من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (9)

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في المقالات السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقة السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ،ونحاول أن نربط ذلك (بتواجد الانسان) بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). كل تلك الفترات كان (سكان وادي النيل) يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف (جغرافيا) حتى ذلك الوقت (ارض) تسمى مصر (هبة النيل)، أو( شعب يسمى بالمصريين !!!!).
الأنيال الأولى بمصر
يرجع تكوين (مجرى النيل في مصر) من خانق إلى نهر متدرج ومتوازن إلى (حادث فريد) حدث منذ حوالي 6 إلى 7ملايين سنة عندما (إنقطع) إتصال البحر الأبيض المتوسط بالمحيط نتيجة انسداد فتحة بوغاز جبل طارق (عصر الميوسين) نتيجة (حركات أرضية) فصلت البحر عن المحيط الأطلنطي. بدأت مياه البحر في (التبخر) وملوحتها في الإزدياد، نظراً لوقوعها في إقليم دافئ لا تصله أمطار غزيرة. في ظروف عدة آلاف من السنين (تعري قاع البحر) بعد أن تغطي بطبقة سميكة من (الأملاح) التي أخذت تتراكم فوق القاع عاماً بعد عام، حتى بلغ سمكها عدة آلاف من الأمتار .
كان لهذا الحدث تأثير كبير على الأراضي المجاورة ومنها ما يعرف بمصر الأن. فقد سبب ذلك الإنخفاض (تعميق مجاري الأنهار) التي كانت تصب في البحر حتى تتواءم وهذا الإنخفاض. كان لتصاعد بخار الماء من سطح البحر خلال الحدث أثره في (زيادة الأمطار على سطح مصر) التي لم تظهر للوجود جغرافيا الا بعد هذا الحدث، وقد سببت هذه الأمطار بناء (شبكة تصريف) فوق هذه الجبال الشرقية التقت كلها في حوض يقع بين هذه (الجبال وهضبة الصحراء الغربية) لتكوين (النيل الأول) أو ما سمي بنهر (فجر النيل ، أي أيونيل). في هذه الفترة مولت وديان الصحراء الشرقية فجر النيل بمياهه ورواسبه، أما الروافد التي كانت تغذي النهر من (ناحية الغرب) فقد دفنت بالرمال في عصور الجفاف وأختفت مجاريها . من المحتمل أن العديد من منخفضات الصحراء الغربية الكبيرة (كمنخفض القطارة أو الواحات) تمثل بقايا المجاري الأساسية لشبكة تصريف هذه الصحراء. من هذه الوصلات رافد (توشكا) الذي إكتشف حديثاً في صحراء النوبة ،وكان يصل فيما بين منخفضات الواحات (الخارجة والداخلة) والنيل.
وقد كان للهبوط التدريجي لمنسوب البحر الأبيض المتوسط الحدث السابق أثره على نهر النيل الذي أخذ (يعمق مجراه) ليتواءم وهذا المنسوب الجديد حتى بلغ عمقاً يزيد بكثير من منسوب البحر الحديث. – وعلى هذا فقد كان معدل إنحدار النهر عند نشأته هو 1م / 1.7 كم من المجرى. بالمقارنة بالنهر الحديث الذي يبلغ متوسط انحداره 1م/ 12 كم من المجرى.. ويبدو منحدر مجرى (فجر النيل) والذي يبدو أنه كان مليئاً بالعوائق والاختناقات، فبالإضافة إلى (الشلال العظيم) الذي كان يقع بين (كتلة ) الدلتا الجنوبية و(خليج) الدلتا الشمالية ، فقد كانت هناك شلالات عند (القاهرة) وملوي وجبل السلسلة (إلى الشمال من كوم أمبو) وأماكن كثيرة بالنوبة.
أما الرواسب التي كان يحملها هذا النهر السريع فقد كانت تترسب على شكل مروحة كبيرة (كما هو الحال الأن بدلتا القاش)، عند مصب النهر أو مصبات فروعه التي كانت تنتهي عند الجرف الذي كان يحد (كتلة الدلتا الجنوبية). وقد غطت هذه الرواسب قاع خليج الدلتا الشمالي وعلى أعماق تتراوح بين 3500 و 4000م (متوسط السمك حوالي 700 م) أو قرابة 20% من السمك الكلي لعمود رواسب النيل منذ نشأته وحتى الآن. أكثر رواسب فجر النيل سمكا توجد في (شمال شرق الدلتا). لاشك أن نهر فجر النيل كان (نهراً نشطاً) حمل ما لا يقل عن 7000 كم ³ من الرواسب في مدة 2 مليون سنة ، هي عمر هذا النهر.
بحلول عصر البليوسين منذ 5.4 مليون سنة أخذ الماء يتدفق (فوق) بوغاز جبل طارق فامتلأ البحر مرة أخرى عند امتلائه في خوانق الأنهار التي كانت قد عمقت مجراها عندما كان منسوب البحر منخفضا. وقد أدى دخول البحر المتوسط في مجرى النيل إلى (تحويله إلى خليج بحري طويل) إمتد حتى (أسوان)، كما (أغرق) مساحات كبيرة حول الدلتا.
أما عن الخليج ذاته، فقد كان في أول أمره (بحرياً خالصاً) ،يشكل ذراعاً من البحر الأبيض المتوسط حتى اسوان. ثم ما لبث أن إنقلب إلى جونة صب فيها نهر تكون في (فترة مطيرة) فحول مياهها إلى (نصف مالحة)، ثم (إمتد النهر) فيها إلى أن وصل إلى البحر المتوسط. حمل هذ النهر (نهر النيل القديم) رواسب لم تتغير في تركيبها كثيراً على مدى عمر النهر. عليه فأن منابع هذا النهر لم تتغير كثيراً عبر الزمان، كما أنه لابد أنها كانت مغطاة (بغطاء نباتي كثيف) ساعد في تفتيت التربة التي كونت مصدر رواسب النهر الدقيقة التي حملها النهر في رتابة عبر تاريخه الطويل الذي قد يزيد على 2( مليون سنة) حتى بلغ (سمكها) أكثر من 1 الى 1.5 كم في شمال الدلتا.
وتوجد برواسب (النيل القديم) بقايا حفرية لحيوانات قديمة أثبتت الدراسات المبدئية أنها لا تنتمي إلى مجموعة حيوانات المياه العذبة لمنطقة أفريقيا الوسطى، مما يشير إلى ان النهر لم يتصل بأفريقيا، وأن (منابعه) ربما كانت في (جبال مصر والنوبة). وتوجد رواسب النيل القديم في مجاري عدد من (وديان الصحراء الشرقية) مما يثبت أن هذه الوديان كانت نشطة وقت جريان هذا النهر. أى أن للنيل القديم (منابع محلية).
هذا وقد ملأت رواسب نهري (فجر النيل والباليونيل) وكذلك (رواسب الخليج البحري) الذي تخللهما خانق النيل، وأعطت للنهر تدرجية منتظمة، كما شكلت أكثر من 7% من جملة الرواسب التي حملها النهر منذ نشأته.
وفي مبدأ العصر البليستوسيني ، الذي بدأ منذ ما بين 2 و 1.8 مليون سنة، (توقف الباليونيل) وبدأ في مصر (عصر جفاف شديد) لم يتوقف فيه النهر فقط، بل والأمطار التي كانت تعم أرض مصر على مدار السنة . وبذا أصبحت (مصر صحراء جرداء). وفي هذه الفترة هلكت النباتات التي كانت تغطي سطح مصر وتطايرت التبرة الدقيقة الحبيبات بواسطة الرياح واصبح سطح مصر عارياً إلا من جلاميد الصوان الشديد الصلابة . ت
خلل فترة الجفاف الشديد هذه، والتي ربما زاد طولها على (المليون عام)، فترتان قصيرتان كثرت بهما الأمطار.
? (أولهما) هي التي أدت إلى عودة المياه الجارية إلى نهر النيل لوقت قصير وتسببت في تكوين نهر إحتل مجرى النيل لفترة قصيرة، وهو الذي أسميناه البروتونيل (أو النيل الأول). ويبدو أن هذا النهر كان قوياً قادراً على أن يكسح من السطوح العارية لصحاري مصر والنوبة جلاميد الصوان والرمال الخشنة التي كانت تغطي مصر بعد فترة الجفاف الطويلة في مبدأ البليستوسين. وتوجد رواسب هذ النهر على شكل (مصاطب) على جانبي النهر في هضاب النوبة وحتى البحر الأبيض المتوسط.
? أما (الفترة المطيرة الثانية) فهي تلك التي سببت تكوين (دلتاوات كثيرة )عند مصبات الكثير من وديان (الصحراء الشرقية) التي كانت نشطة خلال هذه الفترة، وفيها كسحت الأمطار رواسب كثيرة ترسبت عند (مصبات الوديان) عند مداخلها إلى النيل. ويبدو أن الأمطار لم تكن من القوة لتشكل (نهراً دائماً) بمجرى النيل. وتقع أهمية هذه الفترة التي سميت (فترة أرمنت المطيرة) في إحتواء رواسبها على (أدوات حجرية صنعها الإنسان)، وهذه الأدوات هي بالقطع أقدم ما تركه الإنسان بأرض مصر.
كان مناخ كل الفترات السابقة مختلفاً عن ذلك الذي يسود أرض مصر اليوم حيث تتساقط الأمطار شتوية فقط. فقد كانت الأمطار خلال الفترات المطيرة التي زامنت (فجر النيل والنيل القديم والنيل الأول) مستمرة طول العام.
وقد حدث تغيير شامل في طبيعة نهر النيل منذ حوالي 800 ألف إلى 700 ألف سنة بوصول (نهر عظيم) إحتل وادي النيل من قلب القارة الأفريقية لأول مرة. وقد صاحب هاذ الإتصال الأفريقي (تغير كامل في مناخ مصر). فقد كان (المناخ )ومنذ نشأة النيل منذ حوالي 7 ملايين سنة وحتى بدء الإتصال الأفريقي (مختلفاً تماماً) عما هو عليه الآن. فقد كان مطيراً بحيث زود النيل بكميات هائلة من الماء في فترات ثلاث لعل أكثرها مطراً كانت تلك التي كونت الباليونيل . وقد إختلف هذا النمط من المناخ عند بدء الإتصال الأفريقي. بل وقبل ذلك بكثير عندما أصبح مناخ مصر صحراوياً، وإن إنقلب بعض الشيء لفترات قصيرة كما سنرى فيما بعد
نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
[email][email protected][/email]