أخبار السودان

حين أصبح الشبيه رئيسا للجمهورية!

اكتفى بالسلام علينا من على البعد بإشارة من يده دون اهتمام، قبل أن يواصل سحب دخان الشيشة وإغراق المكان حوله في سُحب الدُخان، كان يبدو حين يتبدد الدخان من حوله لحظات الشهيق: مثل ثور يحترق، لحظة وصولنا كان هناك هجوم من المتمردين على أحد أطراف المدينة، لكنه لم يبد اهتماماً كبيراً بعجلة زملائه الضباط، الذين ارتدى بعضهم ملابسه بسرعة وغادر البيت، استأنف لامبالاته الطبيعية الهادئة التي كان واضحا أنه معتاد عليها، حتى حين ينهار العالم كله من حوله، سيبدو مثل شخص سعيد، لا تقع أية مصيبة كونية ضمن دائرة مسئوليته أو اهتمامه، يستمد سعادته من معين داخلي لا علاقة له بتعقيدات الحياة في العالم خارج حدود جسده.
قال له أحد زملائه الضبّاط: هل ستخرج معنا؟
ردّ بدون اهتمام وهو ينفض الرماد من حبّات الفحم: هل نسيت؟ اليوم يوم عطلتي!!
ضحك زميله وقال: لا توجد عطلات في الحرب، هل نخبر المتمردين بعدم شن الحرب أيام عطلة سعادة العميد؟
قال بدون اهتمام وبرنة صوت آلية: لا تخبرهم بشيء، اذهب وحاربهم ما دمت لا تستطيع الحصول على عطلة من الموت.
دفن السيد العميد لامبالاته في الدخّان، بدأت العمل فوراً: حاولت أن أرى رد فعله على تعليق زميله، لحسن الحظ انقشعت سحب الدخان من حوله، فرأيت صفحة وجهه التي تحولت بفعل إدمان اللامبالاة إلى قطعة حجر، تخيلت للحظة أنه لولا صوت قرقرة الشيشة وسُحب الدخان لأصبح امتدادا بشريا للجدار. .
بدأنا العمل فوراً، طلب منه زميلي سراج سيجارة، سحب صندوقا من جيبه وألقى به في اتجاهنا، لم تبد عليه السعادة لوجودنا، لكن لا مبالاته كانت تطغى على أية شعور بالضيق لوجود غرباء، أخيراً وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع الرئيس القادم! مع العميد: حسن عبد الرحمن النور!
سيبدو أفضل كما لاحظ زميلي سراج لوظيفة كبير الياوران، يقف بجانب الرئيس ليبتسم نيابة عنه، وحين يتسلم السيد الرئيس باقات الورد أو بعض الهدايا التذكارية، يقوم هو بتسلم الهدايا من السيد الرئيس، ليس من الحكمة أو البروتوكول أن يبق السيد الرئيس طوال اليوم يحمل باقة ورد، أو صندوقاً صغيراً محشواً بقطع الشوكولاتة البلجيكية، كما يرسله السيد الرئيس لينوب عنه في بعض الاحتفالات الصغيرة التي لا تستحق من أجلها إقلاق راحة الحرس الرئاسي.
لم يشعر سراج ومنذ اللحظة الأولى بالارتياح تجاه الرئيس القادم، كأنه شعر أن الرجل سيكون سببا بعد أسابيع قليلة في موته.
قال سراج هامساً: لا يصلح رئيساً، يصلح شبيهاً للرئيس، يحضر نيابة عنه الاحتفالات أو المناسبات التي يكون فيها تهديد أمني على حياة رأس الدولة، فيتلقى طلقات المتمردين نيابة عن السيد الرئيس، ثم ضحك سراج وأعلن: لقد عثرنا على الشبيه بقي فقط أن نعثر على رئيس يشبهه! هل تعتقد أنّ ضابط جيش يخلع بدلته العسكرية كل مساء ويتحول الى شيخ يعالج المرضى بالحب! يمكن أن يصلح رئيسا؟ كرّر سراج العبارة كأنه يريد إقناعي بفكرته: عليك إبلاغ حزبك فورا، لقد أنجزنا الجزء الصعب من المهمة، عثرنا على شبيه الرئيس، عليهم الان فقط البحث عن رئيس يشبه الشبيه!
اعتقدت انه يمزح رغم انني شعرت أنه يخفي شيئا ما، قلت: ولماذا ينزع ملابسه العسكرية ويتحول الى شيخ؟ هل يحتاج الى دخل إضافي؟
ضحك سراج وقال: لا يحتاج الى المال، يحتاج أكثر للحب!
سراج كعادته تحرّك بسرعة، حين توقفنا لشرب القهوة في مقهى قريب من بيت ضباط الجيش، وحتى نجد شخصا يصف لنا الطريق الى البيت. تركني سراج وذهب ليجلس مع بعض اللاجئين الأثيوبيين، في المساء باح لي بالسر الرهيب: السيد العميد لديه عمل إضافي في أيام الجمعة و العطلات الرسمية! حسبته يمزح، أوضح لي: يتحوّل إلى شيخ يعالج بالسحر! يشرب برميلاً من الخمر أثناء أيام الأسبوع وحين ينتهي الأسبوع يحرز توبة مؤقتة من الخمر ويرتدي ملابس شيخ، ضحك وقال: لا بد انه مثل ذلك الشيخ الذي كان يشرب الخمور سراً، وحتى لا يعرف مرافقيه من الحيران بأمره كان يضع الخمر في إبريق الماء الذي يستخدمه للوضوء، ذات مرة هجم أحد المريدين على الإبريق حتى يأخذ البركة من بقايا مياه وضوء الشيخ، حاول الشيخ انتزاع الإبريق الملئ بالخمر من المريد الذي اختطف الابريق وفرّ هاربا، وحين لم يفلح صرخ فيه محققاً المعجزة السهلة: إنشاء الله الماء يتحول إلى خمر أيها النجس اللزج!!
لديه عيادة مخصصة للاجئين، يقوم بطرد الشياطين مستخدما أفضل علاج لطرد الشيطان: الموسيقى والحب! يستخدم أسلحته بفعالية لطرد الشيطان من الجسد، حين يستسلم الشيطان لسحر تخدير الموسيقى، يمسك به من عنقه ويسحبه خارج الجسد! فتستعيد المريضة الجميلة عافيتها، لا يعالج النساء غير الجميلات أو المسنات، حين لا تثير المريضة إعجابه يعلن لمرافقيها أنّ الاوان قد فات على علاجها وينصح بنقلها للمستشفى!
بدأنا العمل فوراً لكتابة التقرير، لم نخبر أحداً أننا حضرنا خصيصاً لرؤيته بعد أن رشّحه بعض معارفه داخل حزبنا الذي كان يدبّر للقيام بانقلاب عسكري، ليكون هو الرئيس القادم. كان الحزب بحاجة لعسكري في المرحلة الأولى حتى يتمكن من مفاصل الدولة، وحتى يعطي الانطباع داخلياً وخارجيا إنّ التغيير الذي سيحدث هو مجرد انقلاب عسكري، مثله مثل عشرات الانقلابات العسكرية التي تحدث كل عام من حولنا، كانت وجهة نظر المعارف والأقارب الذين رشّحوه للمهمة، تعتمد على معرفتهم لشخصيته، أنه لا يملك طموحا للقيادة ولا حتى لقيادة مركب شراعي، وإنه لولا أن والده دفعه دفعا للدخول للكلية الحربية لم يكن يطمح سوى أن يصبح سائقا لإحدى البصات السفرية، كان يحب السفر وتثير فيه أصوات العربات التي تنطلق من المدينة كل صباح لتبتلعها الصحراء، شعورا بحنين جارف للحرية ولحياة صاخبة لا تقيدها قيود، حين دفعه والده للدخول إلى الكلية الحربية لم يهتم كثيراً لتغيير قدره، فإحدى فضائله القليلة أنه كان لا يكترث كثيراً، إذا حدث تغيير ما في حياته، لم يكن يتوقف ليسأل لم حدث ذلك، كان يكتفي بتغيير إتجاه شراع مركبه باتجاه الرياح التي تهب في تلك اللحظة أيا كانت جهة هبوبها!
حين طرقنا باب البيت فتح لنا أحد الضبّاط الباب، كان شاباً لطيفاً، باسم الوجه، متوسط الطول يضع نظارة طبية تكاد تغطي وجهه النحيل كله، يبدو انه وصل إلى البيت قبل حضورنا مباشرة أو كان على وشك الخروج، فقد كان لا يزال يرتدي ملابسه العسكرية.
عرّفنا باسمه : النقيب عبدالله ، سألته عن اسم الشخص الوحيد الذي أعرفه وكان يعمل مع الجيش قبل سنوات، لم يتعرّف عليه، شرحنا أننا حضرنا في مهمة صحفية لتغطية أحوال المدينة في ظل الحرب وكتابة تحقيق عن النازحين وضحايا الحرب الأهلية، وقد سمعت أن أحد زملاء طفولتي يعمل أيضاً مع نفس حامية الجيش فرغبت في أن أراه.
نجحت خطتنا فقد أصرّ الضابط حين عرف أننا حضرنا من العاصمة على أن ندخل، بل وأن نبقى معهم لحين إنتهاء مهمتنا، قال لنا أن فنادق المدينة التي دمّرتها الحرب الأهلية غير نظيفة، تتقاسم فئرانها الغرف والطعام مع النزلاء، معظم الغرف لا يتم تركيب سلك النملية في شبابيكها ولا توجد مراوح سقف تخفف من القيظ وهجمات البعوض، كما أنّ خدماتها سيئة وغير آمنة أيضاً، بسبب وجود أعداد هائلة من النازحين واللاجئين من حروب أخرى على امتداد القارة، ويمكننا أن نبق معهم ما دامت زيارتنا قصيرة.
لم نقل أننا حضرنا خصيصاً لنرى العميد حسن عبد الرحمن، ونرى كيف يعيش وكيف يفكر، وماهي طموحاته في الحياة، وكيف يتعامل مع الناس من حوله، لنكتب تقريراً نوضح فيه رؤيتنا إن كان الرجل سيصلح ليكون الرئيس القادم، مفروض أن التقرير الذي سنكتبه عنه سيكون حاسماً في تحديد مصيره، هل سيقضي بقية عمره في هذه البلدة الغارقة في الألغام، يزيح لغماً من طريقه ويجلس للعب الورق، ويطارد اللاجئات الأثيوبيات في ليالي الخريف حين تخف حدة الحرب، أم سيذهب إلى القصر رئيساً.
في البداية لم نر شيئاً يستحق تسجيله، كان المكان غارقا في دخان الشيشة و السجائر الرخيصة، وكان هو شخصياً ، يضع أمامه على طاولة اللعب جوالاً صغيراً من التبغ المحلي، لصناعة السجائر لم يكن يستخدم ورق اللف الرقيق، بل ورق عادي من النوع المستخدم مع ماكينات التصوير، كان صعباً علينا في البداية أن نصدق أننا في حضرة الرئيس القادم، لا ينقصه سوى عصا ضخمة يمسكها بيديه خلف ظهره ليبدو مثل تاجر مواشي في أحد أسواق المواشي البعيدة ، كان يرتدي جلباباً ضخماً ويضع على رأسه الضخم طاقية متسخة يقارب حجمها حجم إطار سيارة من النوع الصغير.
يبدو محشوراً في جسده، كأنّ شخصا آخر يشاركه نفس الجسد، رغم ضخامته، لكنه يعطي انطباعا أنّ حجمه الحقيقي أكبر كثيراً من حجم جسده، عيونه الواسعة لا يرهقها بالنظر إلى أبعد من ورق الكوتشينة الذي يحمله بين يديه ويخفيه داخل حجره، حين جلست بجانبه، أحاول اختلاس النظر إلى الأوراق التي يحملها، إكتشفت بسرعة أنه سرق الجوكر! لم يبذل أية جهد لتمويه السرقة فيما أجلس بجانبه، واضح أنه لم يكن يعطي وجود مدني بجانبه أية نوع من الاهتمام!
يا للكارثة هل سيصبح لص الكوتشينة رئيسا للجمهورية؟!
بدأت العمل فوراً، كان السؤال الأول: هل يُصلي؟ وكيف يصلي؟ وهل يؤدي الصلاة في مواعيدها؟
سمعنا بعد قليل صوت مؤذن بعيد يؤذن لصلاة المغرب، كان الصوت بعيداً تتخلله أصوات الريح التي تعبر فوق أشجار الهشاب، وضوضاء أصوات اللاجئين في المقاهي، وصوت صفارة قطار أو باخرة نهرية تعبر النهر الغارقة ضفتيه في وهج المغيب. يبدو صوت المؤذن كأنه يتسرب من وطن آخر، لا علاقة له بضجيج المدينة الذي بدأ يتصاعد مع حلول الظلام، كأنّ المدينة التي تقضي سحابة نهارها على وقع الرصاص، تنتهز فرصة هدنة الحرب ليلا لتستأنف الحياة.
لاحظنا تحرّك بعض الضباط لأداء الصلاة في غرفهم بينما بقي البعض في أماكنهم ومن ضمنهم رجلنا نفسه، قلت ربما لم يسمع الأذان، طلبت من الضابط الذي فتح لنا الباب أن يحضر لنا سجّادة لأداء الصلاة، أشار لي إلى مكان المرحاض في ركن الفناء.
توضأت من برميل ماء صغير موضوع بجانب حوض حنفية الماء، بسبب انقطاع المياه كثيراً يُملأ البرميل الصغير بالماء لغسل الأيدي أو الوضوء. أدينا الصلاة أنا وسراج في الفناء، أثناء أداء الصلاة دفعني أحدهم لأقف في المقدمة، اعتقدت انه ربما سيكون رجلنا ، لكن بعد نهاية الصلاة اكتشفت أن النقيب عبدالله هو الذي انضم للصلاة بينما بقي رجلنا في مكانه.
يا للكارثة تنظيم إسلامي متشدد يستولي على السلطة، ويتقدم صفوفه ليصبح رئيساً، رجل لا يصلي!
أحضر الضابط الذي استقبلنا كوبين من الشاي، وحاول أن يخفّف فتور استقبال بقية الضباط المشغولين في عراك لعب الورق وتدخين السجائر الرخيصة وشرب خمر المريسة المحلية. سألنا كيف يسير عملنا، لم نذكر له بالطبع أننا بدأنا عملنا في تلك اللحظة بالذات. وأنّ الجوكر المسروق هو أول خطوة في التقرير المطول الذي سنكتبه، كان سراج لا يزال يعلّق الكاميرا حول صدره، وكان ذلك كافيا لإقناع كل من يتشكك حول مهمتنا الصحفية. والحقيقة أن الضباط المنشغلين بمعركة المساء لم يكن ليولوا أية مدني كثير من الاهتمام أو التدقيق، سواء ذهب المدني في مهمة أو بقى في البيت فلن يمكن ملاحظة أية فرق! هكذا صرّح الرجل بعد أن لعبت الخمر برأسه الضخم، لم أصدّق في البداية أن الخمر يمكن أن تلعب برأس بمثل تلك الضخامة.
حين غرق الجميع بعد قليل في مقاعدهم من فرط السكر ولم يعد بمقدور أحدهم ولا حتى إلقاء الورقة حين يحين دوره في اللعب، واصل هو اللعب وسرقة الورق وكأنه كان يشرب ماء ويشرب زملائه خمراً. ومع تقدم الليل لم يعد يهتم بالسرقة بحذر، كان يمد يده ويقتلع الورق حتى من يد زملائه السكارى ، فقد أصبحت حلبة اللعب والشراب مسرحاً له كممثل واحد. جمع حصيلة ما كسبه ووضعه في جيبه، ثم نظر إلينا كأنه يرانا للمرة الأولى، لا أدري لم خطر لي أنه عرف بمهمتنا و سبب وجودنا في تلك اللحظة ، لكن ذلك لم يدم سوى ثانية واحدة استعاد بعدها لا مبالاته..
بعد العشاء بدأ دخان المعارك ينجلي في المكان، اختفى العميد حسن عبد الرحمن في غرفته ، عرفنا أنه الوحيد الذي يسكن في غرفة لوحده بسبب شخيره الشبيه بشخير فيل مسن، اقترح النقيب عبدالله أن يخلي لنا الغرفة التي يتقاسمها مع ضابط آخر لكننا رفضنا بشدة وفضّلنا النوم في صالة البيت، كان هناك سريران من الحديد في جانب الصالة يبدو أنهما معدان للضيوف، أحضر لنا النقيب عبدالله أغطية قطنية خفيفة، وأوضح لنا أنّ مروحة السقف التي تخفف من هجوم البعوض تتوقف أحيانا بسبب انقطاع الكهرباء فيفضل أن نستخدم الأغطية الخفيفة رغم حرارة الجو لنحمي أجسادنا من لسعات البعوض.
فصل من رواية جديدة

لزيارة صفحتي:
[url]https://www.facebook.com/ortoot?ref=aymt_homepage_panel[/url] [email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..