حالة (تحنن)?

فيض وانحسار
الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحاً وصفوف المواطنين على أرصفة الطرق تمتد إلى أبعد أفق، يمدون أعناقهم إلى نهاية الشارع أملاً في أن يأتي (باص والي طاير ومشمع ومليان لما مدفق) أو حافلة (كركعوبة قديمة ومهلهلة) قادمة على مهلها ليجدوا لهم موطئ قدم فيها، بينما تمر الفارهات ذات الزجاج المظلل مسرعة تقل حضرات المسؤولين متسابقين نحو وزاراتهم فإذا رأيت فارهاتهم مسرعة لحسبتهم (جاريين لكي ينجزوا عملاً يفيد هذا الموطن المشرور في الشمس ذي زريعة رمضان) لا يتمهلون ليروا أحوال الناس ويسألوهم عن حالهم أو يقلوهم على متن سيارتهم على غرار فقه (فضل الظهر) ولكن هيهات المسؤول يسرع ليصل إلى مكتبه المكندش ثم يخرج جواله الفخم ليتصفح الواتساب ويدخل إلى قروبات ويطالع التعليقات هنا وهناك، ثم يكتفي بالقهقهة ثم يعود في المساء إلى منزله الفخم وينام ملء جفونه غير مهتم لأصوات المواطن الذي يستغيث ليل نهار.
وفي تمام الثامنة مساء ترى مواقف المواصلات خاوية على عروشها، وقد خر المواطن من شدة التعب وجلس على الأرصفة في انتظار فرج ما ولكن لا وجود لمركبات عامة بينما يستعرض أصحاب (الامجادات) مهاراتهم القيادية وإن عشم مواطن في مشوار خاص يذهب إلى سائق الامجاد (يجرجر قدميه المثقلتين) بينما يتحسس جيبه (الفارغ سوى من عدة جنيهات) ليسأل السائق (اسمعني المشوار بكم) فيرد السائق بعد أن يتكئ على كرسي القيادة مستريحاً للخلف (المشوار بـ 150 ج) يرد المواطن المفجوع مهجوماً قلت شنو؟ ليه 150 ج أنا ماشي وين أصلو، يرد صاحب الأمجاد والله انت حر عايز تمشي مرحب ما عايز اطلب الله، يقنع المواطن المسكين ثم ينسحب بهدوء وهو يتمتم بعبارات خالية من المضمون والغصة تطعن في الحلق، ثم يعاود الجلوس على الرصيف في انتظار فرج ما، هذه هي الصورة المقربة هذه الأيام التي تعكس معاناة المواطن محدود الدخل مع أزمة المواصلات التي وصلت إلى درجة لا تحتمل.
إن أكثر ما يحرج هذا الشعب أنه وصل إلى درجة فقد فيها القدرة على التعبير من شدة الاحتقان، فاصبحنا نشاهد كثير من المغلوبين على أمرهم يحدثون أنفسهم أثناء سيرهم في الطرقات فقد جنّ جنونهم، فالشعب السوداني قاب قوسين أو أدنى من دخول تاريخ الكوارث العجيبة فمن المتوقع أن نسجل اغرب حالة من نوعها في التاريخ (شعب يجن بسبب حكومته) التي لم تترك له عقلاً ليستوعب ما يجري من حوله، فقد أصبح مفجوعاً ومصدوماً لدرجة فقده للمنطق والتعبير فلم يهتف ولم يطف الطرقات مندداً بالأوضاع المأساوية التي وصل إليها مكتفياً بالصمت المريب حتى ظنت الحكومة نفسها بأن سكاته علامة رضى فمضت في سياساتها الهدامة حتى أوصلته لقاع الاحتضار إنها حقاً حالة (تحنن)..
الجريدة