معراج سيدي الرئيس: التقراوي العظيم (5/5)

(حكاوي عن الديكتاتورية وفساد الطغمة)..
في ذلك اليوم اختفت موسيقى كورساكوف.. وضج المكان بموسيقى التقراى وايقاعها المتقافز كما امر العمدة شيخ خريف سابقا احتفاءا بيوم (خليفة سبسبة).. مع ظهور نجيمات الفجر بحث خليفة بعشوم عن صفارته العسكرية التى كان يستخدمها (التقراوي العظيم) لجمع جيوشه في طابور الصباح.. خامرته بعض الاحداث التى لبدت في تجاويف الارشيف.. في ذلك الوقت ظهر لاول مرة في البلدة (صقر الاوفامبو) الذي اتى من المرتفعات الحبشية.. في ذلك الوقت ايضا جاء رئيس البلاد مع (التقراوي العظيم) لافتتاح الطريق الرابط بين الدولتين.. كانت موسيقى كورساكوف تصدح وتملا الارجاء طربا وسعادة.. رغب العمدة شيخ خريف بلفت نظر السيد الرئيس وهو يعبر حقول المزارعين الممتدة على طول الطريق.. جمع المزارعين وقال لهم ان خيالات المآتة هذه السنة سترتدي ملابس عسكرية براقة من اجل حراسة أفضل للبلدات والحقول حتى لا تنفذ اليها الطيور التى تفتك بمحصولهم.. وأوضح لهم أن الطيور بغريزتها ادركت ان لبس الجلباب والعمامة الزي التقليدي لخيال المآتة ما هو الا صنيعة وَهْم كذوب.. والطيور صارت لا تجفل من الوَهم الكذوب.. الطيور تخشى العساكر لأنهم اصحاب هيبة وجسارة ولا يتورعون في القتل حتى لو كان السبب تافها.. لذا امر كافة المزارعين بجعل جميع خيالات الماتة ترتدي الازياء العسكرية البراقة مثل السيد الرئيس تماما.. وان يضعوا عودا على الاسبيلطة مخافة ان يجفل الصقر المتمرد من عليها..
بعدما غير المزارعون ازياء خيالات الماتة الى الازياء العسكرية البراقة لاحظوا بعدما هبطوا الى حقولهم ان حكام البلاد تكاثروا وتناسلوا واضحوا مثل قوم ياجوج وماجوج.. كانوا-أي المزارعون- يبحثون عن ذي القرنين ليجعل بينهم وبين السيد الرئيس واشباهه سدا وردما..
ارتدى خليفة بعشوم ذات الملابس العسكرية التى يرتديها (التقراوي العظيم).. قميص عسكرى باهت.. اسبليطة مجردة خاوية عن النجوم.. رداء فضفاض يصل حد الركبة.. حزام عسكري كبير يضيق الخناق على الخصر.. حذاء جلد عتيق ومتين تعلوه جوارب سوداء.. طاقية على الراس وعلى حوافها غرس ريشة كبيرة تاكيدا على رسوخ لقب (تتانكا لوتاك) الذي اُطلقْ عليه وهو في (موية الخضرة) باقليم تقراي..
اطلق خليفة بعشوم من بيته ثلاثة صفارات عسكرية من الصفارة التي اهداها له (التقراي العظيم) وخرج.. ترك السائح العربي والرجل الملثم نياما.. كانا مرهقين من ليلة البارحة.. رآهما في ليلة حولية العارف بالله الشيخ ود الارباب.. ظلا يجولان في حلبة الذكر بعنفوان صوفي مجذوب.. شردت أبدانهما مع عبق المديح النبوي.. فكانا جسدين يطوفان مع وقع دقات طبول النوبة.. اما روحهما فانعتقتا الى برزح خاشع مجلو من الصدأ والادران.. مهجتاهما ذهبتا الى السماء تهفوان الى الله في محبة وخشوع..
لاحظ خليفة بعشوم وجود شخص ثالث نائم على (العنقريب) كان يغطي جسده كله ببطانية خشنة من الصوف تشبه الى حد كبير بطانيات الجيش.. لم يظهر من جسده الا كفه اليسرى.. ظنه السنوسي جبر الدار الذي يلبس ساعة من طراز عتيق.. وعادة ما يأتي في الليالي الحالكة دون سابق موعد..
بعدما صلى خليفة بعشوم الصبح في المسجد توجه شمالا قاصدا بلدة المتمة.. مشي بخطى عسكرية ثابتة وجهه مرفوع الى عنان السماء كأنه يبحث عن الهدهد الغائب.. هدهد النبي سليمان.. لاحظ كالعادة مع قسمات الفجر ان عددا كبيرا من الغبش مصطفين على جانبي الطريق.. بعضهم يصيح عليه ملوحين وفرحين وبعضهم تعلو الغبطة وجوهم.. شاهد ابوجاكوما العسكرى الضخم المكلف بحراسة (اللوري) السفري.. لكنه هرب مع بداية هجوم خور براميل.. الهجوم الذي قاده نوقوسي كمانت.. هرب الى اعلى قمة جبل العين جلس تحت شجرة جميزة ضخمة يراقب الموقف عن كثب.. فيما بعد عرفت شجرة الجميز هذه باسم (شجرة ابو جاكوما) .. نظر خليفة بعشوم ناحية سحب الماماتوس الرهيبة التى تتجمع ثم تنزوي في اليوم الواحدة عدة مراة.. كان الاهالي يقولون ان الارواح الغاضبة لضحايا حرب الانجليز والطليان هي التى تشكلها وتبعثرها.. الاهالي يقولون ايضا ان هذه الارواح الغاضبة تكف عن عاداتها السمجة الا وهي نقل الاسرار بين البلدتين لمدة اسبوع كامل ابتداء من يوم حولية العارف بالله والايام التى تليها..
في طريقة الى الكوبري الفاصل بين بلاد الغبش وبلاد الحبش.. وجد جلال بوش واقفا.. كان يبلس عباءة مطرزة الحواف عليها بعض الدانتيل الصغير.. وعلى راسه عمامة صغيرة تشبة الى حد كبير عمامات جبرتة (اقليم ولو).. ينتعل مركوب جلد نمر صنع في (فاشر فرلي) .. ظل ممسكا بعصا مصنوعة من الابنوس الممزوج بالعاج وقرن الخرتيت وموشحة ببعض النحاس المصنوع في استايتا عاصمة عفار..
كان خليفة بعشوم يشعر بالقوة والاقدام.. يحس انه يستطيع فعل ما عجز عنه ملك قبيلة الداجو (كسفروك).. يحس انه يتسطيع تحريك جبل دولار من مكانه الى جبال النوبة في الغرب الاوسط.. وانه سيدمر غزال التيتل لو قدمته زوجته له.. حتى لا يكون مضرب مثل في التهور يتداول من جيل لجيل ..
التقى جلال بوش قبل ان يدخل الى الكوبر الفاصل بين الدولتين .. كان حوار يتكرر كل سنة في ذات الوقت وبذات الصيغة..
قال جلال بوش وهو يعيد ترتيب العمامة: ألم ينتفض قلبك بعد كديك مذبوخ ..
اجاب خليفة بعشوم كالعادة: لم يحن الوقت بعد.. لما يحن الوقت سوف احمل السلاح كما فعل (التقراوي العظيم).. عندها لن يكون بيني وبين السيد الرئيس سوى الطلقات والحريق..
تنحنح جلال بوش ثم قال: عندما يحن الوقت يجب ان تبلغني ساكون جوارك..
– انت رجل شجاع.. لحظة انتفاضة قلبي سأبلغك ستكون رفيقنا في رحلة اعادة الحرية..
– احرص الا يكشف فرد المخابرات سرك..
– لا تنس ان هذه الايام الارواح الغاضبة لضحايا حرب الانجليز والطليان لا تفش الاسرار.. ان بركة سيدي الشيخ ود الارباب تعمنا فترة اسبوع كامل..
جاءهما صوت من بعيد: اتتحداث عني.. كل ما قلتماه عني سأجده مكتوبا على ارداف زوجة مثثلا قبر برهان.. كان ذلك الصوت هو صوت فرد المخابرات.. ثم مضى عابرا الكوبرى دون ان يلقي عليهما التحية متوجها الى قبر المك نمر حيث مكان (تجمع خليفة) او(خليفة سبسبة) كما ينطقها الاحباش..
[email][email protected][/email]