من الجيولوجيا والجغرافيا والتاريخ للحقيقة والتاريخ (10)

بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في المقالات السابقة ان العلوم الجيولوجية والجغرافية والتاريخ، قديمه وحديثه، ثم العلوم الوراثية والاحياء الجزيئية تستطيع ان تغير المفاهيم المقلوبة والتزييف الذي تعرض له تاريخ العالم ، خاصة تاريخ السودان القديم والحديث الذي نعتبره صاحب اقدم وارقى حضارة بشرية قبل وبعد نوح وطوفانه.
ناقشنا في الحلقة السابقة الخطوط العريضة لجيولوجيا وتاريخ النيل ،ونحاول أن نربط ذلك (بتواجد الانسان) بتلك المنطقة في تلك الأزمان اثناء تطور النيل منذ ميلاده حتى نضجه (النيل الحديث). كل تلك الفترات كان (سكان وادي النيل) يقيمون بارض السودان الحالية، ولم يعرف (جغرافيا) حتى ذلك الوقت (ارض) تسمى مصر (هبة النيل)، أو( شعب يسمى بالمصريين !!!!) فهم كانوا يعيشون معنا كسودانيين ومواطنين. في الحلقة السابقة تحدثنا عن الأنيال (جمع نيل) الأولى في مصر (6-7 ملايين سنه). الأن نتحدث عن (ما قبل النيل) ويعرف علميا باسم (البرينيلperinile)، وفي الحلقة التالية النيل الحديث (النيونيلneonile).
في بدء عصر البليستوسين المتوسط (حوالي 800 إلى 700 الف سنة) حدث الحادث العظيم، ووصل إلى مصر ولأول مرة نهر عظيم (من قلب أفريقيا). وقد إستمد هذا النهر معظم مياهه من (المرتفعات الأثيوبية) التي اندفعت عبر (هضبة النوبة) في مجرى امتلأ بالشلالات. وربما نتج هذا الإتصال بسبب الحركات الأرضية التي شكلت المرتفعات الأثيوبية والأخدود العظيم الذي شقها فتسبب في توجيه تصريف مياه هذه المرتفعات ناحية النيل بدلا ً من البحر الأحمر . وفي خلال ذلك الوقت لابد أن وصل إلى (السهل المنبطح بجنوب ووسط السودان) تصريف هذه الأنهار التي جاءتها من المرتفعات الأثيوبية (فأغرقته) وكونت فيه بحيرة هائلة إرتفعت المياه فيها حتى فاضت فوق جوانبها ودخلت في حوض (نهر أومو ).كما إندفعت عبر هضاب النوبة ناحية مصر. وفي هذا الوقت أيضاً أثرت الحركات الأرضية على (بحيرة فكتوريا) فكبر مسطحها نتيجة لإنعكاس تصريف الكثير من فروع الكونجو ووصولها إلى البحيرة، بدلاً من نهر الكونجو. وليس من المستبعد أن مياه بحيرة فكتوريا قد إرتفعت حتى فاضت و إندفعت إلى الشمال إلى منطقة السد، فمصر, فعلى الرغم من أن دراسة التكوين المعدني لرواسب نهر ما قبل النيل تثبت بما لا يدع مجالا ً للشك بأنه كان متصلا ً بالمرتفعات الأثيوبية فإن هذه الدراسة لا تنفي إمكان إتصال هذا النهر بهضبة البحيرات أيضاً.
كان نهر النيل أول نهر يؤسس إتصالا بأفريقيا. وكان هذا النهر قوياً ونشطاً حمل كميات هائلة من الماء و إستمر على مدى حوالي 400 الف سنة. وقد حمل هذا النهر كمية هائلة من الرمال التي ترسبت على جانبية وفي سهله الفيضي وفي دلتاه، اللذين كانا أكبر بكثير من نظيريهما الحديثين. ورواسب هذا النهر خشنة تكونت عاماً بعد آخر حتى كونت رواسب سميكة وفي الجزء الأعلى والأحدث من هذه الرواسب توجد طبقات من الرمال التي حملتها الرياح, مما يشير إلى أن النهر ربما عاصر في (آخر عمره فترة جفاف شديدة). وتظهر رواسب ما قبل النيل على جانبي الوادي في تلال ومصاطب تشكل جزءاً أساسياً من لاندسكيب وادي النيل الحديث، والكثير منها يستخدم لإستخراج رمال البناء في مدن الوادي وأطراف الدلتا. كما تبرز (رمال ما قبل النيل) وسط مسطحات الدلتا الواسعة على شكل تلال رملية متفرقة تعرف بإسم (ظهور السلحفاة). وقد لعبت هذه دوراً هاماً في تاريخ (إستيطان مستنقعات الدلتا) في عصور ما قلب التاريخ, فقد كانت مرتفعة عما حوله من مستنقعات.
وتوجد (رمال ما قبل النيل) مدفونة تحت سطح أرض مصر الزراعية في كل مكان. وقد تم إختراقها في كل بئر حفرت في الوادي أو الدلتا وهي لمساميتها تشكل الطبقة الأساسية الحاملة للمياه الجوفية في أرجاء المعمور في مصر وفيها يقع خزان المياه الجوفية (الأساسي) تحت الدلتا وفي وادي النيل.
ويبلغ متوسط سمك (رواسب) ما قبل النيل 70 م في وادي النيل، وما بين 300 إلى 400 م في الدلتا. ويصل السمك في بعض الأماكن إلى 250 م في الوادي وأكثر من 1000 م في الدلتا. ويقع أقصى سمك لرواسب ما قبل النيل في الآبار المحفورة غرب الوادي في الجزء الأوسط من نيل مصر عند (محافظة المنيا)، حيث يبدو أن النهر في ذلك التاريخ كان (يجري إلى الغرب من بحر يوسف). وقد كان مجرى نهر ما قبل النيل كان ينساب على طول الحد الغربي للوادي. أما في (الدلتا) فإن أسمك الرواسب تقع في الآبار المحفورة في الشرق والشمال الشرقي، ويبدو أن (مصبات) نهر ما قبل النيل الأساسية كانت إلى ناحية (الشرق).
وإمتدت دلتا ما قبل النيل في البحر الأبيض المتوسط حتى بلغت مساحتها ثلاثة أمثال مساحة الدلتا الحالية. وقد سجلت بعثة مشروع الحفر الآلي العميق في شرق البحر الأبيض المتوسط رواسب رملية يعتقد أنها رواسب نهر ما قبل النيل في آبار دقت (بداخل البحر الأبيض) على بعد أكثر من 150 كم إلى الشمال الشرقي من دمياط. ويبدو أن إتساع الرواسب وسمكها أن نهر ما قبل النيل كان نهراً (هادراً وقوياً). كان يحمل إلى البحر ما يقدر بحوالي 200 مليون م مكعب في العام طوال 300 إلى 400 الف سنة هي مدة وجود هذا النهر. وتمثل هذه الكمية حوالي (ضعف الكمية) التي يحملها النيل في الوقت الحالي. وتشير ضخامة حجم الرواسب التي كان يحملها نهر ما قبل النيل إلى قدرة هذا النهر القديم ذي السرعة العالية على حفر مجراه في مرتفعات أثيوبيا وهضبة النوبة المغطاة بالصخور الرملية والتي ربما كان تشكل مصدراً لجزء كبير من الرمال التي كان يرسبها هذا النهر بمصر. ولم يترك النهر لذلك أية رواسب في أثيوبيا أو النوبة. فقد كان يعمق مجراه فيهما. أما في مصر فقد كانت هذه الرمال تترسب طبقة فوق طبقة حتى شكلت هذا السمك الكبير (هبة النيل!!!). وليس هناك من تفسير لهذا السمك الكبير إلا أن نفترض أن النهر قد عاصر زماناً كان منسوب البحر المتوسط فيه في إرتفاع مستمر مما يدفع النهر إلى ترسيب حمولته. وقد عرف مثل هذا الزمان في شرق البحر الأبيض المتوسط فيما بين الفترة التي إمتدت بين (مليون ونصف المليون سنة) قبل الآن. فقد كانت هذه الفترة فترة إرتفع فيها منسوب البحر بإستمرار على الرغم من أن عصرين جليدين (هما الجونز والمندل) قد تخللاهما.
ومن المعروف أن عصور إنتشار الجليد تؤثر في منسوب البحر فتخفضه ذلك لأن الثلاجات تحتفظ بجزء من بخار الماء الذي يتجمد في صورة جليد يبقى على الأرض بدلا من أن يعود إلى البحر. وليس هناك من دليل حتى الآن على أن منسوب شرق البحر الأبيض المتوسط قد تأثر بهدين العصرين . فربما كان البحر منفصلا ً عن المحيط العالمي باغلاق بوغاز مسينا.
ومن الصعب تحديد المدة التي إستمر فيها نهر ما قبل النيل. فرواسبه لا تحمل أية مواد يمكن إستخدامها في تحديد عمرها المطلق بإستخدام الطرق الاشعاعية. كما أن أنواع الحياة التي عاشت وقت تكوين رواسبه وحفظت فيها قليلة ومعمرة عاشت على مدى أزمان طويلة, مما لا يساعد على تحديد عمر الرواسب التي تحملها، وإن كانت مفيدة في معرفة مصدرها، فجميعها ذات مصادر أفريقية، مما يؤكد إتصال نهر ما قبل النيل بأفريقيا.
وتقع رواسب ما قبل النيل تحت طبقة من رواسب الوديان تحمل أدوات حجرية (لإنسان) العصر الحجري القديم المبكر (البالوليثي). والعصر الحجري القديم المبكر عصر له إمتداد طويل في أفريقيا بين (مليون ومائتي ألف سنة) قبل الآن. والأدوات الموجودة بمصر هي من النوع المتطور الذي يعتقد أنها ذات عمر يترواح بين ال350- 400 الف سنة قبل الآن. ولما كانت آخر رواسب ما قبل النيل تقع تحت هذه الرواسب الحاملة لأدوات العصر الحجري القديم المبكر فلابد أنها أقدم منها، وليس من البعيد لذلك أن ما (قبل النيل) قد توقف عن الجريان منذ 400 إلى 450 الف سنة. تقول (ام الدنيا) أن حضارتها ترجع الى 7 الف سنة!!!! الحلقة القادمة ان شاء الله عن النيل الحديث.
نبيل حامد حسن بشير
جامعة الجزيرة
9/5/2018م
[email][email protected][/email]
واصل يابروف الكثير منا متابعين محاضراتك القيمة هذه.
دمت بخير،،،
واصل يابروف الكثير منا متابعين محاضراتك القيمة هذه.
دمت بخير،،،