوهين وفريقه في رابطة المايقوما وفي لجان وجمعيات أخرى والعمل النقابي. لذا كان شديد الإطلاع.ومرجعاً في لوائح الخدمة ،وما بعدها..صديقتان لم تبارحاه طوال حياته، علبة سجائر البرنجي ، ونسخة صحيفة الأيام اليومية. لم يوقفه ضعف السمع والبصر عن المكابدة والمجاملات الاجتماعية.ولا منعه التقاعد بالمعاش عن طلب الرزق الحلال. كان يكرمني بالحلول ضيفاً على، كل البيت أحبه وأطلق عليه لقب الضيف المريح .لأن مطلوباته قليلة . ويتضايق من أي شعور بالتكلف من اجله.، ولا يدخل البيت خالي اليدين مهما أبدينا عدم رضانا. حتى اصيبت فريال بداء السرطان اللعين. تحملت آلام جراحتين والعلاج الكيميائي . في الجراحة الثانية ، كان المرض اللعين قد انتشر في كل جسدها المنهك.فصارت آلامه فوق طاقة صبرها. عندما بدا أن أجلها صار يدنو.زارها وطلب كلُ العفو من الآخر. قرأ في أذنها شيئاً من القرآن ،وتركها ليرعى أحفاده في وجود أبنائه وبناته برفقة أمهم الرؤوم.فعليه شراء الخبز والحليب لعشاء حفدته . لكن سائق عربة التوسان ، لم يكن ليتنازل عن سرعته في الطريق الترابي خلف منزله ليعبره ذلك الثمانيني المكافح من أجل الحياة.والمشتت البال لحال فريال. عندما رنت الهواتف، كان الكل ينتظر خبراً توقعوه بأن فريال قد فارقت الحياة.لكنهم لم يتصوروا وقتها أن علبة البرنجي ونسخة صحيفة الأيام اليومية ، قد فجعتا.أحست فريال بصراخ من كان حولها من هول الخبر، لكن ما بها، لم يكن ليمكنها من البكاء على زوجها . لاحقاً وفي صوت خفيض ، تأوهت قائلة (ألن تدفنوني جواره ؟ )دفن ليلاً. ونزعت سرادق العزاء عند غروب اليوم التالي وسط ذهول لم يغادر كل المعزين.قبل أن أدخل البيت الذي حللت به،رن الهاتف . إبن شقيقتي بدر الدين، يستعجلنا لآن فريال فد تاخرت حالتها، عند ذهابنا مسرعين ، كانت حالتها تتاخر، لكن أنينها كان متواصلاً ..بدأ الأنين يخفت، وحاول تيم العناية الوسيطة ما بوسعه بإخلاص . لكن كل شئ كان قد انتهى. رحلت الآلام عنها. وعاد الوجه الجميل الهادئ لفريال، رغم الموت الذي أرخى بسدوله.وأعيد نصب سرادق العزاء التي لم تُعَد إلى مخزنها بعد.وطوى الزمان قصة زوجين مكافحين جميلين.
معمر حسن محمد نور
[email][email protected][/email]